“غغغ……”
“أنقذني، أرجوك……”
“أحدهم، أحدهم ليساعدني……”
وسط الأنين المتقطع والصراخ، وضعت سيلفيا يديها على أذنيها وانكمشت بجسدها.
كان هذا هو السجن السري تحت الأرض لعائلة أستيان.
و داخل الزنزانات الحديدية، التي كان من المفترض أن تكون فارغة، تكدس أكثر من عشرة أشخاص هزيلين ومتآكلين.
كانوا جميعًا بعيون غائرةٍ ووجوه شاحبة، أشبه تمامًا بمدمني المخدرات.
في الواقع، كانوا ممن تعاطوا “الحبة الزرقاء” لفتراتٍ طويلة، مما جعلهم يعانون من آثارها الجانبية الشديدة.
تتمثل الآثار الجانبية للحبة الزرقاء، التي لا تُظهر سوى أوهام جميلة، في العجز عن التكيف مع قسوة الواقع بمجرد زوال مفعولها.
ليس ذلك فحسب، بل إن أتعس وأشد الذكريات ألمًا تتضاعف وتسيطر على عقولهم بالكامل.
“أقصى درجات العذاب، الألم، التعاسة……كل هذا سيقوي قوتكِ. هل تفهمين، سيلفيا؟”
لا تزال ملامح الملكة، التي كانت تهمس بهذه الكلمات بينما تدير ظهرها للمساجين، محفورةٌ بوضوح في ذهنها.
منذ ذلك الحين، أصبحت سيلفيا تُلقى في هذا المكان بشكل متكرر، كل ذلك من أجل تقوية القوة الكامنة بداخلها، قوة أهوبيف.
كان ذلك بحقٍّ وقتًا لا يختلف عن الجحيم. قذرٌ، كريهُ الرائحة، صاخبٌ.
أحيانًا، حينما كانت تراقب تلك الحشرات البائسة التي تتخبط مستجدية النجاة، كان يخالجها شعورٌ لطيفٌ وكأنها شخصٌ عظيم.
‘لكن لكل شيء حدٌّ!’
الاستماعُ إلى صرخات الاستغاثة طيلة اليوم كان يمزق أذنيها ويشعل غضبها لدرجة لا تُطاق.
“اصمتوا، اصمتوا، قلتُ اصمتوا!”
صرخت سيلفيا بهستيرية وهي تسدّ أذنيها، ثم التقطت حجرًا صغيرًا عند قدميها وعيناها تتوهجان بوحشية.
ووش-، طاخ!
انطلق الحجر الذي رمتْهُ مباشرةً ليصيب رأس رجلٍ نحيلٍ خلف القضبان.
“غغك……”
أطلق الرجل أنينًا خافتًا وانهار أرضًا. ثم بدأ الدم يتدفق من رأسه، لكن سيلفيا لم تُعر الأمر أدنى اهتمام.
‘الآن، صار هناك صوتٌ أقل.’
فكرت بذلك ببرود، مكتفيةً بإسناد رأسها إلى جدار الزنزانة. لكن سرعان ما التوى وجهها بغضبٍ شرس.
‘كل هذا بسبب تلك الحقيرة.’
القديسة اللعينة.
‘تلك المرأة!’
تمّ الزجُّ بسيلفيا في هذا المكان ليلة البارحة.
“لقد فشلْتِ مجددًا.”
“……ماذا؟”
“لو نجحَت خطّتُكِ، لكان هيلديون قد خرج عن السيطرة الآن، أليس كذلك؟ بل في الأساس، كان يجب أن يجنّ جنونه في الحفل، أليس كذلك؟”
لم تستطع سيلفيا الردَّ على كلام الكونت أستيان.
لأنّه كان مُحقًّا تمامًا.
في يوم الحفل، كان من المفترض أن يفقد هيلديون السيطرة على نفسه وفقًا للخطة.
كان من المفترض أن يجنّ جنون هيلديون، محوّلًا قاعة الحفل إلى فوضى عارمة، فيتحدّث الجميع عن “الصورة المروّعة لولي العهد”.
وبعد أن تنتشر الشائعات ويتزايد حجمها، كانت تخطط لتسريب خبرٍ مفاده أن “هيلديون قد أصيب بلعنة مشؤومة”.
في إمبراطورية كايروس، التي تُقدّس لوكيرا، يُعدّ ولي عهدٍ مُصابٌ بـ لعنة أهوبيف وصمةَ عار لا تُغتفر.
بل قد يُصبح مصدر خوفٍ، بل وحتى نذير شؤمٍ يُنذر بسقوط الإمبراطورية.
‘لكن، كي تترسّخ لعنة هيلديون في الأذهان، لا بدّ من ‘حادثةٍ حقيقية’.’
فمن دون حدثٍ واضح، لن تكون أكثر من مجرد إشاعةٍ تافهة سرعان ما تُنسى.
‘لهذا كنتُ أعلّق آمالًا كبيرة على فقدانه للسيطرة هذه المرة.’
“لقد فشلتِ. فشلًا ذريعًا.”
لم يخرج هيلديون عن السيطرة. لا في يوم الحفل، ولا بعده.
حاولت سيلفيا بذل جهدها بأن تبدو هادئة وتتدارك الأمر، لكن ذلك كان مستحيلًا. فبمجرد أن أيقنت الملكة بفشل الخطة، فبدأت هي و الكونت بخنقها بكلامتهم دون تردد.
ولم تكن الملكة الوحيدة التي اندفعت لخنقها. فقدجلس الدوق كيليان قبالة الكونت، وهزّ رأسه بعدم رضا.
“لا أفهم ما الذي يجري هنا. كل ما تفعلينه ينتهي بنتائج مخيبة للآمال……”
ارتجفت سيلفيا تحت نظراته الحادة التي تلمع كعيون الأفاعي، وسارعت إلى التبرير.
“فشلُ الخطة كان بسبب القديسة! لم يكن خطئي أنا!”
“أوه؟ إذاً كل شيء بسبب القديسة؟”
“نعم! في يوم الحفل، كانت لعنة ولي العهد على وشك الانفجار، أنا واثقةٌ من ذلك! لكن……”
نعم. ذلك اليوم، كان من المؤكد أن هيلديون قد وصل إلى حافة فقدان السيطرة. فبصفتها الشخص الذي ألقى اللعنة، استطاعت سيلفيا أن تشعر بذلك بوضوح.
‘نجحت! أخيرًا نجحت!’
شعرت بفرحة النصر، وكأنها ترى نهاية معاناتها الطويلة تلوح أمامها. لكن ذلك الشعور تلاشى في لحظة، تمامًا كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس.
‘……ما هذا؟’
كانت تلك الطاقة العنيفة، التي كادت تخرج عن السيطرة، قد تلاشت فجأة كما تنطفئ شمعةٌ بفعل هبة ريح.
وقبل أن يتسنّى لها حتى البحث عن السبب، وقعت عيناها على فتاةٍ تقفز من العدم وتركض مذعورة عبر الساحة.
“لماذا هي هناك……؟”
تملكها الشك بشأن ظهورها هناك، لكن بعد لحظات……خرج هيلديون من نفس الاتجاه. و كانت خطواته الواثقة تحمل في طياتها سعادةً غامضة وفرحًا خفيًا.
وفي تلك اللحظة، أدركت سيلفيا الحقيقة. الشخص الذي أوقف جنون هيلديون……كان رويلا.
“همم……إذاً، لقد تمكنت القديسة من تهدئة ولي العهد مجددًا؟”
“نعم! لو لم تكن تلك المرأة هناك، لكنت تمكنت من دفعه إلى فقدان السيطرة بكل سهولة—”
“يكفي من الأعذار.”
قطع الكونت حديثها بابتسامة باردة، مظلمة……تشبه تمامًا ابتسامة الملكة.
أمام نظراته المخيفة، عجزت سيلفيا عن النطق. لكنّه تحدث إليها بنبرةٍ خفيفة، كأنما يسرد حقيقةً بديهية.
“بمعنى آخر……قوة القديسة تفوق قوتكِ.”
“……ماذا؟”
“لو كانت قوتكِ أقوى، لما تمكنت القديسة من إيقاف فقدانه للسيطرة، أليس كذلك؟”
ومع قوله ذلك، جذبها الكونت بحركةٍ مألوفة……و أخذها نحو الزنزانة مجددًا.
“بعد قضاء بضعة أيام هنا، ستزداد قوة أهوبيف داخلكِ. أو ربما……ستستعيدين صوابكِ أخيرًا. أليس كذلك؟”
في كلماته الأخيرة، كان هناك ازدراء واضح تجاهها.
لا يزالون يظنون أن المشكلة ليست في أن رويلا قوية، بل في أن سيلفيا لم تحسن التصرف.
‘إنهم أغبياء……لا يفهمون شيئًا!’
لكن، لم تُمنح فرصةً لتبرير نفسها، إذ أُغلق الباب أمامها.
وهكذا، في الوقت الحاضر……بينما كانت تدير ظهرها للصراخ المنبعث من الزنزانة، راحت سيلفيا تعض أظافرها بانفعال.
‘جميعهم حمقى بلا استثناء. لا يفكرون حتى في الاستماع إليّ. وهم يعلمون جيدًا أنهم لا يستطيعون فعل شيء بدوني، هؤلاء الأوغاد الحقيرون.’
لكن أكثر ما كان يثير غيظها……
‘رويلا.’
القديسة التي تقف دائمًا عقبةً في طريقها.
اشتعلت عينا سيلفيا بمزيجٍ من الاحتقار والمهانة، و مشاعر مريرة من الإحباط والغضب.
‘لم تكن شيئًا مميزًا! لم تكن سوى امرأةٍ بائسة! فلماذا……؟!’
في الواقع، كانت سيلفيا دائمًا تشعر بالشفقة تجاه رويلا وتستمتع بشعور التفوق عليها.
فقد كانت رويلا، تلك المرأة الحمقاء التي كانت تُسحب من قبل ديموس مثل الدمية، مجرد امرأةٍ ضعيفة لا حول لها، حتى قبل بضعة أشهر فقط.
أما سيلفيا، فقد كانت تملك نقطة ضعفٍ واحدة فقط هي أختها، بينما كانت رويلا، التي وقعت في حب ديموس، تُسحب مثل الخيط من قبل عاطفتها، وكان هذا يُثير سخرية سيلفيا ويملؤها بالشفقة.
القديسة البائسة، الغبية، و المسكينة.
‘أنا أفضل منها، بالتأكيد.’
كانت رويلا بالنسبة لسيلفيا كائنًا غير مميز، وكانت تشعر بأنها الوحيدة التي تتمتع بشعور التفوق الحقيقي.
وكان ذلك منطقيًا، لأنها كانت ستنهار في النهاية بين يديها، أليس كذلك؟
وكانت ستسقط تحت عار “القديسة المزيفة”.
نعم، كانت سيلفيا على يقين تام من ذلك. لكن الآن، كانت رويلا مختلفة تمامًا.
لم تكن تلك المرأة الضعيفة التي كان يمكنها أن تحكُم عليها، بل كانت القديسة الحقيقية التي كانت تعيق كل خطوة من خطوات سيلفيا.
بل وأكثر من ذلك، أصبح لها سمعةٌ جيدة بين الناس، وكل ما تفعله ينجح ويُعترف بقدراتها. و قوتها المقدسة تفوق قدرة سيلفيا بكثير.
لقد أصبحت رويلا الآن شخصًا لا يمكن الشعور بالشفقة تجاهه بعد الآن.
إذاً، من هو الشخص الذي يستحق الشفقة الآن؟ الجواب كان واضحًا.
فكرت سيلفيا بهذا، وقامت بقضم فمها بقوة، حيث تدفق الدم الأحمر من بين شفتيها ليقطر ببطء.
كما لو كان ذلك هو تعبير عن كراهيتها المتأججة.
“يجب أن أعيدها إلى مكانها.”
إلى أسفل قدميّ من جديد.
لتكون في وضع يمكنها من التحكم بمصير رويلا، لتختفي بطريقة تليق بها، حاملة معها عار “القديسة المزيفة”، وتختفي في البؤس.
“……لا بد لي من إعادتها، مهما كان.”
امتلأ قلبها بشعورٍ من الغضب الأسود، وفي تلك اللحظة،
“أنتِ تفكرين في شيءٍ جيد.”
تسلل إلى عقلها صدى غريب ومخيف.
“إذاً، هل تريدين أن أخبركِ بالحقيقة؟”
***
آه، رأسي.
أمسكتُ برأسي الذي كان يصرّ، وفتحت عيني ببطء. وعندما نظرت الى ما حولي،
“ما هذا……؟”
لم أستطع قول كلمة واحدة من شدة الصدمة.
كان العالم كله أحمر. كان المنظر وكأن نيرانًا هائلة قد ابتلعت العالم بأسره.
وكانت النيران تتصاعد من مكان قريب مني.
كان الآمر وكأنني أعيش في بحر من النار.
في ذلك المشهد الرهيب الذي جعل عقلي يكاد يذهب، لم يكن هناك سوى فكرة واحدة تدور في ذهني.
‘هل……هل الدوق بخير؟’
هل هو آمن؟
_________________________
رويلا خايفه على ابوها😔🫂
الظاهر راون رجع الأكاديميه عشان كذا ماطرته؟ ولا شلون تنسى ولدي!
سيلفيا زفت يع ذي شقومها وش جنون العظمه ذاه
والي تكلم في راسها من؟ لايكون أهوبيف ذاه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 123"
شكراً