كان أول ما خطر ببال كلايسي عند رؤيته هو أن كيشين بدا وكأنه يشع وهجًا.
شعره الأحمر كان يضيء فوق بدلته البيضاء بشكل أقوى من المعتاد، مما جعل ملامحه الجميلة والبارزة تبدو أكثر بروزًا وجاذبية.
كيشين، الذي وقف هناك في المعبد، ذكّر كلايسي بالملاك الموجود في الصفحات الأولى من الكتاب المقدس.
اختفى توترها في لحظة، وكادت تبكي من فرط التأثر، هل يعقل أن تكون هذه مكافأة لها على كل ما عانته في تربية ابنة اختها رغم مضايقات ميرين المستمرة؟.
كيشين، واقفًا أمامها في ذلك المكان المقدس، بدا وكأنه هدية من السماء، هل يمكن أن يكون الرب قد أعارها ملاكًا ليومها هذا؟.
“لا تبكي.”
عندما امتلأت عينا كلايسي بالدموع، أسرعت السيدة إيفجيه بلمس زاويتي عينيها برفق بمنديل.
ضحكت كلايسي بحرج، لكن فجأة، تحرك كيشين بسرعة وأدار جسده بعيدًا، مما جعلها تشعر بالدهشة.
‘لماذا لا يريد النظر إلي؟، هل تلف مكياجي؟’
أدركت بسرعة أن هذا لم يكن السبب.
“يا إلهي!، أخيرًا رأيت السيد الشاب يشعر بالخجل!، أستطيع الآن أن أموت بسلام!”
صاح كبير خدم عائلة غوسفيل بحماسة، مما جعل الجميع يضحك.
لاحظت كلايسي أن أذني كيشين أصبحتا حمراء، تمامًا مثل شخص يقف في برد قارس على قمة جبل ثلجي.
عندما أدركت ذلك، تلاشت دموعها فجأة، وبدأت تشعر بحرارة تتصاعد من عنقها حتى وجهها.
حين اقترب الكاهنان – الشاب والشابة – وهما يحملان باقتي زهور، اضطرت كلايسي إلى إبعاد نظرها عن كيشين.
قدمت الكاهنة باقة لكلايسي، بينما قدم الكاهن الأخرى لكيشين.
“تقدّما!”
عندما أعلن الكاهن المسؤول بصوت جهوري، بدأ صوت ناعم للقيثارة يتردد في أرجاء المعبد.
أمسكت كلايسي وكيشين بباقة الزهور الخاصة بهما وسارا بخطى متناسقة على الممر الأبيض المفروش بين مقاعد المصلين.
الكاهن الكبير الذي تولى مراسم الزواج بدا وكأنه يعرف كيشين جيدًا، على الرغم من أنه لم يكن على دراية تامة بكلايسي التي لم يمضِ وقت طويل منذ انتقالها إلى هذا المكان، كان من الواضح أن الكاهن يحمل معرفة عميقة بكيشين، إذ تبسم تجاهه بابتسامة ذات معنى أثناء أداء الطقوس.
عندما تقدم كلايسي وكيشين حتى وقفا أمام الكاهن، قام الكاهن المساعد ومعه الكاهنة بتوجيه العروسين ليقفا وجهًا لوجه.
بمجرد أن التقت نظراتهما، شعرت كلايسي بفيض من المشاعر يغمرها، وظهرت على وجهها ابتسامة عفوية، وفي اللحظة ذاتها، لاحظت أن كيشين أيضًا يبتسم، رغم أن أذنيه كانتا لا تزالان متوردتين من الخجل، كانت تلك الابتسامة أكثر وضوحًا وإشراقًا مما اعتادت رؤيته منه.
ما إن ظهرت ابتسامته، حتى ساد بين الضيوف همهمة مفاجئة.
“نائب القائد يبتسم…”
تردد صوت أحد الحراس بصوت منخفض، مما أثار ضحكات مكتومة بين الحضور.
عندما ألقت كلايسي نظرة باتجاه مصدر الصوت، رأت الحراس ينظرون باتجاههم بذهول، وكأن فكوكهم تكاد تسقط من الصدمة.
في هذه الأثناء، بدأ الكاهن الكبير بإلقاء خطاب طويل عن الزواج والحياة المشتركة وأهمية الأسرة، وخلال كل هذا الوقت، لم تستطع كلايسي أن تُبعد عينيها عن عيني كيشين، وكان هو الآخر يفعل الشيء ذاته.
عندما أنهى الكاهن خطابه، طرح السؤال التقليدي:
“كيشين هايد، هل ستلتزم باحترام ورعاية كلايسي كالاش مدى حياتك؟، هل تقبل ان تكون زوجتك؟”
“نعم”
ثم التفت إلى كلايسي وسألها.
“كلايسي كالاش، هل ستلتزمين باحترام ورعاية كيشين هايد مدى حياتك، هل تقبلين ان يكون زوجكِ؟”
“نعم.”
تابع الكاهن قائلاً : “إذن، قدما لي باقتي الزهور الخاصة بكما، ستُحفظ هذه الباقات كدليل على هذا اليوم حتى آخر عمركما”
مدّت كلايسي يدها لتجمع باقتها مع باقة كيشين، ثم قدّمتها للكاهن الكبير.
بارك الكاهن الباقات، ثم وضعها في صندوق يحمله أحد الكهنة المساعدين، لتُحفظ كرمز مقدس لزواجهما.
تُحفظ تلك الباقة في صندوق مخصص داخل ضريح خاص بكلايسي وكيشين، حيث تبقى هناك إلى أن ينفصل الزوجان بالطلاق أو بالموت، وفي تلك الحالة، تُستخرج الباقة وتُدفن معهما في مقبرة العائلة، يُقال إن هذا الطقس يجعل الأرواح تنبعث منها رائحة متشابهة، مما يُسهل تعرفها على بعضها في الحياة الأخرى أو في السماء، لتتواصل مجددًا.
***
كانت كلايسي تتمنى قضاء بعض الوقت وحدها مع كيشين بعد الزفاف، لكن الزفاف كان يتبعه مباشرة حفل استقبال ضخم، ومع وجود العديد من الشخصيات البارزة بين الضيوف، لم يكن هناك مجال لهروب هادئ.
باعتبارها إحدى الشخصيات الرئيسية في هذا الحدث، كان على كلايسي أن تستقبل الضيوف وتبادلهم التحية، قضت معظم وقتها بالتنقل من مجموعة إلى أخرى برفقة كيشين، وكأنهما فريق واحد.
خلال الحفل، استمتع الضيوف بالأطعمة الفاخرة التي أعدتها عائلة غوسفيل، وتبادلوا الحديث والضحك، مشيدين بانسجام العروسين.
أخيرًا، سنحت لكلايسي الفرصة للقاء شقيقة كيشين، جانيت، التي لم تتمكن من رؤيتها طوال فترة التحضير للزفاف.
لكن ما أثار دهشة كلايسي أكثر من أي شيء آخر كان زملاء كيشين ومرؤوسوه، تجمع الحراس في حلقة مغلقة، مترقبين بحذر، وعيونهم لا تفارق كيشين وكلايسي، يراقبون كل خطوة بخطوة.
يبدو أن صدمة رؤيتهم لكيشين يبتسم لم تتلاشى بعد، وقد انعكس هذا الأمر بشكل واضح على تصرفاتهم تجاه كلايسي، إذ كانوا ينظرون إليها كما لو أنها شخصية بارزة من مسرح مشهور.
شعرت كلايسي بالحرج من تلك النظرات المستمرة، فسألت كيشين بخفوت.
“ألا تبتسم عادة؟، مرؤوسوك ينظرون إلي وكأني ممثلة مسرح مشهورة.”
أجابها كيشين بابتسامة صغيرة.
“أحاول عادة عدم إظهار مشاعري أثناء العمل، لأن ذلك قد يُؤثر على قراراتي، لكن في حياتي اليومية، بالطبع أبتسم.”
رأت كلايسي أن محاولاته للحفاظ على صورته الجادة كانت لطيفة بطريقتها الخاصة.
همست له بابتسامة.
“لا يهمني ذلك، طالما تبتسم لي وحدي.”
عندها، أرسل كيشين لها ابتسامة صغيرة، تكاد تكون غير مرئية، لكنها رغم ذلك كانت ساحرة.
كلايسي، التي شعرت أن تصرف كيشين لطيف للغاية، لم تستطع منع نفسها من الضحك بصوت عالٍ وهي تتشبث به.
“يبدو أنكما تنسجمان بشكل رائع.”
جاء صوت شخص ما من جانبها، لكن كلايسي لم تتمكن من التوقف عن الضحك على الفور.
“سمو الأميرة ميموا.”
بخلاف كلايسي، سارع كيشين إلى التخلص من ابتسامته الطفيفة وانحنى بتحية مهذبة نحو السيدة التي اقتربت منهما، مع سماعها لقب “الأميرة”، تجمدت ضحكة كلايسي على الفور.
‘إذًا، هذه هي الأميرة ميموا الشهيرة.’
كانت ميموا معروفة جيدًا في العاصمة، فهي من قامت بتزيين ساحة دريبلو التي أصبحت أحد أماكن التنزه المفضلة لدى كلايسي، كما كانت واحدة من الأسباب التي ساهمت في حصول كيشين على لقب دوق في سن صغيرة.
بسبب شهرتها، سارعت كلايسي إلى الانحناء لتحيتها باحترام.
“أقدم تحياتي لسمو الاميرة.”
لكن الأميرة ميموا، بصوت ناعم وودي، منعتها بلطف وهي تدعمها بيدها.
“لا حاجة لذلك اليوم، ارتداء هذا الفستان الثقيل والتحية معًا أمر مرهق.”
حين اعتدلت كلايسي في وقفتها، ابتسمت الأميرة بمودة وأردفت بنبرة مرحة.
“كنت دائمًا أتساءل من ستكون العروس التي ستفوز بقلب دوق هايد المتحجر، لطالما كان يقول إنه لا ينوي الزواج أبدًا، لكن يبدو أنه لم يكن يرفض الزواج بل كان فقط ينتظر جمالًا استثنائيًا مثلكِ.”
على الرغم من دعابة الأميرة، ظل وجه كيشين خاليًا من التعبير.
خشية أن تشعر الأميرة بالإحراج من بروده، ضحكت كلايسي عمدًا بصوت مسموع.
لحسن الحظ، لم تظهر ميموا أي انزعاج، بل بدا أنها معتادة على أسلوب كيشين الجاف، سألت بنبرة فضولية.
“لماذا لا أرى ديرنيك؟”
أجاب كيشين بهدوء.
“أظنه برفقة الآنسة ميرين.”
رفعت الأميرة حاجبها بدهشة خفيفة.
“الآنسة ميرين؟، هذه أول مرة أسمع عنها، من تكون؟”
استمعت كلايسي بحذر إلى حديثهما، ثم تدخلت برفق.
“إنها ابنة أختي، يا صاحبة السمو.”
أجابت الأميرة ميموا بنبرة تفهم.
“يبدو أن ديرنيك يحب الأطفال ربما ذهب للعب معها”
شعرت كلايسي بالخجل ونظرت إلى كيشين، لم تكن مرتاحة لتصحيح سوء الفهم في حضور الأميرة، لذا كانت تأمل أن يتولى
كيشين الأمر، فهو الذي يعرف الأميرة منذ طفولته.
“الآنسة ميرين هي بالغة، سموكِ.”
أجاب كيشين بسرعة، مما جعل كلايسي تشعر بالارتياح، بدا كيشين سريع البديهة حقًا عندما لا يكون لديه أي تحيزات أو سوء فهم.
“بالغة؟”
حدقت الأميرة ميموا في كلايسي بعيون مليئة بالدهشة، ومن ثم اتخذت تعبيرًا شائعًا يراه الناس، عانت كلايسي من هذا الموقف عدة مرات، لذا كانت مستعدة لتوضيح الأمر.
“يوجد فارق خمس سنوات بيننا، جلالتك، أنا اصغر ابنة لوالداي، وأختي الكبرى تزوجت مبكرًا.”
“آه، أفهم، أنا أيضًا بيني وبين عمتي ست سنوات.”
تجمد تعبير الأميرة ميموا للحظة، وشعرت كلايسي بالحرج ولم تعرف كيف تتفاعل، فتظاهرت بابتسامة صغيرة كابتسامة كيشين.
عرفت أن “العمة” التي تتحدث عنها الأميرة هي الأميرة سييج، وأن العلاقة بين الأميرة سييج وميموا كانت معقدة جدًا.
‘التحدث مع أفراد العائلة المالكة ليس بالأمر السهل.’
لم تتحدث كلايسي سوى ببضع كلمات، لكنها شعرت بالإرهاق التام في تلك اللحظات القصيرة، كان الاستيقاظ منذ الفجر والقيام بالتحضيرات قد أرهقها، والاهتمام بكل محادثة يتطلب تركيزًا كبيرًا.
استمر كيشين في التفاعل مع الأميرة، بينما أظهرت الأميرة ميموا سلوكًا ودودًا تجاه كلايسي، لكنها شعرت بتعب شديد.
امسكت كلايسي بمنديلها وبدأت تمسح جبهتها بخفة، لكنها شعرت أن هذا الفعل قد يكون خاطئًا، فجأة، تغيّر تعبير الأميرة الذي كان لطيفًا إلى شيء أكثر جدية.
‘هل من غير المقبول إخراج منديل أمام العائلة المالكة؟، لم أسمع شيئًا عن ذلك!’
شعرت كلايسي بأنها قد ارتكبت خطأ، لذا خفضت يدها بخجل، لكن، تجولت نظرات الأميرة بشكل واضح نحو يدها.
عندما نظرت كلايسي، وجدت أن الأميرة كانت تراقب الخاتم في إصبعها الرابع، ذلك الخاتم الذي اعتبرت ميرين أنه رخيص.
‘هل حقا يبدو رخيصًا لهذه الدرجة لتصدم الأميرة بهذا الشكل؟’
تجمد وجه الأميرة على ما يبدو، مما جعل كلايسي تشعر بأن الأمر لم يكن طبيعيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 57"