على الرغم من أن كلايسي دعت كيشين وحده، إلا أن ثلاثة أشخاص ظهروا على عتبة الباب، خلف كيشين كان يقف ديرنيك وميرين، كأنهما جناحان ممتدان بجانبه.
تجمدت كلايسي في مكانها وهي تفتح الباب، فاعتذر كيشين بنظرة نصف مغمضة:
“أعتذر، يبدو أن ديرنيك وجد عذرًا لمرافقتي باستخدام ميرين كحجة بعد أن علم بزيارتي لرؤية غرفة النوم.”
‘من الواضح أن ميرين هي من أخبرته…’ فكرت كلايسي، لكنها أمسكت بيد كيشين وأومأت بلطف، دلالة على أن الأمر لا يزعجها، ثم من باب المجاملة، ابتسمت في وجه ديرنيك.
ومع ذلك، بدا أن جهودها ذهبت سدى، إذ نظر إليها ديرنيك ببرود ثم أدار رأسه بعيدًا دون أدنى اهتمام، وكأنه ليس ضيفًا في منزل أحد.
أحبط هذا التصرف كلايسي، لكنها أخفت شعورها قدر الإمكان وقالت بلهجة مرحة.
“لا بأس، ديرنيك هو ضيف ميرين، لذا ستتولى هي أمره، أما أنا، فلا داعي للقلق إلا على كيشين.”
ثم قادت كيشين نحو غرفة النوم الرئيسية في الطابق الأول، ممسكة بيده لطمأنته. لاحظت للحظة وجيزة أن تعابير ديرنيك أصبحت أكثر صلابة، لكنها قررت تجاهل ذلك عمدًا.
بعد أيام من الضجيج المستمر بسبب العمال، عمّ الهدوء المنزل أخيرًا بعد مغادرتهم، ومع ذلك، لم يكن المكان مرتبًا بالكامل بعد، إذ لا تزال بعض الغرف تعج بغبار الخشب وبقايا الأتربة.
فتحت كلايسي باب الغرفة الرئيسية على مصراعيه، ودون أن تمنح كيشين فرصة، دفعته بلطف إلى الداخل وسألته بحماس:
“ما رأيك؟”
كانت هذه أول مرة يدخل فيها كيشين الغرفة منذ بدء أعمال الترميم، لم ترد كلايسي أن تكشف له تفاصيل الغرفة قبل ذلك، لأنها كانت تعلم أنه يفضل الألوان الأحادية كالأبيض والأسود.
نظر كيشين حوله بصمت، وأخذت عيناه تجولان بين جدران الغرفة ذات اللون الوردي الفاتح، ارتعشت حواف حاجبيه قليلاً، ما كان دليلاً على انزعاجه المكتوم.
شعرت كلايسي بالتوتر وهي ترقبه، ثم تسللت يدها بخفة لتمسك بذراعه، وسألته مجددًا:
“أخبرني، ما رأيك؟”
جاء الرد، ليس من كيشين، بل من خلفه، حيث انطلقت ضحكة ديرنيك العالية والمبالغ فيها.
“يا إلهي، كيشين!، من كان ليظن أنك ستعيش في غرفة وردية اللون؟، عليّ أن أخبر جنودك عن هذا المشهد الرائع بالتفصيل، سيُسعدهم رؤية جانبك الجديد.”
سرعان ما انضمت ميرين إلى المزاح.
“خالتي تعشق اللون الوردي!، خزائنها كلها تعج بملابس ربيعية طوال السنة.”
رد ديرنيك بابتسامة ساخرة : “يبدو أن ذوق خالتكِ انتقائي للغاية.”
أضافت ميرين ضاحكة : “ليست لديها مهارة في تنسيق الملابس، فقط تعتقد أن أي شيء وردي جميل.”
“إذن، هل ورثتِ ذوقكِ من ماري؟”
“بالطبع، أمي كانت ذات ذوق راقي”
ساد الصمت من جهة كيشين، مما جعل حديث ميرين وديرنيك المزعج يتردد بوضوح في الغرفة.
راقبت كلايسي وجه كيشين بعناية، متسائلة عما إذا كان غاضبًا، بعد فترة من التأمل، تمتم كيشين بهدوء:
“يبدو أن ذوق الآنسة كلايسي منحاز للغاية.”
انفجرت ميرين ضاحكة من الخلف، مما زاد من إحراج كلايسي التي احمرّ وجهها غضبًا، كانت على وشك التحديق فيه بامتعاض، لكن سرعان ما شعرت بالراحة عندما رأته يبتسم وهو ينظر إليها بلطف.
“لا تكره الغرفة تمامًا، أليس كذلك؟” سألت بحذر.
ردّ كيشين ببساطة: “أكرهها.”
“!”
ثم أضاف بابتسامة ناعمة: “لكن بما أن الشخص الذي سيكون فيها شخص احبه، فلا بأس.”
***
حرصت كلايسي على ملازمة كيشين طوال الوقت لتجنب البقاء بمفردها مع ديرنيك، كانت تلاحقه إلى درجة دفعت ميرين إلى الصياح بنفاد صبر.
“خالتي، لن يخطف أحد كيشين من هنا، توقفي عن مطاردته، هذا محرج!”
أضاف ديرنيك بتهكم وهو يتفق مع ميرين.
“يبدو أن خالتكِ تفتقر إلى الاستقلالية.”
لاحظت كلايسي أن ديرنيك بات يغير لقبها في كل مرة يتحدث عنها، بدأ الأمر بـ”الآنسة تاجرة السلاح”، ثم تحوّل إلى “الآنسة كلايسي”، والآن أصبح “خالة ميرين”. في الوقت نفسه، تحوّل لقب ميرين من “ابنة السيدة ماري” إلى “الآنسة ميرين”.
أجابت كلايسي بإصرار: “سأبقى بجانب كيشين… لأنني أحبه.”
مهما قالت ميرين وديرنيك، واصلت كلايسي مرافقة كيشين دون تردد، وبفضل ذلك، مرّ اليوم بهدوء حتى غادر كيشين وديرنيك دون وقوع أي مشاكل.
عندما ابتعدت العربة، تنفست كلايسي الصعداء وألقت بجسدها على عمود الشرفة.
“لماذا عليّ أن أتحمل هذا النوع من الأشخاص؟”
أحست بغصة في قلبها للحظة، لكنها أدركت في النهاية أن التخلي عن خطيب مثالي مثل كيشين بسبب ديرنيك سيكون أمرًا مؤسفًا للغاية.
“ديرنيك؟ كيف يمكن له أن يؤثر في قراراتي؟ إنه مجرد ثرثار ذو مكانة عالية، لا أكثر.”
تمتمت كلايسي لنفسها دون أن تشعر، ثم شعرت بالذنب فسارعت إلى التراجع عن كلامها.
***
منذ اليوم التالي، استؤنفت استعدادات الزفاف بهدوء مرة أخرى.
جرّبت فستان الزفاف بعد أن اكتمل نصفه، ونُقلت ملابس كيشين الشتوية من منزل عائلة الماركيز إلى المنزل الجديد استعدادًا للانتقال.
في منتصف أغسطس، وصل والدا كلايسي، وفي أواخر الشهر، بدأت بقية أفراد عائلة كالاش بالتوافد من مدينة غرينغول، كان من بين القادمين الأقارب المقربون، لكن شقيقتها ريزي لم تحضر بسبب طفلتها الرضيعة، كما لم تحضر زوجة شقيقها فيليب بسبب حملها، في المقابل، جاء شقيقها فيليب بنفسه، بالإضافة إلى زوج شقيقتها الثانية وبعض الأقارب الآخرين.
ولكن المفاجأة الكبرى كانت وجود الماركيز أوميل، زوج شقيقتها الكبرى، ضمن القادمين، ولم تكن تلك المفاجأة الوحيدة، فقد أحضر معه جميع أفراد أسرته.
بينما كانت كلايسي تلقي التحية على القادمين واحدًا تلو الآخر، فوجئت تمامًا عندما رأت أليس تنزل من العربة، للحظة، اختفى التعبير المرح عن وجهها من شدة المفاجأة.
“يبدو أن الزواج جعلكِ أكثر جمالاً، أليس كذلك؟”
ابتسمت أليس بهدوء قبل أن تضمها بين ذراعيها، بالكاد استطاعت كلايسي أن ترسم ابتسامة متكلّفة وهي تقول:
“شكرًا لحضوركِ، سيدتي.”
بينما كانت بين ذراعي أليس، لاحظت كلايسي أطفالها الثلاثة يقفون خلفها كالعصافير، يحدقون فيها بفضول.
فور انتهاء العناق، التفتت كلايسي تبحث عن ميرين، وبدت متأكدة من أن الأخيرة ستكون أكثر دهشة منها، وبالفعل، كان توقعها صحيحًا.
رأت ميرين واقفة عند درجات المدخل، متجمدة في مكانها، تحدق بوجه عابس في أليس وأشقائها الثلاثة، في المقابل، كانت أليس تبتسم برزانة، تنظر إلى ميرين دون أي تعبير سلبي.
ازدادت ملامح ميرين احمرارًا وامتعاضًا، كما لو أن هذا الهدوء المتعمد من أليس كان يستفزها، ومع ذلك، لم تتبادلا التحية، ولم تبادر أي منهما بالكلام.
شعرت كلايسي بالارتباك، وفقًا لقواعد الإتيكيت، كان عليها أن تصطحب ميرين وتقدمها لوالدها وزوجته أليس، لكن إدراكها لحساسية الوضع العائلي جعل الأمر صعبًا عليها.
نظرت حولها طلبًا للمساعدة، لكنها وجدت أن بقية الأقارب تجنّبوا التورط في هذا الموقف، كانوا يتظاهرون بالانشغال بمتعلقاتهم، محاولين قدر الإمكان تفادي النظر إلى المشهد المحرج.
‘هل يجب أن أتدخل في الأمر؟’
أخيرًا، تقدمت كلايسي بخطوات ثقيلة بين أليس وميرين.
“أيها الماركيز، لما جلبت كل هذا؟”
ثم، تحدثت بصوت مفعم بالحيوية إلى الماركبز أوميل، مما جعل أليس تستدير بتعبير محبط، في الخلف، سُمِع صوت عالٍ، كأن ميرين قد ركلت شيئًا ما.
بينما كان الماركيز أوميل، الذي كان واقفًا بين ابنته من زواج سابق وزوجته الجديدة، يبدو عليه الاستحسان عندما أجاب بسرعة:
“إنها هدية الزفاف، لقد عانت أختي كثيرًا في رعاية ميرين، لذا أود أن أعبّر عن امتناني.”
“لكن لماذا جلبت كل هذه الهدايا؟”
“لقد رعت أختي ميرين لمدة عشر سنوات، لا بد من تقديم هدية كبيرة في مثل هذه المناسبة، وإلا فمتى سأرد الجميل؟”
كانت كلايسي تهدف لتحويل الحديث بعيدًا عن الهدايا، لكنها فوجئت عندما رأت أن الهدايا التي أحضرها الماركيز أوميل تكفي لثلاث عربات.
عندما اقتربت من العربة وسحبت القماش الذي يغطي الهدايا، أدركت أن الكمية ليست هي فقط ما يلفت الانتباه، كانت هناك زينة فاخرة وصناديق، ورسومات دقيقة، كلها مرتبة بعناية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك صناديق كبيرة عديدة، وعندما فتحت أحدها، وجدت كميات كبيرة من المال بداخلها.
أسرعت كلايسي بإغلاق الصندوق ونظرت إلى الماركيز أوميل.
في المساء، بعد أن أنهى جميع الأقارب ترتيب الهدايا وكتابة السجلات، كان من الواضح أن هدايا الماركيز أوميل كانت الأكثر عددًا وقيمة.
عندما انتهى الخادم من الحساب وأخبر آنا، تمتمت ببرود:
“يبدو أن الناس معقدون حقًا، هدايا الماركيز أوميل تتجاوز جميع هدايا السيدة ريزي، والسيد فيليب، والسيد والتر مجتمعين.”
“…….”
“ربما يشعر بالذنب تجاه السيدة ماري؟”
***
لم يكن المنزل المستأجر في العاصمة كبيرًا جدًا، وقد شغلت عائلتها والأشقاء الذين وصلوا مبكرًا العديد من الغرف، لذا قرر والدا كلايسي أن يبقيا وحدهما في المنزل بينما يذهب باقي الأفراد إلى فندق.
لكن عندما زارتهم فلورنسا، وعرفت وضعهم، عرضت بسرور غرف الضيوف في منزلها، مما سمح لبقية أفراد العائلة بالبقاء هناك.
مع وصول الضيوف، مرت الأيام بسرعة، حتى جاء يوم الزفاف.
عندما فكرت فلورنسا في الابتعاد عن والديها قبل الزفاف، شعرت بالحزن ولم تستطع النوم.
أما كلايسي، فقد اعتادت على الابتعاد عن وصاية والديها منذ زواج شقيقتها ماري، لذا لم تكن تشعر بالتوتر على الإطلاق.
بالإضافة إلى ذلك، كان من المقرر أن يقيم كيشين هنا لمدة ثلاث أو أربع سنوات، لذا لم يكن هناك شعور كبير بالتغيير في مكان الإقامة.
لكن مع ذلك، لم تستطع كلايسي النوم، فكانت تحتضن غطاء السرير وتحدق في السقف بلا هدف.
بينما كانت تحاول إغماض عينيها، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب، تلاها صوت صغير يناديها.
“خالتي.”
عندما فتحت كلايسي الباب، وجدت ميرين ترتدي بيجامة وتحمل وسادة، بدت عينيها متورمتين وأنفها محمرًا وكأنها كانت تبكي.
“ميرين؟، ما الأمر؟”
استفسرت بدهشة، لكن ميرين لم تجب، بل رمت الوسادة نحو كلايسي، واندفعت نحوها، لتنفجر في البكاء.
التعليقات لهذا الفصل " 55"