من ذلك السؤال، أدركت كلايسي السبب وراء تغير سلوك ديرنيك المفاجئ، بدا واضحًا أنه قد صدق الشائعات التي سمعها عنها في مدينة غرينغول.
لم يقتصر الأمر على ما يتناقله الناس، بل يبدو أن ديرنيك كان يعلم أكثر من ذلك.
لكن كيف عرف؟، حتى أهل مسقط رأسها لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الرجال ذوي الشعر الرمادي و الأشقر.
“إذًا، أنتِ تعرفين شيئًا، أليس كذلك؟”
“…”.
“سواء كنتِ تعرفين أم لا، آنسة كلايسي، حاولي ألا تلتقي بهؤلاء الرجال مجددًا، وإن وجدت أي أثر لهم في محيطكِ، قد أضطر إلى إلقائكِ في السجن.”
ظلت كلايسي تحدق في ديرنيك بنظرات حادة، ولم يكن ديرنيك أقل حدة وهو ينظر مباشرة في عينيها.
“ماذا تفعلان هنا؟”
تلاشى التوتر بينهما عند سماع صوت ميرين.
كانت ميرين تقف عند الباب، ممسكة بمقبضه، وهي تنظر إلى كلايسي وديرنيك بالتناوب.
“لا شيء.”
ألقت كلايسي نظرة أخيرة غاضبة على ديرنيك، ثم عادت إلى داخل غرفة الملابس.
رغم محاولتها الحفاظ على مظهر صارم، كان قلبها ينبض بسرعة وارتباك غير معتاد.
“كلايسي، هل تشعرين بانكِ لستِ بخير؟، هل نعود في وقت لاحق؟”
بدا أن القلق قد ظهر على ملامحها رغم محاولتها إخفاءه، فسألتها الماركيزة غوسفيل بلهفة عندما اقتربت منها.
“لا، لا بأس.”
طمأنتها كلايسي وجلست بجانبها بسرعة.
“إلى أين وصلنا؟”
***
بعد أسبوع، تلقت كلايسي رسالتين.
الأولى كانت تخبرها أن زوجة شقيقها فيليب حامل بطفلهما الثاني وقد أكملت شهرها الثالث.
أما الثانية، فقد تضمنت تحديد موعد زفافها ليكون في الثاني عشر من سبتمبر.
“أخبار سعيدة متتالية!”
هتفت آنا بفرح عند سماعها، وشاركتها كلايسي هذه السعادة بكل صدق هذه المرة.
“حقًا، إنه أمر رائع.”
بما أن الحمل في شهره الثالث، فإن الطفل سيولد في أكتوبر أو نوفمبر، أي بعد زواج كلايسي.
ومع تأمين ميراثها، استطاعت أخيرًا تهنئة عائلتها بمولودهم السابع دون قلق.
في ذلك المساء، كتبت كلايسي رسائل إلى أختها ريزي وأخويها فيليب ووالتر، تخبرهم بموعد الزفاف وتطلب منهم المساعدة.
بسبب وجود والديها في الخارج، كانت عائلة غوسفيل تتولى تقريبًا جميع ترتيبات زفاف كلايسي، لكن ترك الأمر بالكامل لهم كان سيثير بعض الانتقادات، لذلك كان لا بد أن يقوم شخص من عائلة كالاش بدور في تنظيم الزفاف نيابة عن العروس.
احتارت كلايسي بين إرسال رسائلها بشكل عاجل أو عن طريق البريد العادي، لكنها في النهاية اختارت البريد العادي.
فبالرغم من أن الرسائل العاجلة أسرع، إلا أنها مكلفة جدًا، وبما أن الرسائل موجهة إلى ثلاثة أشخاص ومحتواها طويل نسبيًا، كان من الأفضل استخدام البريد رغم استغراقه وقتًا أطول.
وبعد نصف شهر، وصل رد من شقيقها والتر.
كتب والتر أن ريزي لن تستطيع الحضور بسبب انشغالها برعاية طفلتها الصغيرة، وأن فيليب لا يستطيع الحضور لأنه بحاجة إلى البقاء بجانب زوجته التي تمر بمراحل الحمل الأولى، أما هو، فيستطيع القدوم، لكنه لن يتمكن من الحضور فورًا، بل سيبدأ رحلته بعد شهر ليصل في يوليو.
عندما سمعت ميرين الرد، سخرت قائلة :
“خالتي كانت أكثر من ساعد في زواج فيليب وريزي ووالتر، لكن يبدو أن كل ذلك لم يكن له أي قيمة الآن.”
على العكس من ذلك، حاولت آنا التماس العذر لإخوتها.
“لكن الآنسة كلايسي كانت تعيش معهم في ذلك الوقت ولم تكن مشغولة، كان من الطبيعي أن تساعدهم، أما الآن، فالمسافة بين غرينغول والمدينة بعيدة، وكل منهم لديه أسرته ومسؤولياته، والتر سيصل في يوليو ويبقى هنا لشهرين كاملين حتى موعد الزفاف في سبتمبر، وباحتساب وقت السفر ذهابًا وإيابًا، ستضيع منه خمسة أشهر على الأقل.”
لكن ميرين لم تقتنع.
“حسنًا، لنفترض أن والتر معذور، لكن ماذا عن البقية؟”
“ربما لم يتوقعوا أن يكون الزفاف في مكان بعيد كهذا.”
“في النهاية، يتضح أن الجميع استغلوا خالتي كلايسي عندما احتاجوا إليها، لماذا يُطلب من الشخص المتضرر تفهم أعذار الآخرين؟، لو كانوا غير مستعدين للمساعدة، لما كان عليهم طلب مساعدتها في المقام الأول.”
دائمًا ما كانت ميرين تقف في صف كلايسي في مثل هذه الحالات.
رأت كلايسي أن لدى ميرين ترتيبًا دقيقًا للأولويات في ذهنها، وكانت تدعم الآخرين وفق هذا الترتيب، لم تكن كلايسي متأكدة تمامًا من موقعها في هذا الترتيب، لكنها أدركت أنها تحظى بمكانة أعلى من بقية إخوتها.
ومع ذلك، لم تقدم ميرين أي مساعدة فعلية في تحضيرات الزفاف، فقد كانت مشغولة في الآونة الأخيرة بالتسكع مع ديرنيك، إذ كانا يلتقيان تقريبًا يوميًا.
في بعض الأحيان كانت تخبر كلايسي بمكان ذهابها، وفي أحيان أخرى لا تفعل، لكن يبدو أن ديرنيك هو من كان يحدد الأماكن ويصطحبها إليها.
“انظري، خالتي!، السير ديرنيك قدم لي هذه كهدية!”
اتضح أن اللقاء الذي حصل بين ميرين وكلايسي في مشغل إيفجيه كان لأن ديرنيك أخذ ميرين إلى ذلك المحل ليهديها أزياء مصممة خصيصًا لها.
عندما بدأت ميرين تستعرض بفخر عشرة فساتين تم توصيلها من المحل، فهمت كلايسي القصة أخيرًا، كانت كلايسي تمرر يدها على الأقمشة الناعمة بإعجاب.
رمقتها ميرين بنظرة صارمة لتثنيها عن السخرية، لكن لم تستطع إخفاء ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها.
على الرغم من أن ميرين لم تساعد في ترتيبات زفاف كلايسي، إلا أن كلايسي لم تكن مستاءة، منذ البداية، لم تكن تتوقع أي مساعدة من ميرين، بالنسبة لكلايسي، كان مجرد عدم تدخل ميرين بشكل يعطل الأمور أمرًا كافيًا، وكانت تفضل أن تراها مستمتعة بوقتها بدلًا من التورط في التحضيرات.
ومع ذلك، كلما بدأت ميرين تتحدث عن السير ديرنيك بفخر على مائدة الطعام، كانت كلايسي تتذكر نظراته الباردة وكلماته المهددة أمام مشغل إيفجيه، مما يثير في نفسها شعورًا بعدم الارتياح، لكنها لم تجد خيارًا سوى تجاهل الأمر.
***
وصل والتر، الابن الرابع لعائلة الكونت كالاش والشقيق الثاني لكلايسي، في الثالث من يوليو.
عندما فُتحت البوابة الرئيسية ودخلت عدة عربات محملة بالأمتعة، بدا الذعر واضحًا على وجوه الخدم، لم يكن المنزل كبيرًا ولم يسكنه سوى شخصين، لذا لم يكن لدى كلايسي عدد كبير من الخدم. ومع قدوم هذا الكم من الأمتعة، بدا الخدم في حالة ارتباك وهم يحاولون تصور كيفية ترتيبها.
نزل والتر من آخر عربة نقل، وشعره كان مشعثًا كعش الطيور، وكأنه استيقظ للتو من النوم.
“كلايسي!”
سلّم الأمتعة للخادم الذي جاء لاستقباله، ثم اندفع نحو كلايسي وفتح ذراعيه ليعانقها.
“يا إلهي!، عندما سمعنا أنكِ ستتزوجين، انقلبت المدينة رأسًا على عقب!، أليس كذلك؟”
والتر عانق كلايسي بخفة وربت على ظهرها، ثم سرعان ما أضاء وجهه برؤية آنا.
“آنا! كيف حالكِ؟”
هرعت آنا نحوه ودموع الفرح تملأ عينيها.
كان هذا هو السبب الذي منع كلايسي من الإفصاح عن استيائها من أفراد عائلتها أمام آنا، رغم محبتها لها، فقد رأت آنا كل واحد من الأشقاء الخمسة وهم يكبرون، وشهدت زواج أربعة منهم وإنجابهم لأطفالهم، لذلك، كانت كلايسي تعلم أن آنا لا يمكنها أن تضعها دائمًا في المقام الأول.
بعد تبادل التحيات الصاخبة بين والتر وآنا، بدا وكأنه تذكّر كلايسي مجددًا وعاد ليكمل كلامه المقطوع.
“ليست فقط اختي وأخي من يسألان، حتى زوج أختنا الكبرى لا يتوقف عن السؤال حول من ستتزوجين.”
ثم تراجع خطوة أو خطوتين للخلف، وكأنه يفكر في الأمر بجدية، وراح يتأمل كلايسي من رأسها إلى قدميها قبل أن يسأل.
“كلايسي، كيف استطعتِ إغواء الدوق؟”
صرخت آنا بفخر.
“من الطبيعي أن يقع في حبها!، أليست صغيرتنا أروع شخص في العالم؟”
لكن والتر لم يبدو مقتنعًا، فهز رأسه.
“آنا، لقد قلتِ نفس الشيء عن اختي الكبرى واختي التانية أيضًا، لا يمكن الوثوق بكلامكِ.”
ضربته آنا على ذراعه بمزاح، فتصنّع الهرب وهو يضحك.
في هذه الأثناء، كان الخدم الذين جلبهم والتر ينقلون الأمتعة إلى داخل المنزل، فيما كان كبير الخدم يقودهم إلى الغرف التي تم تجهيزها مسبقًا، لكن العمل كان أكبر من أن يُنجز بسهولة، فحتى السائقين والطهاة اضطروا للمساعدة في نقل الحقائب.
بعد أن انتهى والتر من المزاح مع آنا، عاد إلى كلايسي وسأل مرة أخرى، وكأن الأمر شغله حقًا.
“إذن، كيف فعلتِ ذلك يا كلايسي؟، كيف استطعتِ إغواء الدوق؟، فوق ذلك، أليس هو نفسه الدوق الذي أثار ضجة كبيرة قبل بضع سنوات؟، أصغر شخص يحصل على لقب دوق؟”
لم يكن والتر يبالغ حين قال إن الجميع مهتمون بزواجها، فقد تباطأت خطوات الخدم أثناء نقل الأمتعة بمجرد أن سمعوا الحديث عن الموضوع، وكأنهم يريدون الاستماع إلى التفاصيل.
التعليقات لهذا الفصل " 53"