حتى بعد دخولهم إلى غرفة الطعام، ظل الجو مشحونًا بالتوتر.
شعرت كلايسي أن تناول الطعام في هذا الجو سيجعلها تفقد شهيتها، فقررت في النهاية أن تتحجج وتأخذ ميرين إلى غرفة الضيوف.
كانت الغرفة أكثر امتلاءً بالأثاث مقارنة بالسابق، حيث تم استخدامها مؤخرًا أثناء إقامة والديها لفترة وجيزة.
أغلقت كلايسي الباب وخفضت صوتها وهي تسأل :
“ما الذي يجري مع السير ديرنيك؟، هل لديكِ أي فكرة؟”
هزت ميرين كتفيها بلا مبالاة.
“لا أعرف شيئًا.”
أصرت كلايسي : “لكنني رأيتكِ تضحكين سابقًا، ألا تعرفين حقًا؟”
عندما واصلت كلايسي استجوابها، عبست ميرين قليلًا وأجابت.
“حقًا، لا أعرف، لكن السير ديرنيك كان يتصرف بهذه الطريقة حتى أمام أليس وأولادها، في البداية فوجئت، لكن بعد مراقبته لفترة أدركت أن هذا يحدث كثيرًا، يبدو أنه يتصرف بهذه الطريقة دائمًا أمام من لا يحبهم، على ما يبدو، لهذا السبب يقول الناس إن لديه شخصية صعبة.”
“لكنه لم يكن هكذا معي من قبل، أليس كذلك؟”
“بالضبط، وهذا ما يجعل الأمر غريبًا لكنه يبدو مضحكًا الآن وهو يتعامل معكِ بهذه البرودة، الم يكن لطيفًا معكِ في السابق؟”
ترددت كلايسي في طرح سؤال كان عالقًا في ذهنها : “هل يمكن أن تكوني قد قلتِ شيئًا سيئًا عني في غرينغول؟”
لكنها أدركت أن هناك خطوطًا لا يجب تجاوزها في العلاقات بين الناس، وكان هذا أحدها في علاقتها مع ميرين.
“حسنًا، فهمت”
بدلًا من الاستمرار في السؤال، عادت كلايسي مع ميرين إلى غرفة الطعام.
ولكن بينما كانتا تقتربان من الغرفة، سمعتا صوت جدال بين رجلين بصوت منخفض.
“هل تعتقد حقًا أن هذا مقبول؟”
“أنا أيضًا لا أفهم لماذا تتصرف هكذا.”
اتضح أن السير ديرنيك وكشين كانا في خضم مشادة بعد مغادرة كلايسي وميرين.
“ما الذي يجري بحق السماء؟”
كانت كلايسي على وشك التدخل لفض النزاع، لكن ميرين أمسكت بذراعها من الخلف.
عندما استدارت لتنظر إليها، أشارت إليها بإشارة “شش” وأومأت برأسها لتحثها على الاستماع، ثم همست:
“لنستمع، قد نكتشف لماذا أصبح السير ديرنيك فجأة باردًا معكِ.”
على الرغم من شعورها بأن ذلك ليس الصواب، استسلمت كلايسي للفضول.
وقفتا بصمت، ملتصقتين بالجدار، تصغيان إلى الجدال.
“لقد كنت صديقك طوال حياتي، ألا يحق لي أن أبدي رأيًا؟”
“أنت صديقي، لكنك لست والدي، لماذا تعترض على زواجي رغم اني حصلت على موافقة والديّ؟، يبدو لي أنك تتجاوز حدودك، ديرنيك.”
اتسعت عينا كلايسي في دهشة.
‘إذن… هل كان ديرنيك يحاول منع كشين من الزواج بي، ولهذا هو غاضب؟’
رد ديرنيك بلهجة حازمة : “ألن تمنعني لو كنت أنا سأتزوج امرأة غريبة الأطوار؟”
“لا تتكلم عن خطيبتي بهذه الطريقة”
تابع ديرنيك : “كشين، لو كنت ستتزوج أي امرأة أخرى غير مألوفة، لكنت تدخلت مرة أو مرتين ثم تركتك، لكن مع الآنسة كلايسي، هذا أمر مختلف، يجب أن تستمع لي في هذا الموضوع.”
“ولماذا؟”
“تسألني لماذا؟، لأنها هي التي جعلتني-“
‘يا إلهي، ديرنيك! هل ينوي ذكر قصة عرض الزواج الذي رفضته؟’
بمجرد أن أدركت كلايسي ما قد يقوله، شعرت بالقلق من وجود ميرين خلفها، فضربت الحائط عمدًا لمنعه من الاسترسال، في اللحظة ذاتها تقريبًا، توقف ديرنيك عن الكلام.
“كانت تحاول حماية-“
لكن ما إن أصدرت كلايسي الصوت حتى ندمت، لم يكن ما كان ديرنيك على وشك قوله يتعلق بعرض الزواج، بل كان شيئًا آخر، وربما أهم، مما أثار فضولها بشكل أكبر.
حتى ميرين، التي بدت مهتمة بمعرفة ما تبقى من الحديث، ضربت ظهرها بحدة.
لكن الضربة كانت أقوى مما توقعت، ما جعلها تفقد توازنها وتكاد تسقط.
“هل أنتِ بخير؟”
لولا أن كشين أسرع في الإمساك بها، لكانت سقطت أمامه وأمام ديرنيك بطريقة محرجة.
همست وهي تخفض رأسها وقد احمر وجهها : “أنا بخير.”
تجولت نظرات كشين سريعًا نحو ميرين خلفها، وقطب جبينه وهو يسأل:
“آنسة ميرين، هل كنتِ أنتِ من دفعها؟”
تفاجأت كلايسي من سؤاله المباشر، لكن ميرين أجابت بلا تردد بينما تمر بجانبهما.
“مستحيل، خالتي تتعثر دائمًا لأنها ضعيفة.”
أضاف ديرنيك بلهجة ساخرة : “نعم، كشين، هي معتادة على السقوط والتدحرج.”
وكأنهما يتبادلان النكات على حسابها، مما أثار غضب كلايسي إلى أقصى حد.
فكرت للحظة في أنه حتى لو تزوج ديرنيك من ميرين، فلن تتحرر منها، بل ربما ستتضاعف معاناتها أربع مرات.
***
بعد هذه الفوضى القصيرة، عاد الخدم إلى الغرفة، حاملين أطباق الطعام ليضعوها على الطاولة بترتيب أنيق، ثم غادروا المكان.
رائحة الأطعمة التي ملأت الطاولة كانت مزيجًا من العبير الغني والتوابل الحارة، بينما النسيم الربيعي العليل دخل عبر النوافذ المفتوحة، يحرك الأشرطة المزخرفة بإطارات ذهبية التي زينت الجدران والزوايا بلطف.
رغم أن المشهد بدا مثاليًا وكأنه حفل أنيق ومتقن، إلا أن الجو كان مشحونًا بالكآبة، كشين، بملامحه المتجمدة، كان أكثر برودًا من المعتاد، ولم ينطق بكلمة، أما كلايسي، التي كانت تلعب دور المضيفة، لم يكن لديها طاقة للترحيب بضيوفها، ففضلت الصمت وتناولت طعامها بهدوء.
في المقابل، على الجانب الآخر من الطاولة، جلس ديرنيك وميرين جنبًا إلى جنب، يبدوان كزوجين متحابين، غارقين في أجواء لطيفة:
“جربي هذا يا ابنة ماري.”
“إلى متى ستستمر في مناداتي بابنة ماري؟، نادني باسمي!”
“هل لن تأكلي هذا؟، إذا لم تفعلي، سأكله أنا.”
“كفاك مزاحًا!”
كانت ميرين تهز جسدها بدلال، في حين ينظر إليها ديرنيك وكأنها مخلوق لطيف لا يقاوم، يبتسم بحب ودفء.
“يبدو أن اخت ماري لا تحتاج إلى طعام، يكفيها أن لديها ابنة اخت بهذه اللطافة لتشعر بالشبع.”
عندها أدركت كلايسي لماذا كانت تعابير ميرين تبدو بائسة في كل مرة تراها فيها برفقة كشين، كان مشهد الثنائي أمامها كفيلًا بأن يثير أعصابها ويقلب مزاجها، حاولت تجنب النظر إليهما، لكن أصواتهما لم تكن أقل إزعاجًا، مما جعلها تشعر بالغثيان.
واستمر الجو على هذا المنوال طوال اليوم، وحينما حان وقت مغادرة كشين وديرنيك، شعرت كلايسي بارتياح غامر.
الشيء الوحيد الجيد في ذلك المساء هو أن كشين، الذي كان قد خطط في البداية للمرور سريعًا بسبب انشغاله، بقي حتى نهاية اليوم، لولا وجوده، ولو اضطرت إلى البقاء بمفردها مع ديرنيك وميرين، لما استطاعت احتمال الوضع.
“شكرًا لك على اليوم.”
ودعت كلايسي كشين بصدق وهي تشعر بالامتنان لوجوده.
***
في طريق العودة، كان الجو داخل العربة أكثر صمتًا وكآبة مما كان عليه أثناء الحفل، كشين، الذي كان بطبعه قليل الكلام، لم ينطق بحرف، وديرنيك أيضًا كان على غير عادته، ملتزمًا بالصمت.
لم يكن يُسمع سوى صوت اهتزاز العربة وهي تتجاوز الطرق الوعرة.
بعد أن قطعت العربة نصف المسافة تقريبًا، كان ديرنيك، كعادته، هو من بادر بالكلام:
“سأقولها الآن بصراحة، إذا كنت مصرًّا على الزواج من الآنسة كلايسي، فعليك أن تكون مستعدًا ألا ترى وجهي مجددًا.”
كانت كلماته أشبه بتهديد بقطع العلاقة نهائيًا، لكن كشين، دون أي تردد، أجاب ببساطة:
“حسنًا.”
رد كيشين السريع على كلامه جعله يغضب منه أكثر.
“أنت، هل ستتخلى عن صداقتنا من أجل الحب؟، هل هذا هو كشين هايد الذي أعرفه؟، هاه؟، هاه؟”
أخيرًا، حوّل كشين نظره عن النافذة نحو ديرنيك، وعندما اقترب ديرنيك وكأنه على وشك ضربه برأسه، رفع كشين يده ليوقف جبين ديرنيك، وزفر بعمق.
“حتى لو تزوجت الآنسة كلايسي، سأظل أراك، لكنك أنت من قال إنه لن يراني بعد الآن، إذن، الشخص الذي يتخلى عن صداقتنا هو أنت، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
“أنت من يتخلى عن صداقتنا بسبب الحب، هذا تصرف قاسٍ.”
دفع كشين جبين ديرنيك أكثر قليلًا، مما أجبر الأخير على التراجع.
جلس ديرنيك متكئًا في طرف العربة، يحاول استيعاب كلام كشين، بعد برهة طويلة، أذعن أخيرًا على مضض.
“ربما يكون الأمر كذلك.”
عندما اعترف بذلك، سأله كشين:
“كنت ودودًا تجاه الآنسة كلايسي في البداية، فما الذي جعلك تغير موقفك فجأة؟”
تربع ديرنيك وأخذ وضعية متعجرفة، ساخرًا:
“لماذا؟، مهما قلت، ستُصر على الزواج منها، أليس كذلك؟، إذن، ما أهمية سبب تغيّر موقفي؟”
“أمضيتَ أكثر من شهر في مدينة غرينغول مع الآنسة ميرين، هل قالت شيئًا سيئًا عن الآنسة كلايسي؟”
ضحك ديرنيك ساخرًا وأدار رأسه نحو النافذة.
“لن أخبرك، إذا أخبرتك، ستذهب مباشرة لإخبار الآنسة كلايسي بكل شيء، أليس كذلك؟”
“إذا كان هناك شيء يزعجك منها، أليس من حقها أن تعرف؟”
“لا داعي لذلك، الأمر ليس متعلقًا بشخصيتها أو أفعالها، المشكلة أنني ببساطة أصبحت أكره أنها ما زالت على قيد الحياة.”
“!؟”
***
في صباح اليوم التالي، وكما هو الحال دائمًا، وصلت رسالة من كشين قرب نهاية الإفطار.
فتحت كلايسي الظرف، ملقية نظرة خاطفة على ميرين، التي بدت في غاية السعادة، وإذ لم يكن لدى ميرين أي نية لإثارة المشاكل، شعرت كلايسي بالارتياح وأكملت قراءة الرسالة.
في آخر الرسالة، كان هناك اقتراح لتناول الغداء معًا.
دون أن تظهر أي انفعال، أعادت كلايسي الرسالة إلى الظرف وتابعت تناول طعامها، كان عليها أن تتصرف بهدوء كي لا تشك ميرين في نواياها أو تحاول تعطيل خططها.
بعد أن أنهت شرب قهوتها مع ميرين، عادت كلايسي إلى غرفتها لتبدّل ملابسها بسرعة وتستعد للخروج.
كانت متحمسة للقاء كشين، فهذه فرصة جيدة لسؤاله عما حدث بينه وبين ديرنيك بالأمس.
“يبدو أنكما على وشك الزواج فعلًا.”
قالت آنا بابتسامة وهي تودّع كلايسي.
عندما وصلت إلى بوابة الحرس الأمامية، وجدت أن كشين كان ينتظرها بالفعل أمام البوابة.
بما أن كشين لم يكن بإمكانه الابتعاد لفترة طويلة، اتجه الاثنان إلى مقهى روز بيرد القريب، وهو المفضل لدى كشين.
“أوه، لقد جاءت الآنسة كلايسي اليوم أيضًا!”
كان صاحب المقهى قد اعتاد على رؤية كلايسي مع كشين، لذا تعرف عليها فور دخولها.
جلست كلايسي بينما أحضر النادل الماء إلى الطاولة، وبينما كانا ينتظران وصول الطعام، لم تستطع كلايسي كبح فضولها أكثر وطرحت السؤال الذي كان يشغل بالها طوال الليل:
“ما الذي كان ديرنيك يحاول قوله بالأمس؟، ألمح إلى أن ذلك الشخص الذي جعله على هذا الحال هو الذي يحميها.”
التعليقات لهذا الفصل " 51"