توجهت أنظار الوالدين فورًا نحو كلايسي، وبدت على ملامحهما نظرة استنكار واضحة وكأنهما يسألان : “ما الذي يحدث هنا؟”.
لكن كلايسي كانت تسمع هذا الكلام لأول مرة أيضًا، رمشت بعينيها عدة مرات ثم هزت رأسها كما لو كانت تقول : أنا أيضًا لا أعلم.
في تلك اللحظة، تذكرت قصة سمعتها عن شاب حصل على لقب دوق في العاصمة في سن صغيرة، كانت القصة تدور حول عصابة خطيرة حاولت خطف الأميرة، لكن ذلك الشاب، رغم عمره الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة، تسلل وحده بين الأعداء ونجح في إنقاذها.
انتشرت تلك القصة حينها بشكل كبير، لكنها لم تحظَ باهتمام كبير في غرينغول بسبب الأحداث التي كانت تحيط بعائلة كالاش، فقد كانت كلايسي تعاني من الحزن على وفاة أختها الكبرى، إلى جانب حالتها الصحية المتدهورة، فلم تكن في حالة تسمح لها بالاهتمام بأخبار العاصمة أو إنجازات الشاب النابغة.
وعندما سمعت القصة لاحقًا، لم تكن بالنسبة لها سوى ذكرى مريرة.
-“بالنسبة لي كان أسوأ عام في حياتي، لكنه كان عامًا مليئًا بالمجد لشخص آخر.”
لكن الآن، بدأت تفكر : “هل يمكن أن يكون ذلك الشاب هو كيشين؟”
بعد أن أعادت التفكير في الأمر، بدا الاحتمال منطقيًا، فمن الواضح أن لقبه أعلى من لقب والديه.
‘يا إلهي! لابد أنني فقدت عقلي!’
كادت كلايسي أن تسقط فكها من شدة الدهشة، هذا ما يقال عن الجهلاء الذين يتصرفون بشجاعة غير واعية.
لم تكن تتخيل أبدًا أن كيشين يتمتع بهذا القدر من العظمة، لو كانت تعرف ذلك من قبل، لما تجرأت على التقدم نحوه بهذه البساطة.
لكن في الوقت نفسه، كان لديها عذر، فهي لم تتوقف عن المرور بأزمات معه، تارة يفترقان وتارة يتصالحان، كما أنها علمت أنه ابن غير متزوج لعائلة مرموقة، واعتقدت أن هذا وحده كان كافيًا لتلبية شروطها، لذلك، لم ترَ داعيًا للبحث بشكل أعمق.
شعرت بإحراج شديد عندما التفتت نحو والديها، لتجد أنهما أيضًا مذهولان وفاغران فاهيهما.
“هل الشاب الذي حصل على لقب دوق في سن الخامسة عشرة هو السير كيشين؟” سأل والدها أخيرًا بصراحة، غير قادر على كبح فضوله.
“نعم.” أجاب كيشين بإيجاز ووضوح.
رأت كلايسي والدتها تبتلع ريقها بصعوبة، وكانت هذه بداية التحول في سلوكها، فقد أصبحت لهجتها فجأة أكثر لطفًا ودفئًا.
“لقد سمعت عن ذلك الشاب، تساءلت حينها كيف يمكن أن يكون شخص بمثل تلك العظمة، لم أتخيل أبدًا أن ذلك الشاب سيكبر ليصبح صهري العزيز.”
والدها أيضًا ضحك بصوت عالٍ، وابتسم من أعماق قلبه، ثم قام بالتربيت علي كتف كيشين بحماس.
“هاهاها، صهرنا العزيز! صهرنا العزيز!”
كان التغيير في تصرفاتهما سريعًا بشكل محرج، حتى أن كلايسي شعرت برغبة شديدة في الاختفاء من شدة الخجل.
لم أكن أعلم حقًا أن كيشين شخص بهذه العظمة، أقسم أنني تسرعت بناءً على وجهه الوسيم وحده، بالطبع، لم يكن هذا بالأمر الجيد أيضًا.
لكن عندما رأت والديها يغمران كيشين بسعادة غامرة، شعرت برغبة عارمة في الاختفاء في أي ثقب صغير.
“أمي، أبي.”
حاولت كلايسي أن تومئ لهما بالتوقف، لكن والديها كانا يتصرفان بكل ثقة.
ضحك والدها بصوت عالٍ ثم أوضح لكيشين.
“لا تستغرب من تصرفنا المفاجئ، الحقيقة أن ابنتنا لم تخبرنا عنك الكثير، كل ما قالت لنا هو اسمك ولقبك ووظيفتك، حتى سنك لم تخبرنا به، فكنا نتساءل : ‘من هذا الشخص الذي تواعده؟’ لكن بعد أن علمنا أنك بهذه الروعة، لا يسعنا إلا أن نفرح.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي كيشين.
“لا بأس، أشعر بالسعادة بفضل استقبالكما، ويمكنكما مناداتي بما يحلو لكما.”
رد والدها بحماس : “أحقًا؟، إذن سأفعل!”
وبدأ يتحدث معه بعفوية، بل وأمسك بذراعه بشكل ودي، عندها وضعت والدة كلايسي، يدها على جبينها وأغلقت عينيها بحرج.
قال والدها وهو يقود كيشين نحو غرفة الطعام : “يا صهري العزيز، ألا تشعر بالجوع؟، يجب أن تأكل جيدًا لتبقى بصحة قوية وتقوم بمهام الدولة بكفاءة.”
بينما كان والدها يأخذ كيشين إلى غرفة الطعام، اقتربت والدتها منها وهمست بلوم :
“لماذا لم تخبرينا بهذه التفاصيل المهمة؟”
“لأنني لم أكن أعلم!” أجابت كلايسي.
“ألم تعرفي؟”
“كنت أعرف فقط أنه وسيم…”
“هذا صحيح، إنه وسيم جدًا، بل أجمل من إخوتك.”
اعترفت والدتها بذلك، مما جعل كلايسي تضحك خلسة، واضعة يدها على فمها.
وخزت كلايسي والدتها في جنبها وأضافت.
“بالطبع، أعجبت بوسامته في البداية، لكنني أحببته حقًا بسبب شخصيته، السير كيشين رجل رائع، لا يتأثر بكلام الآخرين، ولديه مبادئ واضحة ووفاء عميق.”
ردت والدتها بارتياح.
“نعم، يبدو كذلك، رغم أنه يبدو عنيدًا بعض الشيء، لكن لا بأس، فأنتِ لست عنيدة.”
“….”
شعرت كلايسي أن والدتها كانت مستمتعة بالأمر أكثر من اللازم.
ازداد هذا الشك عندما همست والدتها بصوت منخفض.
“يجب أن أريه للسيدة ليرا”
قطبت كلايسي حاجبيها وسألت باستنكار:
“أليست السيدة ليرا صديقة أمي؟”
“كانت صديقة قديمة، لكننا قطعنا علاقتنا الآن.”
“آه، صحيح، لقد تشاجرتما، لكن لماذا؟”
“لم أعد أطيقها”
“ماذا؟”
“إنها شخص غريب.”
عندما رأت كلايسي مدى سعادة والديها، شعرت فجأة بالقلق، ماذا لو أن والدة كيشين، بعد كل هذا الحماس، تقول : “هممم، ما زلت أشعر بالقلق من الشائعات، لا أستطيع السماح بهذا الزواج.”
ستكون خيبة الأمل بنفس قدر الفرح الذي شعروا به، وربما يحزن والداها بشدة.
***
في مساء ذلك اليوم، بعد مغادرة كيشين، وصل شخص من بيت المركيز غوسفيل.
جاء يحمل دعوة تقول إنهم تلقوا للتو هدية من مسحوق قهوة فاخرة، ودعوا أهل كلايسي لشرب القهوة معًا في لقاء “بسيط”.
لم يكن في الدعوة أي إشارة إلى كلايسي.
“إذن، يعني ذلك أنهم لا يريدونني هناك؟”
كانت كلايسي تقلب الدعوة بين يديها، متسائلة بينما كانت والدتها تدفعها بلطف نحو الخارج.
عندما خرجت وهي تمط شفتيها بضيق، لم تستطع آنا إلا أن تنفجر ضاحكة.
“يا إلهي، الآنسة تتصرف تمامًا كالصغار، لقد كنتِ هادئة ومهذبة بوجود الآنسة ميرين، لكن بمجرد غيابها عدتِ إلى دور الابنة الصغرى.”
سألت كلايسي بفضول : “هل وصلت ميرين بالفعل؟”
“لو كان الطريق سالكًا، فقد تكون وصلت الآن، لكن لو كان هناك تساقط للثلوج أو عوائق، فقد تكون ما زالت في الطريق.”
“إنه طريق طويل بالفعل.”
بعد حوالي نصف ساعة، أرسل والداها ردًا إلى بيت غوسفيل، وفي اليوم التالي عند الساعة الواحدة ظهرًا، انطلق والدا كلايسي بالعربة نحو بيت الماركيز.
في انتظار عودتهما، شعرت كلايسي أن كل دقيقة تمر وكأنها ساعة.
لو كنت هناك معهم، ربما كان ذلك أفضل… فكرت للحظة، لكنها شعرت بالارتياح لأنها لم تكن مدعوة في نفس الوقت.
راحت كلايسي تدور في الحديقة المحيطة بالمنزل عدة مرات، في محاولة لتخفيف قلقها المتزايد.
رغم أن الخادم وآنا تناوبا على مطالبة كلايسي بالدخول إلى المنزل، إلا أنها لم تستطع بسبب ألم في معدتها وتوتر قلبها.
عندما حانت الساعة الثالثة عصرًا، لم تستطع التحمل أكثر وقررت تغيير ملابسها.
“آنستي، لا يمكنكِ الذهاب!، لا يمكنكِ فعل ذلك بأي حال!، هل تفهمين؟”
تعلقت آنا بذراع كلايسي وهي تقفز محاولة منعها.
“لن أذهب إلى بيت السير كيشين، فقط أشعر أني لا أستطيع التحمل، لذا سأخرج وأشتري شيئًا ما من الشارع، لا أستطيع أن أظل هكذا.”
أخذت كلايسي بعض المال وركبت العربة، لكن بعد خمس دقائق فقط أمرت السائق بالتوقف.
“لا أستطيع، ريدن، عُد بنا إلى المنزل، الخروج زاد توتري.”
بمجرد أن توقف ريدن بالعربة داخل بوابة المنزل، قفزت كلايسي منها راكضة.
نظر الخادم وآنا إلى بعضهما، يتبادلان الإشارات عندما عادت كلايسي بعد عشر دقائق فقط من إعلانها الخروج.
غرقت في الأريكة التي جلست عليها سابقًا مع كيشين، محاولة أن تغرق في النوم لتتجنب التفكير.
عندها سمعت صوت عجلات العربة ووقع حوافر الخيول قادمًا من خلف النافذة، لقد عاد والداها.
نهضت فجأة واندفعت نحو الباب الأمامي، فتحته وركضت نحو العربة القادمة عبر البوابة.
“كيف سار الأمر؟، ماذا قالوا؟”
كانت تسأل بحماس حتى قبل أن ينزل والداها من العربة، ممسكة بإطار النافذة وأطلت برأسها داخلها.
أوقف السائق العربة بسرعة.
“يا لهذه الطفلة!”
تنهدت والدتها من داخل العربة، لكن كلايسي لم تهتم، فقد أرادت إجابة على الفور، سواء كانت إيجابية أو لا.
‘إن كان الرد بالرفض، سأحزن قليلاً لكني سأتجاوز ذلك بالبكاء، أما لو كان الرد إيجابيًا… ماذا سأفعل حينها؟’
قالت والدتها بابتسامة : “الأمور سارت على ما يرام، السيدة غوسفيل كانت متفهمة.”
رغم أنها انتظرت هذه الإجابة بفارغ الصبر، شعرت كلايسي بالارتباك بدلًا من الفرح.
هل يعني ذلك أنني سأتمكن حقًا من الزواج بكيشين؟، هل يمكن أن تسير الأمور بهذا السلاسة بمجرد غياب ميرين؟.
نزلت والدتها من العربة، ووالدها، وهو يبتسم بثقة، أضاف : “والدتكِ بدت هادئة أمامكِ، لكنكِ لا تعرفين كم تحدثت بسرعة هناك!”
“عزيزي!”
ضربته والدتها بخفة في جنبه، بينما تراجع والدها خلفها متابعًا : “صدقيني، الماركيزة كانت مرتاحة لكل شيء ما عدا مسألة الشائعات، وهنا دافعت والدتكِ بشدة عنكِ، شرحت لهم كيف كانت ماري وصية عليكِ حتى قبل زواجها، وأن كل الحراس والخدم الذين رافقوكِ في السفر كانوا من اختيارها، وحتى العربة والأمتعة كانت هي من جهزها، كل ما فعلتهِ هو أخذ بعض الملابس بناءً على إلحاح ماري.”
تسألت كلايسي بصوت منخفض : “وهل صدقت؟”
“نعم، صدقت”
وضعت والدتها ذراعها على كتفها بابتسامة رضا.
“أتدرين ما الذي جعل الماركيزة تصدقنا بالكامل في النهاية؟”
“ما هو؟”
“أخبرناها أنكِ كنتِ تعتنين بميرين، ابنة ماري، منذ الحادث، قلت لها : لو كانت كلايسي مسؤولة عن موت ماري، فكيف لها أن ترعى ابنتها بهذا الحب؟، وأضفتُ أنكما قريبتان لدرجة أنكما تعيشان معًا.”
من كان يتوقع أن تكون ميرين سببًا في تسهيل زواجي!، فكرت كلايسي بذهول.
تدخل والدها ضاحكًا : “الماركيزة اقتنعت، لكنها طلبت لقاء ميرين قبل اتخاذ القرار النهائي.”
ضحك والدها بمرح : “لكن ميرين دائمًا تلتصق بكِ، أليس كذلك؟، بالتأكيد ستتحدث عنكِ بإيجابية!، الأمور سارت كما أردنا تمامًا.”
كان الجميع، من والديها إلى الخادم وآنا، يضحكون بفرح.
لكن قلب كلايسي كان مثقلًا كمن صُب عليه ماء بارد في يوم شتاء قارس.
التعليقات لهذا الفصل " 46"