كيشين كان ما يزال يحمل على وجهه تعبيرًا غير مفهوم, كلايسي، التي جمعت القليل من الشجاعة، شعرت أن نصف تلك الشجاعة تلاشت فور رؤية ردة فعله.
“هل تتحدثين عن مسألة المال؟”
كرر كيشين سؤاله كما لو كان يتأكد.
“نعم…”
بدأت كلايسي تشعر وكأنها بحاجة ماسة للاختباء في أي مكان، لكنها تذكرت أنها استطاعت التواصل بشكل جيد مع ديرنيك من قبل، فقررت أن تكمل حديثها بصعوبة.
“لدي بالفعل خمسة أبناء أخ وأخت، وكما يعلم السير كيشين وفقًا لقوانين بلادنا، بما أنني غير متزوجة، يجب أن أقسم الميراث معهم، عندما تزوج إخوتي لم يكن هناك أطفال حينها، لذا حصلوا على نصيبهم كاملًا، لكنني أنا الوحيدة التي يتعين عليها تقسيمه.”
“…”
“والآن، أختي الثانية في الشهر التاسع من الحمل، لذا قريبًا سيصبح لدي ستة أبناء أخوة، هذا يعني أنه بعد بضعة أشهر، بدلًا من تقسيم الميراث على خمسة، سيكون عليّ تقسيمه على ستة، وليس هذا فقط، فأخي الأكبر وأخي الأصغر، كلاهما يعيشان بسعادة مع زوجتيهما وما زالا شابين، كلاهما قال إنهما يرغبان في إنجاب طفلين أو ثلاثة، أي أن ميراثي سيصبح أصغر كلما مر الوقت.”
كلما واصلت الكلام، شعرت كلايسي أنها تبدو مادية جدًا.
في الواقع، لم تتحدث كلايسي عن هذا الموضوع مع عائلتها من قبل، إذ إن جميع أفراد العائلة، باستثناءها، يستفيدون من هذا القانون، ولو اشتكت، لربما اتهموها بأنها تتصرف بحسابات مادية تجاه الأسرة.
كانت قريبة من آنا، لكنها في النهاية فرد من عائلة كالاش، ولم يكن بإمكانها أن تفكر فقط في موقف كلايسي.
“لهذا السبب، أريد حماية ثروتي قبل فوات الأوان، قبل أن يتحول تقسيمها إلى 11 جزءًا بدلًا من 7.”
بعد أن أنهت كلامها، ألقت كلايسي نظرة جانبية سريعة على كيشين، متساءلة عما إذا كان بإمكانه فهم موقفها كما فعل ديرنيك.
“إذًا، الآنسة كلايسي لم تتقدم لي لأنها تحبني، أليس كذلك؟”
لكن رد كيشين كان مختلفًا تمامًا عن رد ديرنيك، بدت خيبة الأمل واضحة على وجهه.
شعرت كلايسي بالذعر وبدأت في محاولة إصلاح الموقف بسرعة.
“لا، لا، السبب في استعجالي هو ذلك فقط، لكنني تقدمت لك لأنني أحبك بالطبع، فكرتُ أن الإسراع سيكون أفضل… شيء من هذا القبيل…؟”
بدأت تبريراتها المتسرعة تتحول إلى همسات ضعيفة كلما أكملت كلامها.
وبينما كانت تتحدث، شعرت كلايسي بالظلم إلى حد ما.
صحيح أنها أخذت حسابات الميراث في الاعتبار لتجنب المزيد من الخسائر، لكن أليس هذا ما يفعله كل النبلاء في الزواج على أي حال؟.
الجميع يقارن بين شروطه وشروط الطرف الآخر، وإذا توصلوا إلى قناعة بأن هذا الزواج سيحافظ على مكانة الأسرة على الأقل في المستقبل، يتم الاتفاق على زواج مرتب.
في حالة الآخرين، يتولى الأوصياء هذا الأمر، لكن بالنسبة لكلايسي، كان والداها يعيشان في الخارج، وأشقاؤها منشغلين بحياتهم بعد الزواج، لذا كان عليها أن تهتم بهذه الأمور بنفسها.
لكن يبدو أن كيشين لم يكن يفكر بالطريقة ذاتها، إذ قال ببرود :
“إذا كان الأمر كما تقولين، فليس من الضروري أن أكون أنا الشخص المختار، أليس كذلك؟، يكفي أن يكون من عائلة يوافق عليها والداكِ.”
بالطبع، هذا صحيح، هذا ما كانت كلايسي تفكر فيه دائمًا.
وبما أن هدفها الأساسي لم يكن الزواج بحد ذاته، بل الحفاظ على الميراث، لم يكن هناك مشكلة في الطلاق بعد ثلاث سنوات من الزواج.
لكن كلايسي لم تكن غبية لترد على الفور قائلة: “بالطبع، بالطبع.”
“إذا كان لا بد من الزواج المرتب … فمن الأفضل أن يكون مع شخص أحبه على الأقل.”
“لا، إذا كان زواجًا مرتبًا، فلا داعي لكل هذا، كان يمكن لوالديكِ تدبير الأمر من البداية، فما الحاجة لتبادل الرسائل والزهور؟”
كلما ازدادت برودة صوت كيشين، شعرت كلايسي براحة أكبر في قلبها.
‘أجل، منذ الصباح شعرت أن هناك شيئًا غير مريح، الأمور كانت تسير بسلاسة بشكل غير طبيعي، وهذا ما بدا غريبًا مع رجل مميز مثل كيشين.’
لحسن الحظ، لم تكن فكرة رفضها جديدة عليها، فقد اعتادت على ذلك، حتى أنها بكت مسبقًا لمدة خمس دقائق لتستعد لهذا الاحتمال.
بعد أن انتهت من التفكير، قالت كلايسي بنبرة هادئة :
“فهمت، مهما قلتُ لن تفهم موقفي، صحيح؟”
“نعم. أنا أؤمن بأن الزواج يجب أن يكون عن حب فقط، لا حاجة لأي أسباب أخرى.”
“حسنًا، فهمت، يبدو أننا مختلفان في قيمنا، إذن لنعتبر أن هذا الأمر لم يحدث.”
“أي جزء تقصدين؟، من عرض الزواج؟”
“بل من حيث مشاعري.”
“!؟”
نظر إليها كيشين بوجه مصدوم، وكأن كلماتها أصابته في الصميم.
‘لماذا يبدو مصدومًا رغم أنه هو من أنهى الأمر؟’
فكرت كلايسي في نفسها، ثم ألقت عليه تحية مهذبة قبل أن تدير ظهرها وتغادر.
‘ما حدث اليوم كان خطأ مني، ربما أصبحتُ متراخية لأن الأمور بدت وكأنها تسير بسلاسة، من الآن فصاعدًا، لن أخبر أحدًا أبدًا أن سبب طلبي الزواج كان متعلقًا بالميراث’
***
“هل… هل أنا مَن تم رفضه الآن؟”
عندما غادر، لم يكن طريق العودة ممتعًا كما كان عند وصوله بحماس، سار كيشين عبر الحديقة الصغيرة باتجاه البوابة الخارجية، وكان يلتفت بين الحين والآخر لينظر خلفه.
لكن كلايسي لم تخرج له على الإطلاق.
عندما صعد كيشين إلى العربة، انطلق السائق مباشرة بها نحو مقر الحرس، جلس كيشين داخل العربة المتمايلة عابسًا، مستغرقًا في التفكير في ما جرى قبل قليل.
لم يكن قد خاض تجربة الحب بنفسه، لكنه رأى مرؤوسيه يخوضون علاقات كثيرة، كانوا يقولون إنه “في لحظة ما، قد تتشاجر مع من تحب على أمور تافهة بشكل غير معقول، وقد ينتهي الأمر بالانفصال.”
لم يستطع كيشين فهم ذلك، لماذا يتشاجرون على أمور تافهة؟، وحتى إن حدث شجار، أليس من الممكن المصالحة ببساطة؟.
لكنه لم يتوقع أن يواجه ذلك بنفسه.
عندما اقتربت العربة من مقر الحرس، بدأت تتسلل إليه فكرة أن شيئًا ما قد سار على نحو خاطئ، والأغرب أنه شعر بالظلم، وهو إحساس نادر بالنسبة له.
“ما الخطأ الذي ارتكبته بالضبط؟”
كيشين يعلم أنه ارتكب بعض الأخطاء في حق كلايسي، عندما تراكم بعض سوء الفهم بينهما، تحدث إليها ببرود وأطلق كلمات قاسية.
الغريب في الأمر أن كلايسي آنذاك تعاملت مع الموقف برباطة جأش، دون أن تقدم حتى أي توضيح حول سوء الفهم.
لكن هذه المرة كان رد فعلها مختلفًا تمامًا.
بسبب تجربته السابقة مع سوء التفاهم، حاول كيشين هذه المرة فتح حوار معها، بذل جهدًا لفهم سبب عرضها الزواج فجأة ودموعها المفاجئة.
لكن كلايسي انفجرت في الكلام وحدها، وأطلقت عبارات مؤلمة قبل أن تسحب اعترافها بمشاعرها تجاهه.
عندما وصل كيشين إلى مكتبه، تحول إحساسه بالظلم إلى غضب هادئ.
حدق في الوسادة الوردية التي أعدها خصيصًا لكلايسي، ثم لم يستطع التحكم في نفسه وأخفاها داخل الخزانة.
في تلك اللحظة، دخل مساعده فيلز وشاهد ما حدث، فسأله باستغراب :
“أوه؟، أليست هذه الوسادة مخصصة للآنسة كلايسي؟، لماذا وضعتها في الخزانة؟”
“لقد تخلت عني.”
“بهذه السرعة؟!”
جلس كيشين أمام مكتبه دون أن يرد، كان فيلز مذهولًا لدرجة أنه لم يسلمه التقرير، بل احتضنه بدلاً من ذلك.
***
في تلك الأثناء، كانت كلايسي تعزف على البيانو في غرفة البيانو بالطابق الأول، تصب مشاعرها الغاضبة في عزفها، كلما ارتفعت أصوات الموسيقى الصاخبة والضخمة، شعرت براحة أكبر.
بعد أن عزفت خمس مقطوعات متتالية، شعرت بأن نصف همومها قد تبددت.
“كفى، لا داعي لإلقاء اللوم على السير كيشين، أنا من فقدت السيطرة وطلبت الزواج حين طلب مني أن أبقى بجانبه، ليس هو، هذا خطئي، لقد بدأت مشاعرنا تتطور للتو، ومع ذلك تسرعت وطلبت الزواج مباشرة، بل كشفت له كل التفاصيل الدقيقة عن عائلتي، لذا من الطبيعي أن يشعر بالصدمة ويرغب في الهرب.”
غطّت كلايسي البيانو ونهضت من مكانها، وعندما ذهبت إلى المطبخ، استقبلها الطباخ بودّ وسألها بلطف:
“هل أجهز لكِ بعض الوجبات الخفيفة؟”
“نعم، شكرًا.”
أخذت بعض الوجبات الخفيفة المصنوعة من الخبز والتفاح، ثم عادت إلى غرفتها.
في الممر، مرت ميرين بالقرب منها على مسافة، لكنها لمحت بوضوح ابتسامة ساخرة على وجه ميرين قبل أن تدخل إلى غرفتها دون أن تتحدث، بدا أن ميرين لم تكن تعلم بعد بشأن شجار كيشين وكلايسي وعودته المفاجئة.
“لحسن الحظ، لو علمت، لكانت أزعجتني بالكلام بلا توقف.”
***
في اليوم التالي، بدأت كلايسي في تحضير نفسها للعودة إلى مسقط رأسها.
نظرًا لأن حمل لوازم تكفي لثلاثة أشهر لم يكن ممكنًا، ضغطت في حقيبتها ما يكفي لشهر واحد فقط، فهي تمتلك الكثير من الأغراض المخزنة في منزل العائلة، ويمكنها أخذ ما تحتاجه من هناك أو شراء ما ينقصها.
“هل ستسافرين غدًا أم بعد غد؟”
رغم تجاهلها بالأمس، بدت ميرين اليوم أقل غضبًا، بل وألقت عليها التحية ببرود وبدأت تحضيراتها للسفر أيضًا.
“لا تحتاجين للذهاب معي، هل ستكونين بخير؟”
لم يكن سؤال كلايسي بدافع الرغبة في ترك ميرين خلفها، بل كان نابعًا من اهتمام حقيقي، فالرحلة تستغرق قرابة شهرين بين الذهاب والإياب، وهي متعبة بلا شك.
ورغم أن ميرين لن تضطر إلى الاعتناء بأختها هناك، إلا أن الجميع سينشغلون بالمولود الجديد، ما يعني أن ميرين قد تجد نفسها مهملة إلى حد ما.
“سأذهب وألقي التحية على أبي هناك.”
“أوه، هل ستبقين في منزل زوج اختي الكبرى أيضًا؟”
“سأتنقل بين هناك ومنزلنا، أفعل ما أشاء.”
هذا غريب، فكرت كلايسي.
كانت ميرين تحب والدها، لكنها لم تكن ترغب في البقاء في منزله، حيث لم تكن على وفاق مع زوجته وأطفالها الثلاثة، العلاقة بينهم كانت سيئة لدرجة أن وصفها بـ”الفتور” قد لا يكون كافيًا.
فلماذا، إذن، تريد الآن التنقل بين بيت والدها وبيت كالاش؟، بدا الأمر محيرًا.
“لماذا غيرتِ رأيك فجأة؟” سألتها كلايسي بفضول.
صرخت ميرين فجأة بغضب: “أنتِ لا تخبرينني بشيء عن نفسكِ، لكنكِ تستجوبينني بشأن كل شيء يخصني! لن أخبركِ!”
“هاه، كان مجرد سؤال، وليس استجوابًا، إذا كنتِ لا تريدين الحديث، فلا بأس.”
***
عندما عادت كلايسي إلى غرفتها محرجة بعض الشيء، ألقت ميرين نظرة سريعة على اتجاهها بينما كانت تعطي الأوامر للخدم بجدية مزيفة.
وحين اختفت كلايسي عن الأنظار تمامًا، ارتسمت على وجه ميرين ابتسامة ساخرة.
“حتى هي تحتفظ بأسرار علاقاتها، لكنها تطلب مني أن أتكلم عن أموري؟، مستحيل!”
كانت ميرين تخطط لإخبار والدها عن العلاقة القديمة بين اللورد ديرنيك ووالدتها، ثم تطلب منه التوسط لفتح موضوع زواج مع عائلة الدوق، رغم أنها تقيم في قصر كالاش، إلا أن والدها البيولوجي هو الوصي القانوني عليها، وبالتالي يجب أن يكون هو من يتولى الترتيبات المتعلقة بزواجها.
بينما كانت ميرين تعمل وتشارك في الأحاديث الجارية، سألتها كارين بنبرة قلقة :
“ألا تعتقدين أن من الأفضل أن تخبري الآنسة كلايسي عن هذا؟، الماركيز أوميل يثق بها كثيرًا، وقد يكون من الجيد أن تتحدث كلايسي معه أيضًا لدعم الفكرة.”
ردت ميرين ببرود : “لا بأس، حتى لو لم تساعدني خالتي، والدي سيتكفل بالأمر، اللورد ديرنيك ليس شخصًا عاديًا، إنه الابن الوحيد لعائلة الدوق.”
أجابت كارين بنبرة حذرة : “بالضبط، الشروط مثالية للغاية، مما قد يجعل والدك يتردد في فتح موضوع الزواج، إذا تم رفض الطلب، فسيكون ذلك محرجًا للغاية.”
اتسعت عينا ميرين في صدمة، وفغر فمها قليلًا : “حقًا؟”
تابعت كارين : “عادةً ما يتم الزواج التصاعدي عندما تبادر العائلة ذات المكانة الأعلى بطلب الزواج، نادرًا ما يحدث العكس، لأن الفشل في هذه الحالات يجلب الإهانة، ولو كانت هناك صداقة وثيقة، فالأمر يختلف، لكنكِ لا تملكين علاقة قوية مع الدوق سويل أو زوجته.”
لم تكن ميرين تشعر بنفس التوتر بشأن الزواج كما كانت كلايسي.
صحيح أنها بحاجة للزواج في النهاية لتتمكن من أن تصبح وريثة، لكنها لم تكن تملك أي سمعة سيئة، وكانت شروطها مثالية.
شعرت بأنها تستطيع اختيار شريكها متى شاءت، دون أن تضطر للتفكير المعقد الذي يزعج كلايسي، لهذا، لم تفكر يومًا بعمق في مثل هذه الأمور.
كانت ميرين تعتقد أن كل شيء سيُحل بمجرد أن يتدخل والدها، لكنها بدأت تشعر بالارتباك بعد سماع كلام كارين.
التعليقات لهذا الفصل " 37"