احمرّ وجه كلايسي، وأخذت تلمح نحو كيشين بخجل قبل أن تخفض رأسها.
“تبدو وكأنك لعوب يا سير كيشين.”
“لست كذلك.”
“ولكنك تبدو كذلك، كيف تقول مثل هذا الكلام؟”
أخذت كلايسي تتلوى في مكانها.
لاحظ كيشين أن أذنيها أصبحتا شديدتي الاحمرار.
أما آنا، التي كانت تراقب الموقف بقلق من النافذة، فقد هزت رأسها بخفة وابتعدت لتتركهما وحدهما.
سرعان ما استقامت كلايسي عندما أمسك كيشين بذراعها ليمنعها من الانكماش مثل الحبل الملتف.
“قلت ما قلت لأنني كنت أفتقدكِ حقاً.”
“ولكنك قلت إنك تفكر فيّ مرة واحدة يومياً فقط.”
“في الواقع، أفكر فيكِ مرات عديدة.”
“!”
“قلت مرة واحدة حتى لا أثقل عليكِ.”
نظرت كلايسي إلى كيشين بذهول، ثم سرعان ما خفضت رأسها مرة أخرى، محاولًة إخفاء ابتسامة غبية كادت تظهر على وجهها.
“هل تفكرين بي مرة واحدة في اليوم فقط يا آنسة كلايسي؟”
“أنا… لا أكتفي بالتفكير فيك مرة واحدة في اليوم.”
“إذن أنتِ اللعوبة هنا، يا آنسة كلايسي.”
كانت ميرين، التي صادف مرورها أثناء تنزهها، تشاهد هذا المشهد من بعيد، فصكت أسنانها متذمرة في نفسها : يا للسذاجة! هذان الأحمقان يعتقدان أن كلاً منهما محترف في الحب!.
لم تلاحظ كلايسي مراقبة ميرين لها، لكن كيشين حاد الإدراك شعر فوراً بنظراتها واتجه بنظره نحو المكان الذي تقف فيه.
تفاجأت ميرين لوهلة عندما التقت عيناه بعيني كيشين الباردتين، كانت معتادة على أن يعاملها الآخرون بلطف نظراً لجمالها، ونادراً ما واجهت من ينظر إليها بذلك البرود.
ويبدو أن الأمر لم يكن مجرد وهم، إذ همست كارين التي كانت تقف خلفها :
“هل من الممكن أن تكون آنسة كلايسي قد شتمت السير كيشين؟، لا أفهم لماذا يحدّق هكذا!”
في هذه الأثناء، انتبهت كلايسي أخيراً لوجود ميرين، فسارعت إلى استعادة رباطة جأشها.
عندما وصلت الأمور إلى هذه النقطة، شعرت ميرين بأنه لا مفر من التدخل، فتقدمت نحو الاثنين.
“سير كيشين، هل جئتَ لرؤية خالتي؟”
تفاجأت للحظة، لكن سرعان ما ارتسمت على شفتيها ابتسامة واثقة.
على الرغم من أن كيشين حافظ على برودة نظرته، إلا أنه ألقى التحية عليها بأدب.
“نعم، كيف حالكِ يا آنسة ميرين؟، مضى وقت طويل.”
انفجرت ميرين ضاحكة بمرح، ثم شابكت ذراعها مع ذراع كلايسي.
“أتمنى ألا أكون قد أفسدتُ موعدكما، خرجتُ في نزهة وصادفتكما بالصدفة، فلا تظنا أنني عديمة الذوق.”
شعرت كلايسي بالارتباك، متسائلة عما إذا كانت ميرين قد جاءت بالفعل صدفة أم أنها نسيت تحذيراتها السابقة وجاءت مجدداً لتعكر صفو لقائها مع كيشين.
ظهر هذا التردد على ملامح كلايسي لبرهة قصيرة، لكن كيشين لاحظ ذلك على الفور.
عندها، قرر كيشين إنهاء الموقف بسرعة وبأسلوب لبق، وقال بحسم :
“لن أزعجكِ أكثر يا آنسة ميرين، تفضلي بمتابعة نزهتكِ.”
“!”.
كانت تلك طريقته المهذبة ليطلب منها المغادرة، احمر وجه ميرين لأسباب مختلفة تماماً عن كلايسي.
لطالما كان من يهتم بكلايسي يعامل ميرين أيضاً بلطف، حتى لو لم يستسلم لسحرها، وبما أنها ابنة أخت كلايسي، كان من الطبيعي أن يعاملوها بأدب.
لكن برودة كيشين جعلت ميرين تشعر بالإهانة الشديدة.
كارين، التي كانت تراقب الموقف، تنهدت داخلياً وقالت في نفسها : سمعت أن السير كيشين شخص صعب المراس. والآن فهمت السبب!
ضحكت كلايسي بارتباك، إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي تسمع فيها من كيشين كلاماً مباشراً وصارماً كهذا، كانت معتادة على تلك الصراحة، خاصة عندما يسيء فهمها.
نظرت ميرين إلى كلايسي بتوقع، متمنية أن تنصفها وتوبخ كيشين، لكنها تفاجأت حين رأت كلايسي تهز رأسها بهدوء، غارقة في أفكارها.
‘يا لهذه المجنونة! هل الرجل أهم عندها من ابنة أختها؟’
كان غضبها واضحاً لدرجة أنها لم تلقِ حتى تحية الوداع على كيشين.
ركضت كارين خلفها، وهمست بصوت خافت :
“آنستي، سمعت أن السير كيشين مقرب من السير ديرنيك، هل من الجيد تجاهله هكذا؟، ربما كان من الأفضل أن نلقي عليه التحية على الأقل…”
زاد هذا الكلام من غضب ميرين، وعندما وصلت إلى مكان خالٍ من الناس، انفجرت بالاحتجاج.
“هل رأيتِ كيف تجاهلني ذلك ذا الشعر الأحمر؟، والآن تريدين مني أن أبتسم وألقي عليه التحية؟!”
ردت كارين بتنهد ثقيل، وقد بدا عليها التعب :
“حتى لو كان الطرف الآخر وقحاً، لا ينبغي التصرف بنفس الطريقة، خصوصاً أننا في وضع لا يسمح بذلك.”
“أنا لست بحاجة لأي شيء!، السير ديرنيك لديه عينان، ومن المؤكد أنه يعرف مزاج صديقه!”
أطلقت كارين زفرة أخرى، وقالت :
“على أي حال، يبدو أن الشائعات صحيحة، السير كيشين مؤهل للغاية، لكن طباعه ليست الأفضل، هل تعتقدين أن الآنسة كلايسي تجد هذا النوع من الرجال مناسباً لها؟”
تجهمت ميرين وأجابت بسخرية :
“خالتي تفقد عقلها من أجل الزواج، كانت تتصرف كضبع جائع، تحاول الإمساك بأي شخص يقع في شباكها، الآن وقد حصلت على فريسة ممتازة، بالطبع لن تفكر في شيء آخر مثل الطباع، المشكلة أن خالتي تصبح غريبة الأطوار كلما تعلّق الأمر بالرجال!”
فكرت كارين في داخلها : هذا طبيعي، بما أن آنستي دائماً ما كانت تعرقل علاقاتها، لكنها لم تجرؤ على قول ذلك بصوت عالٍ.
فهي دائماً ما تقف في صف ميرين، ولم يكن هناك داعٍ للدفاع عن كلايسي.
***
شعرت كلايسي بوخزة غريبة في أذنيها.
‘ربما ميرين تتحدث عني بالسوء’
في الواقع، كانت كلايسي قد لاحظت النظرات التي وجهتها لها ميرين، متوسلة أن تتدخل، لكنها اختارت عن قصد عدم فعل أي شيء.
كان هناك سببان لذلك.
الأول، أن كيشين دافع عنها، ولم تكن تريد إحراجه بتوبيخه.
والثاني، أنها لم تكن ترغب في الانخراط في محادثة ثلاثية مع ميرين.
لو كانت ميرين مجرد ابنة أخت عادية، لكان من السهل قضاء الوقت معها، حتى لو كانتا على علاقة محايدة، لم يكن هناك مانع، لكن ميرين أمضت حياتها في تعطيل علاقات كلايسي العاطفية.
رغم ذلك، شعرت كلايسي ببعض الانزعاج بعد مغادرة ميرين.
‘هل سيفكر كيشين أنني كنت قاسية؟، أنني سمحت بإهانة ابنة أختي ولم أفعل شيئاً؟’
“هل أزعجتكِ معاملتي القاسية لميرين؟”
جاء السؤال المفاجئ من كيشين، ما جعل كلايسي تنظر إليه بدهشة.
بدت عيناه قلقتين، متقابلتين مع نظراتها، وكأنهما يتساءلان عن رأيها بصدق.
عندما التقت نظرات كلايسي بتلك العيون الدافئة، تبددت مخاوفها في لحظة، وشعرت بالانفعال الذي دفعها للاعتراف بما كان في قلبها.
“كنت قلقة أيضاً، خفت أن يراني سير كيشين بأنني سيئة لأني لم أدافع عن ميرين، يبدو أننا كنا نفكر في الشيء نفسه.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي كيشين، ولم تستطع كلايسي إلا أن تبتسم بدورها.
مد كيشين ذراعه، فوضعت كلايسي يدها عليه.
وبينما كانا يسيران متلاصقين باتجاه المنزل، شعرت بسعادة غامرة لا تفسير لها.
كانت واثقة أن هذا الرجل، مهما حاولت ميرين إفساد الأمور بينهما، لن يتأثر أبداً.
***
في البداية، جاء كيشين بنيّة القيام بنزهة قصيرة، لكنه أوضح أنه يفضل الابتعاد عن الآخرين للحصول على بعض الهدوء، لم يكن يرغب في أن يتدخل أي شخص بينهما، لا ميرين ولا غيرها.
سارعت كلايسي باقتياده إلى غرفتها، تبادلا حديثاً قصيراً عن أحوالهما.
على الرغم من أنهما قد تبادلا الرسائل صباحاً وكانا على علم بآخر المستجدات، تصرفا وكأنهما لا يعلمان شيئاً.
تطورت المحادثة بشكل طبيعي لتتناول موضوع مدينة غرينغول، التي أشارت إليه كلايسي في ختام رسالتها.
“حتى لو انطلقتِ الآن، بحلول وقت الوصول، ستكون احتفالات رأس السنة قد انتهت، هل عليكِ حقاً الذهاب؟” سأل كيشين بحذر.
كان كلامه منطقياً، فاليوم 23 ديسمبر، ومهرجان رأس السنة يبدأ من 31 ديسمبر حتى 1 يناير.
أخذت كلايسي تعبث بيديها المتشابكتين، قبل أن تعترف.
“في الواقع، مهرجان رأس السنة مجرد عذر، أختي الثانية ستلد في ذلك الوقت، وطلبت مني الحضور.”
“آه.”
“قالت إن وجود امرأة معها سيساعدها، ووالدتي موجودة في الخارج، لا يمكنها استدعاء زوجات إخوتي، لذلك طلبت مني أن أكون هناك.”
“إذن، قد تبقين هناك لفترة أطول مما تتوقعين.”
“نعم. حتى لو قضيت شهراً في مساعدتها، سيأخذ السفر ذهاباً وإياباً وقتاً أيضاً، قد أبتعد ما يقارب ثلاثة أشهر، وإذا طلبت مني البقاء لفترة أطول، فقد يطول الأمر أكثر.”
بينما كانت تتحدث، بدأت كلايسي تشعر بالانقباض.
قبل عامين، اضطرت أيضاً لقضاء ثلاثة أشهر مع أختها الثانية لرعاية توأم حديثي الولادة، وكان العذر حينها مشابهاً : “والدتي في الخارج، وحماتي يصعب التعامل معها، وليس لدي أخوات غيركِ، ولا يمكنني استدعاء زوجات إخوتي. لذا، لا خيار أمامكِ سوى المساعدة.”
كانت ميرين قد ذهبت معها حينها، لكنها حددت موقفها بوضوح منذ البداية : رعاية أبناء الخالات ليست من مسؤولياتها.
أطلقت كلايسي زفرة ضيق دون أن تشعر.
‘الأمور بدأت تتحسن مع السير كيشين، لكن إذا اضطررت للابتعاد ثلاثة أشهر… من يدري؟، قد تتغير مشاعره في هذه الفترة.’
تلك الزفرة العابرة لم تمر دون أن يلتقطها كيشين، فقد منحت هذا الرجل الحاد فهماً واضحاً لمشاعر كلايسي.
كان كيشين قد جاء في الأصل ليقنعها بعدم الذهاب إلى مدينة غرينغول، فاغتنم الفرصة وتحدث بشجاعة أكبر :
“ألا توجد خادمات قريبات يمكنهن مساعدة أختكِ الثانية؟، في رأيي، ليس من الضروري أن تذهبي بنفسك.”
أومأت كلايسي ببطء وقالت :
“في الواقع، أنا أيضاً لا أرغب بالذهاب، لكن كيف يمكنني رفض طلب فرد من العائلة؟”
رفع كيشين حاجبيه قائلاً بحدة :
“لكنها عائلتكِ التي تطلب بكل جرأة من شقيقتها التي تسكن على بعد 1,580 ميلاً أن تأتي لخدمتها.”
“!”
لم يكن كيشين من النوع الذي يسمح لأحد، حتى لأقاربه، بتجاوز الحدود، كان يدرك أن هذا الموقف الصارم لا يُستحسن من الجميع، لكنه لم يكترث كثيراً.
غير أنه كبح الكلمات الأكثر حدة التي كانت على طرف لسانه، وبدلاً من ذلك غيّر اتجاه الحديث :
“أعتذر، مجرد التفكير في أننا لن نلتقي لثلاثة أشهر أغضبني، فقلت ما في قلبي بصدق.”
خفق قلب كلايسي عندما سمعته يقول “بصدق”، فسألته بخفوت :
“هل تريد أن تبقى معي؟”
أجاب كيشين دون تردد :
“نعم.”
لم يكن كيشين رجلاً متردداً، سواء في التقرب من الناس أو في مواجهتهم.
شعرت كلايسي بارتجاف شفتيها، فاستدارت بسرعة حتى لا يرى ابتسامتها العفوية. لم تكن تريد أن تظهر كالبلهاء أمامه.
تمتمت :
“وأنا أيضاً. أريد أن أبقى معك.”
عندما همست بذلك، اقترب كيشين ببطء من خلفها، ثم بدا وكأنه على وشك معانقتها، لكنه تردد في اللحظة الأخيرة.
أنزل يده وتقدم ليقف أمامها مباشرة.
بقي كيشين ينظر في عينيها قبل أن يعيد طرح سؤاله :
“ألا يمكنكِ عدم الذهاب؟، أريد أن نبقى معاً.”
بدأت كلايسي تعبث بأصابع يديها وقدميها من شدة التردد.
كانت ترغب بشدة في البقاء معه، لكنها كانت تدرك أن عدم الذهاب سيخيب آمال والديها، وقد يجلب لها استياءهم، وهذا أمر لا تتحمله.
ظل كيشين منتظراً جوابها، لكن حين طال صمتها، أدرك أنه وضعها في مأزق. فابتسم ابتسامة حزينة وقال :
“يبدو أنني وضعتكِ في موقف صعب، ربما من الأفضل أن تذهبي، لا أريد أن أسبب لكِ أي إزعاج.”
غير أن صوته، رغم هدوئه، كان يحمل خيبة واضحة.
وما إن شعرت كلايسي بذلك حتى قفزت فجأة باندفاع وقالت :
التعليقات لهذا الفصل " 35"