أجابت كلايسي بإيجاز ومرّت بجانبه دون أي تردد، كان ردّها سريعًا كنسمة ريح، حتى أن ديرنيك لم يتمكن من استيعابه للحظة، وبقي في حالة من الذهول.
لم يسبق له أن رُفض بهذه السرعة من قبل، وبعد لحظة قصيرة، أدرك أنه قد رُفض مرة أخرى. وهذه هي المرة الثانية التي ترفضه فيها نفس المرأة.
اقترب ديرنيك من كلايسي، وبدأ في مواكبة خطواتها معترضًا:
“لماذا هذه المرة؟”
“…”.
“في المرة السابقة قلتِ إنكِ ترفضين لسببين، لكنكِ لم تخبريني ما هما، على أي حال، لقد خمّنت أحدهما، في ذلك الوقت، لم تكن تاجرة الأسلحة تعلم شيئًا عن هويتي، لم تكن تعرف من أنا أو ما إذا كان يمكن الوثوق بي، لهذا رفضتِ، أليس كذلك؟، أنا متأكد أنني على حق.”
كان على حق تمامًا، لكن كلايسي لم تردّ.
رغم ذلك، استمر ديرنيك في الحديث لوحده:
“لكن الآن، بات من الواضح لكِ أنني لست شخصًا مشبوهًا، وأن هويتي معروفة ومؤكدة، هويتي ثابتة تمامًا مثل عنادكِ، كلايسي، إذًا، لماذا؟، لماذا رُفضت مجددًا؟”
شعرت كلايسي بالحرج، ولم تستطع الرد بسهولة، لكن ديرنيك بدا عازمًا على سماع إجابة، مهما كان الأمر.
تابعت كلايسي السير في الممر دون أن تبالي بما يقوله ديرنيك.
‘إن تجاهلته، سيملّ في النهاية ويتوقف.’
لكن ما حدث كان العكس، مع استمرارهما في السير، بدأت تظهر في الممرّات الخالية مجموعات من الأزواج الذين كانوا يستمتعون بلحظات خاصة.
المشكلة أن بعضهم تعرّف على ديرنيك، وشاهدوه وهو يتبع كلايسي بإصرار، ضحكوا بينهم وهم يتهامسون فيما بينهم، شعرت كلايسي بالإحراج الشديد، واحمرّ وجهها من الخجل.
أخيرًا، لم تستطع تحمّل الوضع، فتوقفت واستدارت عائدة من حيث أتت، لكن ديرنيك استمر في اللحاق بها، ولم يتوقف عن الكلام.
عندما عادت الممرات إلى الهدوء وخلا المكان من الناس، لم تعد كلايسي قادرة على تحمل ثرثرة ديرنيك، فصرخت في وجهه:
“أنت حقًا ثرثار!”
“نعم، أنا أجيد الثرثرة بمفردي تمامًا مثلما تجيد تاجرة الأسلحة الصمت، لذا أخبريني، حتى لو كنت سأُرفض، أريد أن أعرف السبب.”
‘ميرين معجبة بك!’
كتمت كلايسي هذا الصياح الذي وصل إلى حلقها بصعوبة، بدلاً من ذلك، توقفت فجأة واستدارت لتواجه ديرنيك.
بدهشة، تزامن توقّف ديرنيك مع حركتها تمامًا، وكأنهما كانا يتدربان على الرقص سويًا لفترة طويلة، لو شاهدهما شخص غريب، لاعتقد أنهما شريكان في رقصة متقنة.
عندما أدركت كلايسي مدى رشاقته، شعرت بالإحباط، تذكرت أن هذا الرجل، الذي بدا أحمقًا وكثير الكلام، تسلل في صمت إلى مقعد العربة عند لقائهما الأول.
‘كان عليّ أن أحذر منه منذ البداية.’
لم يكن يجب أن تحكم عليه استنادًا إلى عينَيه المترهلتين وفمه كثير الكلام، شعرت كلايسي بصداع خفيف يتسلل إليها.
‘ماذا أفعل الآن؟’
كانت ميرين ابنة الماركيز الكبرى ووريثته، وهي الابنة الوحيدة للشخص الذي يدين له ديرنيك بالكثير، وإذا كانت عائلة الدوق وزوجته يميلون إلى ابنهما الوحيد، وكان الحظ حليف ميرين، فقد ينتهي الأمر بارتباطهما.
لذا، كان على كلايسي أن ترفض ديرنيك، لكن من دون أن تتصرف بجفاء يُفسد علاقتها به، فقد يصبح قريبًا صهرها في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، كانت قد سمعت في موطنها شائعات تفيد بأن الإمبراطور، المعروف بقسوته، يُظهر عاطفة تجاه ابن الدوق سويل أكثر من أطفاله الحقيقيين.
أخيرًا، وجدت كلايسي عذرًا مناسبًا لتفتح فمها قائلة:
“أنت صديق للسير كيشين، لهذا السبب لا يمكنني ذلك.”
سألها ديرنيك باندهاش:
“وما علاقة ذلك بالأمر؟، لقد رفضكِ السير كيشين، أليس كذلك؟”
“أجل.”
“ولم تكونا معًا لفترة طويلة، الأمور لم تسر بينكما حتى قبل أن تصبحا حبيبين، ألا تعتقدين أن هذا يجعل الأمر غير ذي صلة؟”
شعرت كلايسي بالكآبة تتسلل إلى قلبها.
‘إذا كان ديرنيك يتحدث بهذه الثقة، فلا بد أن السير كيشين قد قطع علاقته بي نهائيًا.’
انعكس شعورها بالحزن في ملامحها على الفور، وأخفضت عينيها قائلة بصوت خافت:
“لكنني ما زلت أحب السير كيشين.”
“…”.
“كيف لي أن أتزوج زواجًا صوريًا من صديق الشخص الذي أحبه؟، ألا توافقني الرأي؟”
هذه المرة، نجح حديثها في ترك أثر، عقد ديرنيك حاجبيه وهو يسأل:
“لكنّكِ لم تقولي هذا الكلام لكيشين، ألم تقولي إنّ مشاعركِ قد تغيّرت بالفعل؟”
أسرعت كلايسي في التهرب:
“لقد قلت ذلك لحفظ كبريائي، لم أرد أن أبدو مثيرة للشفقة أمام رجل تخلّى عني، لو لم يقدّم لي السير ديرنيك عرض الزواج الصوري، لما قلت هذا الكلام له أيضًا.”
بدت على وجه ديرنيك علامات الفتور، وكأن اهتمامه قد تلاشى فجأة عندما أدرك أن كلايسي ليست من النوع المتقلب أو الطائش.
‘يا له من ذوق غريب’
رغم أن كلايسي شعرت ببعض الانزعاج، لم تستطع إنكار أن ديرنيك وميرين قد يشكّلان ثنائيًا مناسبًا، فقد عاش كلاهما حياةً متقلبة، ولو اجتمعا، لشكّلا “ثنائي المغامرين” الأشهر.
على أي حال، بدا أن المسألة قد انتهت هنا، من تعابير وجه ديرنيك، أدركت كلايسي أنه لن يلاحقها مجددًا بعروض الزواج، شعرت براحة كبيرة واستدارت لتغادر.
ولكن حين رفعت عينيها، وجدت كيشين واقفًا على مسافة قريبة!، والأسوأ من ذلك أنه بدا وكأنه سمع كل ما قالته.
رغم برودة تعابير وجهه، كانت عيناه تهتزّان بوضوح، مما يعكس اضطرابه الداخلي.
“يا إلهي!”
شعرت كلايسي بصدمة جعلتها تستدير نصف دورة إضافية دون وعي، وبذلك، أصبحت تدور في مكانها كمن يلفّ حول نفسه بلا هدف.
“ما الذي تفعلينه؟”
سألها ديرنيك بدهشة وهو يشاهد حركتها الغريبة، أشارت كلايسي بعينيها نحو الخلف، عندما تبع ديرنيك نظرتها، سرعان ما اكتشف وجود كيشين.
“أوه، كيشين!، متى وصلت؟”
أرادت كلايسي الهرب فورًا من هذا الموقف المحرج، ولكن قبل أن تتمكن من التحرك، تقدم كيشين بخطوات بطيئة نحوها ووقف خلفها مباشرة.
“منذ قليل.”
وهكذا، أصبحت في مواجهة ثلاثية غير مريحة، شعرت كلايسي وكأن دمها يتجمّد في عروقها، بينما في الوقت ذاته شعرت بحرارة تسري في وجهها.
وقف كيشين بين كلايسي وديرنيك، يتنقل بنظراته بينهما، في البداية، بدا ديرنيك مستاءً، لكن سرعان ما ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة، وكأنه يستمتع بهذا الموقف.
بما أنه لم يكن يحب كلايسي حقًا أو يعرض عليها الزواج بدافع الغيرة، بدا أن هذا الوضع يثير فضوله أكثر مما يثير غيرته.
أغمضت كلايسي عينيها بإحكام وسألت بصوت خافت :
“سير كيشين… من أي جزء سمعت؟”
أجاب كيشين ببرود:
“من الجزء الذي قلتِ فيه إن ديرنيك صديقي.”
يا إلهي! لقد سمع كل ما هو مهم!، شعرت كلايسي برغبة في البكاء. فتحت عينيها بحذر لتجد كلا الرجلين يراقبانها، كلّ منهما بتعبير مختلف.
‘نعم، لقد أحببت كيشين… لكن ليس لدرجة أن أتشبث به بهذه الطريقة!’
شعرت بغصة في صدرها، وكأنها تُتهم بشيء لم تكن تنويه حقًا.
ومع ذلك، كان هناك أمر مطمئن: كيشين لم يكن يسخر منها، بدا جديًا، بل أكثر جدية مما توقعت.
حين لاحظت كلايسي هذه الجدية، تشجعت قليلاً ورفعت رأسها، فجأة سألها كيشين بوضوح: “هل تحبّينني؟”
‘يا له من سؤال مباشر!’
ارتبكت كلايسي، وانزلت رأسها، تدخل ديرنيك، وهو يلكز كيشين في خاصرته: “ألا ترى أنك تطرح السؤال بطريقة فظة؟”
ارتبكت كلايسي بشدة، واشتعل وجهها احمرارًا، ثم شبكت يديها ورفعتهما في توتر قبل أن تهتف.
“متى سمعت ذلك أيضًا؟”
أجاب ديرنيك مبتسمًا: “هل تذكرين عندما تناولنا العشاء مع ابنة السيدة ماري؟، في ذلك اليوم، تركت المائدة لفترة قصيرة بحجة أنني سأحضر هدية، لكنني في الواقع ذهبت لإحضار كيشين، وعندما عدنا، سمعناكِ تخبرين ابنة أختها أنكِ تفضلينني على كيشين. هل تتذكرين الآن؟”
وقفت كلايسي مذهولة، تتنقل بنظراتها بين ديرنيك وكيشين، إلى أن استوعبت فجأة ما حدث، نعم، منذ ذلك اليوم، تغيرت تصرفات كيشين وديرنيك، أصبح ديرنيك أكثر وُدًا معها، بينما أصبح كيشين أكثر برودًا.
‘هل يظن كيشين أنني كنت أتلاعب به؟’
ازدادت دهشتها وهي تفكر في هذا الافتراض، بدا واضحًا الآن أن كيشين قد أساء فهم الموقف بأكمله، معتقدًا أنها كانت على علاقة مزدوجة.
تنهدت كلايسي وأوضحت: “انا لا احبك، سير ديرنيك، ما قلته كان مجرد مزاح.”
أمال ديرنيك رأسه متسائلًا: “لم أفهم، كيف يكون هذا مزاحًا؟، إذا كانت ميرين لا تحب كيشين، ألم يكن عليكِ القول إنك تحبينه لتضايقيها حقًا؟”
ترددت كلايسي للحظة، رغم أن ديرنيك كان ثرثارًا، إلا أنه لم يكن غبيًا، لكن كان هناك من هو أذكى منه: كيشين.
بحكم خبرته كمحقق ضمن الحرس، التقط كيشين بسرعة ما أغفلته كلايسي في تفسيرها: الحقيقة التي كانت تحاول إخفاءها، وهي أن ميرين كانت تحب ديرنيك.
مع إضافة هذه الحقيقة إلى القصة، يصبح كل شيء منطقيًا: ميرين تحب ديرنيك وتكره كيشين، وكلايسي كانت تمزح معها.
ولكن بدلاً من مواجهة كلايسي بهذه الحقيقة، قرر كيشين ترك الأمر جانبًا، لم يكن مهتمًا بميرين أو بمشاعرها، ولم يرغب في إحراج كلايسي.
نظر إلى وجهها المتورد وإلى جبهتها التي ازدادت بريقًا تحت الضوء، بدا كل توتره وكأنه يتبخر في لحظة.
فكر في مدى دفء الجو، رغم تساقط الثلوج بغزارة في الخارج، مد يده نحو كلايسي وسأل بهدوء :”هل يمكننا التحدث على انفراد؟”
التعليقات لهذا الفصل " 30"