صحيح أنّ الدّروع المعدنيّة القويّة ساعدت في استعادة معدّل الشفاء الطبيعي وقوّتي البدنيّة، لكنّ الإرهاق المتراكم، إلى جانب الأحداث الكبيرة التي تجاوزت حدود العالم، كانت أكثر ممّا يستطيع جسدي تحمّله.
علاوة على ذلك، يبدو أنّني شربتُ من الدّم أكثر مما يستطيع جسم إنسان تحمّله، كما اعترف أدريان وهو يقف أمام سريري كمن يعترف بخطيئة.
كنتُ أعلم أنّ هناك شيئًا غير طبيعي، فقد شعرتُ بتوعّك داخلي غريب.
“لا بأس، اذهب إلى الفيلا أوّلًا. سأتعافى وألحق بك مع كازيمير.”
في اليوم الأوّل الذي أصبتُ فيه بالمرض، ظلّ أدريان ملتصقًا بجانب سريري طوال اليوم دون أن يغادر.
و بما أنّ السّيّد لم يتحرّك، اضطرّ الخدم أيضًا إلى البقاء في الفندق، لكن يبدو أنّ أحدًا، باستثناء ليتيسيا، لم يُدرك أنّ السبب كان أنا.
هذا ما نقله كازيمير، لكن لا يمكنني الوثوق تمامًا بما يقوله.
“ما الذي تعنيه؟ كيف أترككِ وأذهب إلى مكان آخر؟”
“لكن لا يمكن تأخير الجدول إلى أجل غير مسمّى بسببي. السّيّدة تنتظرك بفارغ الصّبر…”
“تقولين إنّ الجدول يتأخّر بسببك؟ من أين أتيتِ بهذا الكلام؟ هذا الجدول لم يكن ليبدأ أصلًا بدونك.”
“لكن …”
“هيلدا، أنا أكبح رغبتي في أخذكِ معي و إعادتكِ الآن. فهل يمكنكِ ألّا تفكّري بأي شيء آخر و أن ترتاحي فقط؟ إذا أصبتِ بمرض أشدّ من هذا ، قد أفقد عقلي حقًا”
على الرغم من نبرته اللطيفة، كانت عيناه تدوران منذ زمن، فاستسلمتُ وعدتُ إلى الاستلقاء على السرير ببطء بعد أن حاولتُ النهوض.
لم يكفِ أنّني اختفيتُ من أمامه، بل ظللتُ مريضة طوال اليوم الثاني أيضًا. لم يكن هناك ما يستحقّ المزيد من التحفيز.
مع ذلك، لو كان في الماضي، لكان قد تسبّب بمشاكل كبيرة عدّة مرّات، لكنّه الآن كان هادئًا نسبيًا.
هل لأنّه لم يعد يرى القوى الخارجيّة التي كانت تدور حولي؟
لم يعد يغلق جميع الخرائط أو يحبس نفسه أو يفتح زنزانات مخفيّة و يغوص فيها. صحيح أنّه قضى الليل بأكمله بعينين متورّمتين، لكن ذلك يُعتبر مستوى لطيفًا.
بعد يومين من التأوّه، لحسن الحظ، انخفضت حرارتي في صباح اليوم الثالث، وشعرتُ بجسدي يخفّ.
يبدو أنّ قوتي البدنيّة الأساسيّة دعمتني.
بمجرّد أن فتحتُ عينيّ وأنا مستيقظة تمامًا في السرير، ظهرت كلمات بيضاء متلألئة كما لو كانت تحتفل بشفائي:
كما توقّعتُ، كان مرضي ناتجًا عن دم أدريان وليس نزلة برد عاديّة.
أن يحصل على 3% من الحصّة بشرب كوب دم واحد!
للحظة تساءلتُ ماذا سيحدث إذا شربتُ أكثر من ثلاثين كوبًا لتصل النسبة إلى 100% ، بما أنّه لا يُفرز خارج الجسم بعد امتصاصه.
شعرتُ بالاشمئزاز قليلًا بعد شربه مباشرة ، لكن بعد مرور الوقت ، بدا الأمر تافهًا. 3% فقط؟ لا بأس إذا تنازلتُ عنها.
و إذا فكّرتُ بشكل إيجابي ، أليس هذا يعني أنّني لن أموت من نزيف حاد حتى لو تعرّضتُ لحادث غير متوقّع؟ بل وزاد عمري الافتراضي أيضًا.
بالطبع، إنّه أمر غير عادي، لكن إذا نظرتُ إليه من زاوية مختلفة، فلا يوجد تأمين أكثر متانة من هذا.
بينما كنتُ أحدّق بذهول، اختفت الكلمات البيضاء تلقائيًا.
في العادة، كنتُ سأضغط على زر “إغلاق” لإزالة النافذة، لكن بعد الحادث الأخير، لم ألمس نظام اللعبة بأصبع واحدة.
كنتُ أشعر بالخوف والقشعريرة كلّما ظهرت مهمّة رئيسيّة، لكن بعد أن تمّ طردي من هذا العالم ثمّ أعدتُ تسجيل الدخول، وصل الأمر إلى ذروته.
كنتُ أفكّر بشكل غامض أنّ انتهاء المهمّة الرئيسيّة قد يعني نهاية اللعبة ، لكن عندما رأيتُ أرصدة النهاية بعد قطع الاتصال باللعبة ، أدركتُ الحقيقة.
هناك فضاء منفصل عن اللعبة بالتأكيد، وإذا خرجتُ منه، سأعود إلى عالمي السابق.
بقدر الفرحة التي شعرتُ بها عند عودتي إلى جانب أدريان، كبر خوفي من احتمال طردي من هذا العالم في أي لحظة.
لم يكن الأمر يتعلّق بالمهمّة الرئيسيّة فقط.
قد يؤدّي ظهور مهمّة مخفيّة أخرى أو إنجاز إلى طردي من هذا العالم مرّة أخرى. دون حتى إعطائي فرصة لتوديع أدريان.
إذا فكّرتُ في الأمر، عندما سُئلتُ عن أي عالم سأختار، كان من الجنون أن أجيب بالتفكير فقط دون الضغط على زر.
لو أنّ النظام قال: “حسنًا، حسنًا، أعرف اختيارك جيّدًا”، ثم أعادني فجأة إلى عالمي السابق، ماذا كنتُ سأفعل؟ خاصة أنّني أغضبتُ النظام بمفاوضاتي العبقريّة التي أدّت إلى انتزاع الكثير منه.
حتى لو ضغطتُ على الزر بنفسي ، كان الوضع سيكون مشابهًا. لو أخطأتُ بإصبعي مرّة واحدة ، لكان انتهى الأمر بانفصال فوري.
كان من الطبيعي أن أصبح غير قادرة على استخدام مهارة بسيطة أو التحقّق من قائمة التفضيلات.
ما هو النظام في الحقيقة؟ فكّرتُ مليًا و أنا مستلقية ، ويبدو أنّ ظهور “عالم أدريان” و”عالمك” في “اختيار الخادم” يعني أنّ كل عالم يوجد كخادم منفصل.
والنظام هو المحور (hub) الذي يدير هذه الخوادم، وقد نقلني من خادم عالمي إلى خادم أدريان.
كما أنّه هو من قدّم لي شخصيّة اللاعب (PC) هيلدا.
أن أنتزع مليارًا من كائن متعالٍ كهذا، يجعلني أشعر بفخر عظيم بنفسي!
على أي حال، بما أنّها تُسمّى شخصيّة لاعب، يبدو أنّ هيلدا كانت مجرّد قشرة فارغة تحتوي على إعدادات فقط قبل قدومي.
كنتُ أشعر بالذنب كلّما تعاملتُ مع إميلي، ظنًا أنّني ربما سلبْتُ صديقتها، لكن الآن لم يعد هناك داعٍ لذلك.
في هذا العالم، كانت هيلدا أنا وحدي منذ البداية.
“هيلدا، لا يجب أن ترهقي نفسكِ بالنهوض.”
رأى أدريان أنّني جالسة على السرير، فاقترب بسرعة.
كانت أطراف شعره مبلّلة قليلًا، مما يعني أنّه ربما حاول أن يغتسل قبل أن أستيقظ.
“لا بأس، لقد تعافيتُ تمامًا الآن.”
“حقًا؟ دعيني أرى.”
اقترب أدريان بنظرة مشككة ووضع يده على جبهتي.
على عكس الأيام القليلة الماضية حين لم يكن يعرف كيف يقيس الحرارة، كانت لمسته ماهرة إلى حدّ ما.
تذكّرتُ صورته وهو يتحسّس جبهتي بقلق وأنا مريضة، و كيف كان يطعمني بنفسه أو يمسح جسدي المبلّل بالعرق وأنا غير قادرة على الأكل أو الاغتسال.
لم يكن قد فعل شيئًا كهذا في حياته من قبل، لكن لمسته، و إن كانت خرقاء، كانت مليئة بالعناية، مما جعل قلبي يخفق بقوّة.
“تعالَ إلى هنا، أدريان، بدلًا من ذلك.”
“…”
“عانقني. بسرعة.”
بينما كنتُ أمدّ ذراعيّ و أنتظر ، كان أدريان ينظر إليّ للحظة كما لو كان يحلم. ثم اندفع نحوي فجأة.
حتى و هو يعانقني على السرير ، لم ينسَ أن يحمي رأسي بيده لئلّا يصطدم بالحائط. فركتُ جبهتي في صدره كطفلة صغيرة.
“هيلدا، هل أنتِ بخير حقًا؟ لا أريد أن أرى انهيارك مرّة أخرى. حقًا، لا أريد ذلك أبدًا. لذا لا تكذبي عليّ”
كان يعانقني بلطف كما لو أنّني سأنكسر إذا ضغط بقوّة. لذا عانقته أنا بقوّة أكبر. يجب أن أكافئه على هدوئه طوال هذا الوقت.
“المريض لستُ أنا، بل أنتَ، أدريان. قلبك ينبض بسرعة كبيرة”
عندما وضعتُ أذني على صدره بهدوء، كان صوت خفقانه السريع يطرق أذنيّ بقوّة.
كان النبض قويًا لدرجة أنّه يتردّد حتى في أطراف أصابعي.
على الرغم من أنّنا عانقنا بعضنا مئات المرّات وكان يجب أن نكون قد اعتدنا ذلك ، كان أدريان يشعر بالإثارة في كل مرّة يعانقني. نقيًّا كفتى وقع في حبّه الأوّل.
“هل يعجبكَ هذا إلى هذا الحدّ؟”
“بلا حدود، كثيرًا جدًا.”
“ما الرائع في العناق إلى هذا الحدّ؟”
“إنّه رائع. أن تختاري البقاء بجانبي، أن تكوني في حضني وتتحدّثي إليّ، كلّ ذلك.”
“…”
“يبدو أنّني وُلدتُ لألتقي بكِ.”
كان صوته المليء بالسعادة يدغدغ أذنيّ.
شعرتُ بالخجل فلم أستطع الردّ بأنّني أشعر بالمثل.
رفعتُ يدي ومرّرتُ أصابعي بلطف على شعره المتدلّي على جبهته، محاولة الحفاظ على تعبير هادئ.
“اليوم تختار كلمات جميلة فقط. لكن ذلك لن يجعلني أقع في حبّك أكثر.”
“إذا كانت جميلة، يجب أن تُكافئيني ، هيلدا. يجب أن تحبّيني أكثر.”
“لا ، ليس هذا … لكن بما أنّني أفكّر في إعطائك هذه الفرصة ، لا تنسَ ذلك.”
“إذن ما السبب؟ هل القصر هو ما لا يعجبكِ؟ إذا غادرتُ هذا القصر ، هل ستقبلينني؟ بالطبع، قد لا يكون الأمر وفيرًا ماديًا، لكن كازيمير سيكسب المال، فلا داعي للقلق.”
لكي لا يُرفض، تسارعت كلمات أدريان.
سماعه يقول إنّه سيهرب من أجلي جعلني أضحك بلا وعي.
لماذا كنتُ قلقة حتى الآن؟ كنتُ أعلم أنّ أدريان سيقول شيئًا كهذا. عندما رأيتُ ردّ فعله ، شعرتُ بالسعادة و ابتسمتُ كالحمقاء.
“أتقبلك؟ أي كلام هذا دون خطبة حتى؟ لم تكن تلك خطبة الآن، أليس كذلك؟”
“خطبة؟”
“هل تقول إنّك تتحدّث عن سيّدة القصر دون أن تنوي الخطبة؟”
“لا، لا، هيلدا. خطأي أنّني لم أتبع التسلسل. هل يمكنكِ نسيان ما قلته للتوّ؟ سأعدّ شيئًا رائعًا بعد تحضير كافٍ”
هدّأ أدريان وجهه المفاجأ قليلًا وأنهى حديثه بلطف.
يبدو أنّه لم يفكّر في الخطبة، لكن لم يكن هذا أوّل مرّة أرى فيها جانبًا غير بشري منه. لم يعد هناك شيء يفاجئني الآن.
“ليس أمرًا سيّئًا ، و هذا جيّد ، لكن ، هيلدا …”
“مهلًا، لم أقل إنّني موافقة بعد. سأقرّر بعد أن أرى كيف ستخطبني.”
“حسنًا. سأعدّ شيئًا رائعًا جدًا. لن تستطيعي الرفض أبدًا.”
“أنا صعبة الإرضاء.”
“سأحضّر بجديّة. هاه، للحظة ظننتُ أنّكِ تلعبين بي، شعرتُ أنّ قلبي سيسقط. قلتِ إنّكِ تحبّينني كثيرًا، لكن لم تفكّري في أن تكوني سيّدة القصر ، كيف ذلك إلّا إذا كنتِ تنوين استخدامي ثم التخلّي عني…”
عانقني أدريان بقوّة وتنفّس الصعداء.
يا إلهي، من في العالم يتخلّى عن عالمه من أجل شخص ينوي استخدامه والتخلّي عنه؟ وإذا كان هناك سيّد وخادم، أليس السيّد عادة هو من يستخدم ويتخلّى؟
“في الحقيقة، لم أفكّر أبدًا في الزواج.”
“مم؟ إذن لماذا كنتِ مندهشة إلى هذا الحدّ؟ هل تخبرينني؟”
“لأنّه … هناك فارق في المكانة الاجتماعيّة. مهما كانت مشاعرنا صادقة، لا يمكننا تجاهل الحواجز الواقعيّة، لذا تساءلتُ إن كان عليّ أن أعيش كمحظيّة أو عشيقة. فكّرتُ في ذلك للحظة في الماضي”
“…”
“أدريان، هل تستمع؟”
“… عشيقة؟ هيلدا … كيف …”
كنتُ أتساءل لماذا لم يردّ ، لكن يبدو أنّه تلقّى صدمة كبيرة و لم يستطع مواصلة الكلام. كان وجهه أكثر صدمة من عندما ظنّ أنّني سأستخدمه و أتخلّى عنه.
“هل فكّرتِ بذلك حقًا ، هيلدا؟ أنّني قد أعاملكِ هكذا؟”
كان فمه، الذي يحمل دائمًا ابتسامة واثقة، مرتبكًا ولا يعرف ماذا يفعل. كنتُ أتحدّث عن شيء منطقي جدًا كما فعلت ليتيسيا ، لكن …
“ليس بالضرورة، لكنّني فكّرتُ أنّ ذلك قد يكون ممكنًا. أنتَ الآن كونت، وأنا مجرّد خادمة من الدرجة الأولى.”
“أن أترككِ … و ألتقي بغيركِ. هل تعتقدين أنّ ذلك ممكن؟ عشيقة؟ أنتِ؟ أن أعاملكِ بمثل هذه الطريقة…”
“حقًا، للحظة فقط في الماضي.”
“أن أترككِ … أنا؟”
“أترككِ … أنا …” ، كرّر أدريان الكلمات نفسها مرّات عديدة، كما لو أنّ الصدمة كانت هائلة. هل كنتُ أنانيّة لشعوري بالارتياح عند رؤية ردّ فعله هكذا؟
“…أعتذر، هيلدا. خطأي أن جعلتكِ تفكّرين بهذا ولو للحظة. كان بإمكانكِ التفكير بهذا من وجهة نظركِ، وكنتُ مقصّرًا في التفكير بكِ.”
“لا، لا داعي للاعتذار.”
“لا، هذا خطأي حقًا. عندما أفكّر في معاناتكِ وحدكِ … هيلدا ، دعي هذا الأمر لي. سأحلّه بحيث لا يفكّر أحد بكِ بهذه الطريقة، فثقي بي.”
كيف سيحلّه؟ إلّا إذا اشترى مكانة اجتماعيّة من مكان ما، يبدو أنّ هذه مشكلة لا يمكن حلّها.
لكن صوته اللطيف جعلني أذوب مبكرًا، وبما أنّه يعرف شؤون هذا العالم أكثر منّي، قرّرتُ أن أثق به وأترك الأمر له.
“حسنًا، سأترك الأمر لك هذه المرّة. لكن، لن تحلّه بقتل أحد، أليس كذلك؟ هذا ممنوع.”
“نعم، ليس هذه المرّة، فاطمئني.”
“ولا تستخدم حالات غير طبيعيّة. يقولون إنّه يترك الرقبة متصلة فقط، لكنّه أسوأ من القتل.”
“لكن، هيلدا، استخدام ذلك قد يجعل الأمور أسهل … حسنًا، لن أفعل.”
عندما نظرتُ إليه بهدوء دون كلام، رفع أدريان يديه بسرعة معلنًا استسلامه. مددتُ ذراعيّ مجدّدًا وجذبتُ رقبته.
لا يوجد سبب لعدم احتضان شيطان مطيع بكلّ قوتي.
***
“أدريان، يبدو أنّ تلك هي الفيلا. لقد وصلنا أخيرًا!”
“نعم، يبدو كذلك.”
في نهاية طريق هادئ ، كان هناك بيت ريفي ضخم محاط بالجبال و الأشجار.
سقف أزرق يرتفع وحيدًا بين الغابات الكثيفة.
كانت تلك فيلا عائلة الكونت.
بعد أن أخبرني السائق أنّنا سنصل خلال نصف يوم، كنتُ ملتصقة بالنافذة أنظر إلى الخارج، فشعرتُ بسعادة غامرة، لكن أدريان كان ينظر إليّ بعيون مليئة بالعاطفة دون أن يُظهر أي انفعال خاص.
حسنًا، هذا متوقّع.
كان هذا أوّل لقاء بعد حادثة الماء المقدّس، وهذه الزيارة كانت لحلّ مشكلة توريث اللقب. ربما كان حذرًا من أن تكون زوجة الكونت تخطّط لمؤامرة أخرى.
لكن كوني أعرف كم كانت زوجة الكونت تنتظر أدريان بلهفة، كنتُ أتمنّى أن تصل مشاعرها إليه.
كان أدريان يشتري أكواب الشاي لأمّه رغم الشتائم واللعنات التي تلقّاها، فكان هناك أمل.
عندما توقّفت العربة أمام الفيلا، فتح أدريان باب العربة و نزل أوّلًا، وتبعته أنا.
نزل الخدم من عربة الأمتعة التي توقّفت خلفنا، وبعضهم ألقوا نظرات متعجّبة، لكن بوجود الكونت بجانبي، لم يجرؤ أحد على التحدّث.
في الماضي، كنتُ سأنزعج، لكن الآن لم يكن ذلك مهمًا.
بعد مواجهة مشكلة كونيّة مثل تغيير العالم الذي أعيش فيه، الحبّ الذي يتجاوز الفوارق الاجتماعيّة؟ حسنًا، إنّه شيء قد يحدث كثيرًا في الحياة.
“صاحب البيت وصل، ولا أحد يُظهِر وجهه …”
كانت الأخلاق مهمّة جدًا بالنسبة له. لكن عدم وجود أحد الآن يعود إلى أنّ هناك خادمًا واحدًا فقط يعمل هنا.
“هيلدا! لقد وصلتِ أخيرًا!”
كما توقّعتُ ، ظهرت أوليفيا في الوقت المناسب.
تفاجأتُ عندما رأيتُ أوليفيا، التي كانت دائمًا صارمة و منضبطة في البيت، تنزل السلالم بصوت عالٍ.
كنتُ أعلم أنّها تنتظر بلهفة، لكن لم أتوقّع أن ترحّب بي بهذا الحماس. من شدّة الفرح، يبدو أنّها نادت اسمي دون تفكير.
هذا ليس من طباع أوليفيا على الإطلاق، حتى أنّ ليتيسيا التي كانت خلفها تفاجأت قائلة: “أهذه هي تلك الشخص؟”
“سيّدي الكونت، لقد أسأتُ الأدب.”
ربما بسبب إدارتها شبه منفردة لهذا البيت الريفي الضخم، لاحظتُ مريلتها المتّسخة التي بدت وكأنّها لم تُغسل منذ أيام.
شعرها وملابسها المبعثرة تشير إلى أنّها قضت اليوم كلّه في الأعمال المنزليّة. لكن تعبيرها الحيوي كان ممتعًا للنظر.
“سيّدي الكونت ، سأرافقكم إلى غرفة الطعام مباشرة. السّيّدة تنتظر.”
“لاحقًا. بعد تفريغ الأمتعة.”
عند رده الحاد، أغلقت أوليفيا فمها كما لو أنّ لسانها قُطع.
هل انخفضت درجة الحرارة حولنا بعشر درجات فجأة؟
“لكن، السّيّدة تنتظر في غرفة الطعام بالفعل، منذ أيام…”
“يبدو أنّكِ لم تسمعي كلامي للتوّ، أوليفيا.”
“أسأتُ الأدب … سيّدي الكونت.”
مع نبرته الأكثر برودة، اضطرّت أوليفيا إلى التراجع.
بسبب حادثة الماء المقدّس، كانت أوليفيا قد أغضبت أدريان، لكن عندما يتصرّف بهذا الشكل، لا أحد يستطيع إيقافه فعليًا.
إذا فكّرتُ في رمز تعبيري لزوجة الكونت، فإنّ انتظارها في غرفة الطعام هو أقصى ما يمكنها من ضبط النفس، لكن أدريان ربما يشتبه بشكل معقول أنّها تخطّط لمؤامرة أخرى.
هذا اللقاء ليس سلسًا منذ البداية.
هذان الأم وابنها، ليسا سهلين حقًا.
“ليتيسيا، أرجوكِ اعتني بالباقي.”
“نعم، لا تقلقوا.”
غادر أدريان ببرود و هو يترك ليتيسيا التي تنحني خلفه.
عندما التفتُّ إلى الخلف، أشارت لي ليتيسيا بيدها بسرعة لأتبعه.
دخل أدريان إلى غرفة كبيرة في وسط الطابق الثاني، وكأنّه اعتاد المكان من قبل. بمجرّد أن أغلقتُ الباب وتبعته، اقترب منّي بخطوات واسعة وأمسك يدي.
“هيلدا، أعتذر لأنّكِ رأيتِني بمظهر قاسٍ منذ قليل. ما رأيكِ في هذه الغرفة؟ إذا كان هناك أي شيء ناقص لإقامة مريحة ، أخبريني”
على عكس ما سبق، كانت عيناه ناعمتين، فابتسمتُ وهززتُ رأسي.
“لا، هذه غرفة رائعة، فما الذي يمكن أن ينقصها؟ لكن، أشعر بالقلق قليلًا لأنّ السّيّدة تنتظر.”
“تقلقين من أن يحدث شيء كما في الماضي، أليس كذلك؟ لكن لا داعي للقلق. لن يحدث ذلك مجدّدًا، وسأضمن ألّا يمسّكِ أحد.”
كما توقّعتُ، كان حذرًا من زوجة الكونت.
كنتُ أعلم أنّه، على الرغم من ابتسامته الجميلة، قد يخطّط لشيء مخيف خلف الكواليس.
حاولتُ مراقبته، لكن هذا لن يفيد.
إذا استمرّ الوضع هكذا، قد يعود دون أن يرى وجهها حتى.
طق-! طق-!
كنتُ على وشك محاولة إقناع أدريان عندما سمعتُ طرقًا على الباب.
تركتُ يده بسرعة، ونظر إليّ بعيون متلهّفة قبل أن يحوّل نظره نحو الباب.
بعد لحظة، فُتح الباب بحذر مع صوت نقرة… و عندما رأيتُ خصلات الشعر تظهر من فتحة الباب، اتّسعت عيناي بدهشة.
“أدريان …”
شعر أشقر بلاتيني يجعل ضوء الشمس باهتًا. لا يمكن أن تكون هناك امرأة في العالم تشبه أدريان بهذا الشكل.
على الرغم من أنّها كانت على حافة الحياة والموت لفترة، و بدت أكثر نحافة ممّا رأيتُها آخر مرّة، إلّا أنّ أناقتها وجمالها الفريدين ظلّا كما هما. لم أتوقّع أن تأتي بنفسها هكذا.
عندما التفتُّ ، بدا أنّ أدريان متفاجئ بنفس القدر.
“أدريان … هل أنتَ حقًا؟”
كما توقّعتُ، كانت بالكاد تستطيع التحكّم بجسدها، تتعثّر يمنة ويسرة وهي تخطو بصعوبة. حاولت أوليفيا الدخول خلفها، لكنّها أغلقت الباب بهدوء مدركة أنّ هذا ليس مكانها.
تيبّست كتف أدريان. كان من النادر أن يتوتر شخص يستطيع بسهولة التحكّم بأي أحد وقتله.
اقتربت بخطوات متعثّرة ، و كأنّها ستنهار في أي لحظة ، و مدّت يدها.
في اللحظة التي لامست فيها أطراف أصابعها المرتجفة أدريان، تراجع كما لو أنّه احترق.
حتى في تلك اللحظة، حرص أوّلًا على إبعادي عن نطاق رؤية زوجة الكونت، فلم أرَ تعبيرها عندما رُفضت يدها.
كلّ ما رأيته كان طاقة مظلمة تتسرّب من تحت قدميه، تتماوج في الظلال. كانت طاقة شرسة، جاهزة لتتحوّل إلى أشواك إذا حاولت زوجة الكونت أي حركة غير محسوبة.
شعرتُ بقشعريرة في ظهري، وعندما التفتّ، رأيتُ الظلام يتجمّع في زوايا الغرفة، يمدّ أغصانه ويتوسّع.
كنتُ أعرف ماذا سيحدث إذا استمرّ هذا الظلام في النمو: سيبتلع كلّ شيء، يتوقّف الزمن، ويختفي من العالم.
إذا لم أوقفه، ستحدث كارثة.
“حسنًا، أفهم تمامًا إذا قلتَ إنّك لا تستطيع مسامحة أمّك هذه. لقد قلتُ لك كلامًا لا يُغتفر وفعلتُ أشياء فظيعة.”
في تلك اللحظة، انهارت زوجة الكونت، التي كانت واقفة مذهولة بعد رفض يدها، على الأرض.
لم تكن جلست بإرادتها، بل بدت كما لو أنّ قواها نفدت.
عندما بدأت كتفاها النحيلتان بالارتجاف، توقّف الظلام المتوسّع فجأة.
“لكن شكرًا لك. كانت رحلة صعبة … أمّك هذه … الآن يمكنني الموت دون ندم. رؤية وجهك كافية …”
“…”
“أعتذر، أعتذر يا أدريان. لم أفعل ذلك لأنّني أكرهك.”
تقلّصت يدها الممدودة في الهواء كبرعم زهرة. ثمّ، كما لو كانت تتذكّر الدفء الذي لامسته للحظة ، دلّكت أطراف أصابعها بحزن. ارتجفت شفتاها الزرقاء المصفرّة.
“لماذا … لم أعرف؟ كنتَ أنتَ منذ البداية …”
“…”
“لم تتغيّر ، كنتَ أنتَ منذ البداية. الحاكمة كانت تخبرني طوال الوقت، لكنّني أدركتُ معناها متأخرًا جدًا …”
كان صوتها الضعيف، الذي يكاد ينقطع، يغرق في البكاء ثم يعود.
أردتُ أن أركض لدعمها على الفور، لكنّني أدركتُ أنّني يجب ألّا أزعج هذه اللحظة بينهما، فتحمّلتُ بصعوبة.
“لماذا لم أستمع إليك ولو مرّة واحدة؟ لماذا لم أمسك يدك؟ الشجرة الصغيرة التي زرعناها معًا، كبرتَ وحدك … لماذا لم أفكّر في مشاعرك حينها؟”
“…”
“أعتذر ، أدريان. أعتذر. كل تلك السنوات التي كرهتك فيها … أعتذر”
مع هذه الكلمات، أغمي على زوجة الكونت، فلم نتمكّن من مواصلة الحديث.
ركضتُ إلى الباب وناديتُ أوليفيا، وتجمّع ليتيسيا والخدم وحملوا زوجة الكونت إلى غرفتها.
ظلّ أدريان ثابتًا ككلب مهجور تجمّد عند لمسة بشريّة، فلم أستطع توبيخه لعدم تحرّكه.
“هل أنتَ بخير؟”
“هيلدا…”
عندما اقتربتُ منه وسألته بحذر، عادت الروح إلى عينيه.
أمسكتُ يده الباردة كالجليد بحرص بكلتا يديّ.
عبثتُ بيده وواصلتُ الحديث ببطء.
“كانت السّيّدة تبكي كثيرًا. يبدو أنّها كانت تنتظر في غرفة الطعام، وعندما لم تأتِ، جاءت إلى هنا.”
“…”
“من وجهة نظري، لا تبدو كأنّها تخطّط لشيء. ما رأيك أنتَ؟”
“…”
“إذا كنتَ قلقًا، هل نذهب إلى غرفتها لاحقًا؟ إذا زرتَها أوّلًا، ستكون سعيدة جدًا”
حتّى مع ترك فترات زمنيّة كافية للتفكير، لم يأتِ ردّ من أدريان.
منذ أن كان في السادسة، كانت علاقته بها كأمٍّ بعيدةً و متوترةً، فمن الصعب أن تتحسّن فجأةً. مع ذلك، كانت هذه بدايةً جيّدة.
أمسك يدي برفق وأنا أعبث بأطراف أصابعي عادةً. شدّ على يدي التي كانت مرتخيةً، وفهمتُ معنى ذلك على الفور.
رفعتُ كعبيّ وقبّلتُ خدّه.
***
بعد أربعة أيّام، تمكّنا من مقابلة السيّدة الكونتيسة.
في الواقع، بعد يومين من لقائنا الأوّل، سمعنا أنّها استيقظت، فذهبنا لزيارتها، لكنّها بمجرّد رؤية أدريان بكتْ بشدّة وأغمي عليها مجدّدًا، فاستغرق الأمر يومين آخرين.
في اليوم الرابع، دخلتُ أوّلًا لأهيّئها للزيارة، فبكتْ لكنّها لم تُغمَ عليها هذه المرّة. لا أفهم كيف يمكن لشخصٍ رقيق القلب كهذا أن يفكّر في قتل ابنها بالماء المقدّس.
“أدريان … هل كان السفر صعبًا؟ ألم تتعب من الرحلة الطويلة؟”
“أنا بخير”
“حسنًا، إن كان الأمر كذلك، فهذا مطمئن … كيف هي صحّتك مؤخرًا؟ في السابق، لم تكن تستطيع الجلوس طويلًا”
كانت الكونتيسة تبدو أحيانًا كأنّها في حلم، لكنّها كانت تبذل جهدًا لمواصلة الحديث.
كما أنّ فنجان الشاي كان يصطدم بالصحن منذ قليل بسبب توتّرها وارتجافها. أن تتحمّل كلّ هذا يعني رغبتها الشديدة في قضاء وقتٍ مع أدريان.
“لم أعد أشعر بالألم، فلا داعي للقلق.”
“حسنًا، هذا جيّد … لقد تحدّثتُ عن الماضي كثيرًا. أنا حمقاء ، أليس كذلك؟”
ربّما بسبب تجاهل أدريان المتعمّد، بدأ ارتعاش الكونتيسة يهدأ تدريجيًّا.
لكنّ أنفها كان يحمرّ أحيانًا، كأنّ الذكريات القديمة كانت تطفو فجأةً وتغلبها. كلّ ما أتمنّاه ألّا تُغمى عليها.
“أدريان.”
“تفضّلي.”
“لم أتمكّن من الاحتفال بأعياد ميلادك … طوال هذه السنوات. لذا، هذه المرّة، أعددتُ شيئًا بسيطًا. هل يمكنك أخذه معك عندما تعود؟”
“بالطبع.”
رغم أنّ حادثة الماء المقدّس وقعت في يوم ميلاده، مما يجعله موضوعًا حسّاسًا، ردّ أدريان بهدوء. بل إنّ الكونتيسة هي من بدت متردّدةً ومتوترةً أكثر أثناء تقديم الهديّة.
“بالمناسبة، هيلدا، لم أحيّيكِ بعد. تعالي واجلسي هنا.”
لوّحت الكونتيسة لي بعد أن بدت أكثر ارتياحًا لموافقة أدريان على قبول الهديّة.
التفتَ أدريان أيضًا، فنظرت إليّ عينان متشابهتان في نفس اللحظة. ومع أشعّة الشمس الدافئة التي تسلّلت إلى الغرفة، شعرتُ بقلبي يخفق بقوّة أكثر من المعتاد.
وجه واحد كافٍ ليكون مربكًا، فكيف باثنين يشبهان بعضهما كالخبز المطابق؟ يجب أن أنظر لواحدٍ فقط في المرّة القادمة …
“آسفة لتأخّر تحيّتي. لولا رسالتكِ، لما أغمضتُ عينيّ حتّى الموت. أنا مدينة لكِ كثيرًا، ومع ذلك أدعوكِ الآن فقط”
“سيّدتي، لا تقولي هذا.”
تدخّلت أوليفيا بسرعة عندما ذُكر الموت.
أغلقت فمها فورًا كأنّ الكلام خرج دون قصد، لكن أدريان كان منشغلًا بي تمامًا فلم يوبّخها.
أمسكت الكونتيسة يدي بلطف دون تعليق.
قالت الكونتيسة إنّ ذلك بفضلي، لكن الحقيقة أنّ رسالتي وحدها لم تكن لتكفي لإقناعها بهذه السرعة.
كان هناك أمر مقدس وتأكيد من الكاهن، وإلّا لربّما شكّت في نواياي وحاولت التحقّق.
بما أنّ الكونتيسة مؤمنة متديّنة، أخبرتها الحقيقة، لكن هذه المرّة كان المعبد مساعدًا كبيرًا. لحسن الحظّ، لم يتأخّر الأمر.
“شكرًا لأنّكِ اعتنيتِ بأدريان طوال هذا الوقت. لا أعرف كيف يمكنني ردّ هذا الجميل…”
سمعتُ كلمات شكر مشابهة من قبل كمجاملة، لكن هذه المرّة كانت مليئة بالصدق.
بالطبع، لقد اعتنيتُ بأدريان جيّدًا، حتّى أنّني أعددتُ له وجبات طارئة بعناية …
لكن، هل من المعتاد أن تقول كونتيسة مثلها هذا الكلام لخادمة؟ أليس من الطبيعي أن يخدم الخادم سيّده؟
تعبير “العناية” يبدو غريبًا أيضًا.
“جميل؟ هذا كثير! لقد قمتُ بواجبي كخادمة للسيّد الكونت فقط.”
“يا فتاة، هل أنتِ مثل بقيّة الخدم؟ يبدو أنّ أدريان لم يعد يراكِ خادمةً منذ زمن.”
“…”
“في الحقيقة، أنا أيضًا. أتمنّى أن تستمرّي في العناية بأدريان. هكذا سأطمئن.”
لا يمكن خداع الأمّ.
رغم أنّنا لم نظهر شيئًا واضحًا معًا، يبدو أنّها لاحظت كلّ شيء. لحسن الحظّ، لم تُدرك أوليفيا شيئًا، فلم يكن الأمر واضحًا جدًّا.
خبرة الكونتيسة لا تُستهان بها.
“لا أعرف كيف أعبّر عن امتناني لكِ. آه، ماذا لو ذهبتِ في إجازة هذا الشتاء؟ أملك قلعة في مكانٍ تكون فيه مناظر الشتاء رائعة، مثاليّة للزيارة. إن أردتِ، سأطلب من الخدم تجهيزها. الجبال الثلجيّة من أعلى القلعة تستحقّ المشاهدة”
「تمّ فتح الخريطة! يمكنكِ الذهاب إلى قلعة غلوستر.」
“سأتولّى إجازة هيلدا، فلا داعي للقلق”
「تمّ إغلاق خريطة قلعة غلوستر.」
يا إلهي، ربّة منزل تهتمّ بإجازة موظّفيها بنفسها! لو كانت الكونتيسة في كامل وعيها منذ البداية، لما كانت حياتي كخادمة قاسيةً لهذه الدرجة.
لكن، كما توقّعتُ، ما إن فتحت الكونتيسة الخريطة حتّى أغلقها أدريان بلا رحمة. شعور غريب بالديجافو …
“أدريان، ألم أقل لكَ من قبل؟ حتّى لو أردتَ الاحتفاظ بها بجانبك، يجب أن تفكّر في مشاعر هيلدا. كم سيكون محبطًا لها البقاء في القصر طوال الوقت؟ ربّما لا تقول ذلك، لكنّها بالتأكيد تشعر به.”
「تمّ فتح الخريطة! يمكنكِ الذهاب إلى قلعة غلوستر.」
“معرفتكِ بذلك كافية. سأتولّى الأمر بنفسي بعد الآن.”
「تمّ إغلاق خريطة قلعة غلوستر.」
“هيلدا، لا تقولي شيئًا واستمعي إليّ فقط. إن تُرك الأمر له، لن تحصلي على إجازة أو حتّى لحظة لالتقاط الأنفاس.”
「تمّ فتح الخريطة! يمكنكِ الذهاب إلى قلعة غلوستر.」
“هل ستستمرّين في الهمس لها فقط؟ هيلدا قرّرت البقاء بجانبي.”
「تمّ إغلاق خريطة غلوستر.」
“يا إلهي، هيلدا، بالمعنى الدقيق، هي التي أحضرتها. يمكنني منحها إجازة بسهولة.”
「تمّ فتح الخريطة! يمكنكِ الذهاب إلى قلعة غلوستر.」
“…”
「تمّ إغلاق خريطة غلوستر.」
يا للهول، ها هما يفتحان ويغلقان الخريطة بحماس!
أردتُ أن أطلب منهما ترك خريطتي وشأنها، لكنّهما بدا و كأنّهما يتصالحان بسرعة، فقرّرتُ تركهما.
يبدو أنّني عالقة بينهما، لكنّ هذا أفضل بكثير من محاولتها قتله بالماء المقدّس. إنّه السلام، السلام بعينه.
“هيلدا، قولي شيئًا. الرجل الذي يقيّد شريكته لن يكون جذابًا. يبدو أنّه لن يعترف بذلك إلّا إذا سمعها منكِ مباشرةً.”
“هل قلتُ ذلك حقًا؟ لا أتذكّر، كنتُ صغيرةً. أخبريني المزيد”
“هيلدا.”
حاول أدريان مقاطعتها بسرعة، لكنّ الكونتيسة أجابت بحماس وعيناها تلمعان.
“بالطبع! أدريان كان يتحدّث بجديّة منذ صغره، لا أعرف عمّن ورث ذلك. كان يمشي بخطوات صغيرة وينادي ‘أمّي، أمّي’ بجديّة شديدة، كان لطيفًا جدًّا. لو لم يكن مريضًا، لكان مدلّل الجميع في البيت.”
“مدلّل … هه!”
“أمّي.”
“انظري، كانت يده بهذا الحجم.”
أمسكت الكونتيسة يدي ورسمت بحنان خطًا على راحتي بحجم نصف يدها.
إذا كانت يده بهذا الحجم … لم أرَ أدريان صغيرًا قط ، و شعرتُ بالأسف لذلك.
كان يجب أن أكون هناك! بما أنّ ماضي هيلدا مجرّد إعدادات، ألا يمكن إنشاء قائمة مثل مكتبة الذكريات لأراه مجدّدًا؟
“انتظري لحظة. هل يمكنكِ الانتظار؟ أعتقد أنّ هناك لوحة بورتريه متبقّية.”
“رأيتُ واحدة مختلطة مع الأغراض المرتبة. سأذهب لأحضرها، سيّدتي.”
“لا، سأجدها بنفسي. ابقيا هنا.”
نهضت الكونتيسة بحيويّة لا تُصدّق مقارنةً بحالتها السابقة.
خرجت مسرعةً، وتبعتها أوليفيا وهي تقول: “سيّدتي، لا تسيري بهذه السرعة. سيّدتي…”
لم أستطع رفع عينيّ عن الباب حتّى اختفتا.
“تبدين سعيدة، هيلدا.”
أوه، لقد كنتُ أبتسم دون أن أدرك. لكن كيف لا أبتسم وأنا أسمع قصص أدريان الصغير، بل وسأرى لوحة له؟
“نعم! أنا متحمّسة جدًّا. ألا يمكننا البقاء هنا شهرًا آخر؟ أشعر أنّ هناك الكثير من القصص لأسمعها”
“… حسنًا، إذا كنتِ سعيدة، فهذا يكفي.”
بدا وكأنّه لا يرغب في ذلك.
رغم أنّه لم يقل الكثير، بدا متعبًا من فكرة أنّني و الكونتيسة نتحدّث عنه. لكنّني، بغضّ النظر، كنتُ متحمّسة وأنتظر عودة الكونتيسة بفارغ الصبر.
لو علمتُ أنّ الأمر سيكون كذلك، لكنتُ عندما هدّدتُ النظام طلبتُ قائمة لمشاهدة ماضي أدريان متى شئتُ.
ركّزتُ كثيرًا على الأمور الماديّة.
بالطبع، رؤية ثروتي البالغة 10 مليارات ذهب (دون احتساب الأرقام الأقل من المليارات) تجعلني أشعر بالرضا.
وميض-!
بينما كنتُ أنظر إلى محفظتي الرقميّة بسعادة ، سمعتُ ضجيجًا من الغرفة المجاورة كما لو أنّ مشاجرة عائليّة تدور.
أصوات تحطيم الأشياء تتعالى. هل يمكنني ترك الأمر هكذا؟
“ها هو ، هيلدا. هذه اللوحة الوحيدة المتبقّية ، لكن يمكنكِ أخذها إن أردتِ.”
كانت ملابس الكونتيسة متّسخة بالغبار من الغرفة المجاورة. كانت أوليفيا تكافح لتنظيفها. عندما رأيتُ اللوحة التي قدّمتها، تحوّلت عيناي إلى قلوب.
“إنّها رائعة!”
كيف لا تعجبني لوحة طفلٍ بوجنتين ممتلئتين؟ لو كان أمامي، لقضمتُ خدّيه من اللطافة.
“هيلدا، لحظة، هذه اللوحة …”
“هل هناك مشكلة؟”
حاول أدريان منعي متأخرًا، لكنّه توقّف عندما التفتّ إليه و أنا أعانق اللوحة.
تنهّد طويلًا وأدار وجهه بعيدًا، بينما كانت الكونتيسة تبتسم وتراقب. أوليفيا كانت الوحيدة التي لا تفهم ما يحدث.
***
من اليوم التالي، كنتُ أهرع إلى غرفة الكونتيسة فور استيقاظي، وسمعتُ الكثير من قصص أدريان الصغير التي لم أعرفها.
ولحسن الحظّ، حصلتُ على لوحتين إضافيّتين، لكنّهما رُسِمَتا سرًّا، فحذّرتني من إظهارهما لأدريان. اتّفقنا على الحفاظ على السرّ، وضحكنا معًا.
رغم أنّ الكونتيسة لا تزال تبدو مريضة، إلّا أنّها استعادت حيويّتها تدريجيًّا مع قضائنا وقتًا معًا.
كانت سعيدة كأنّها لا تريد شيئًا آخر في العالم، لكنّها كانت تبكي أحيانًا عندما تتذكّر الماضي، فكنتُ أبكي معها دون قصد. الكونتيسة، في النهاية، لم ترتكب أيّ خطأ، بل كانت ضحيّة الكونت.
“هيلدا، لا تبكي.”
“لا، سيّدتي، أنتِ من يجب أن تتوقّفي أوّلًا. قلبي يؤلمني…”
“عندما تقولين هذا، أبكي أكثر…”
“عندما تقولين هذا، أصبح أكثر حزنًا…”
المشكلة أنّنا كلتينا نبكي أكثر عندما نرى الآخر يبكي.
بمجرّد أن تبدأ دمعة، تتحوّل إلى بحر من الدموع.
الأكثر معاناة كان أدريان، الذي كان عليه تهدئتنا معًا.
ذات صباح، سأل بنبرة غيورة إن كنتُ سأذهب إلى أمّه مجدّدًا، لكنّني تجاهلتُ ذلك وذهبتُ للاستمتاع.
لم أسمع كلّ قصص طفولته بعد، ولا أعرف متى سنعود إلى الفيلا، لذا يجب أن أستغلّ الوقت.
“هيلدا، لقد جئتِ. تعالي وجرّبي هذه.”
بعد أسبوع، استقبلتني الكونتيسة وهي تفرش مجموعة من المجوهرات. عندما اقتربتُ، ظهرت تفاصيل غير عاديّة.
「قلادة غريس الخاصّة
قلادة مصنوعة من الزمرد الأحمر النادر من جبال توماس. بما أنّ الزمرد الأحمر لم يعد يُستخرج، ارتفعت قيمته عشرة أضعاف مؤخرًا.」
「أقراط إيما المصنوعة يدويًّا
أقراط تتحوّل إلى اللون الزمرديّ في الضوء وإلى الياقوتيّ الداكن في الظلام.」
「سوار آمبر، تحفة حياتها
سوار مرصّع بحبات صغيرة من التوباز. بما أنّ التوباز هشّ ويصعب تشكيله، يُعتبر هذا السوار تحفة آمبر.」
“سيّدتي، هذه كلّها…”
“أوه، هذا السوار يناسبكِ. أم هذا أجمل؟”
「سوار فيرونيكا
سوار مرصّع بحجر إيريميفايت مشكّل على شكل كريستال شفّاف. أكبر حجر تمّ تهيئته في العالم، وكان الصاغة يرسمون صوره عند رؤيته.」
جرّبت على يدي سوارًا تلو الآخر، بينما كانت تعليقات العناصر تصرخ بأنّها باهظة الثمن، لكنّها بدت غير مبالية.
هذه المجوهرات يمكن أن تشتري قصرًا بسهولة … هل تنوين تسليم ثروتكِ لي؟
“هذه و تلك ستبدوان رائعتين. هذه القلادة … و الخاتم أيضًا. ربّما ثلاثة أساور أخرى. هيلدا ، هل تودّين اختيار فستان من الخزانة؟ قد تكون موضتها قديمة للخروج ، لكنّها مريحة للارتداء داخل المنزل. اختاري ما يعجبكِ”
بينما كانت تجمع المجوهرات كلصّ بنك ، فتحت أوليفيا الخزانة، وظهرت تعليقات العناصر.
「فستان عتيق للتفادي (أبيض) (+3)」
「فستان عتيق للدقّة (كحلي) (+5)」
「فستان عتيق للحظّ (زهري) (+1)」
「فستان عتيق للرشاقة (أحمر) (+7)」
“…”
بصفتها والدة الزعيم النهائيّ ، كلّ العناصر من الدرجة القديمة. رأيتُ عناصر أسطوريّة ، لكن القديمة لم ألمسها بعد.
وهي معزّزة أيضًا! لا أعتقد أنّ الكونتيسة هي من عزّزتها، بل اشترتها معزّزة مسبقًا.
“أخشى ألّا يعجبكِ شيء. الموضة قديمة، ربّما كان هذا تصرّفًا أحمق …”
“لا! مستحيل! كلّها رائعة، لا أستطيع الاختيار!”
“حقًا؟ إن لم تستطيعي الاختيار، خذيها كلّها. هيلدا، تعالي إلى هنا.”
أنا، التي كنتُ مبهورةً بالفعل بالمجوهرات والفساتين القديمة، بدأتُ أشعر بشيء من الخوف من سخائها اللافت. ما هذا؟ لا يُعقل أنها تنوي منحي قلعةً أو إقطاعيةً … لا، مستحيل.
“انظري ، هنا ، هنا ، و هنا ، توجد قلاعي. بالأحرى، هي قلاع ورثتُها عن والدي. تلك التي في الشمال ، كما ذكرتُ سابقًا ، تتمتّع بمناظر جبليّة ثلجيّة رائعة ، أمّا تلك التي تحتها فهي مريحة للعيش طوال فصول السنة. يمكنكِ زيارتها متى شئتِ للاستمتاع بالراحة. أمّا هذه …”
“سيدتي، لمَ تُرينني هذا؟”
“أليس ذلك واضحًا؟ لتختاري ما يعجبكِ.”
“ماذا؟ لكن هذا كبير جدًا … لا يُقارن بالمجوهرات أو الفساتين. ألا ينبغي أن تتركي هذه الأملاك للكونت؟”
أنا مجرّد مواطنة بسيطة تُسعدها رؤية عشرة مليارات من الذهب أحيانًا. المجوهرات و الملابس شيء ، لكن قلعة؟!
عندما سألتُها مذهولةً، هزّت الكونتيسة رأسها كأنّ الأمر لا يُعتبر شيئًا كبيرًا.
“ذلك الفتى سيحصل على كلّ شيء من والده ، أليس كذلك؟ هذا يكفيه.”
“و مع ذلك …”
“هيلدا، لا داعي للتردّد. يجب أن تمتلك المرأة قلعةً على الأقل. إذا أغضبكِ ذلك الفتى يومًا، ستحتاجين إلى مكان تأوين إليه. وإذا جاء يبحث عنكِ، لا تفتحي له الباب، حسنا؟ منذ بداية الزواج، من المهمّ أن تُمسكي بزمام الأمور. يبدو أنكِ تفعلين ذلك جيدًا بالفعل.”
يا إلهي ، تقول إنّ على المرأة أن تمتلك قلعةً على الأقل!
من اليوم ، سأجعل الكونتيسة قدوة حياتي.
“لا تعتقدي أنّه عبء. أنتِ بمثابة منقذتي. المجوهرات أو القلاع ، كلّها أشياء لا أحتاجها. إن كنتِ متردّدة ، فماذا عن أخذ واحدة فقط؟ لكن لتكن الأكبر حجمًا. حتّى لو امتلكتِ واحدة، فليكن الأفضل، أليس كذلك؟”
أشارت الكونتيسة إلى قلعة غلوستر و قالت إنّها الأفضل ، ووضعت علامة كبيرة على القلعة الشماليّة في الخريطة.
أضافت أنّه يمكنني ترك الخدم والمديرين يعملون كما هم، وكان وجهها يبدو هادئًا كأنّها استعادت سلامها الداخلي.
يقولون إنّ حبّ الزوجة يأتي من الأب ، لكنّ هذا خطأ.
حبّ الزوجة يأتي من حماتها! على الأقل ، أنا سعيدة بهذا.
***
بعد ثلاثة أسابيع من إقامتنا في الفيلا، عدنا إلى القصر.
كانت الغاية الأصليّة من الزيارة، وهي ترتيب الأمّور المتعلّقة بالممتلكات وتسليم اللقب، قد اكتملت مبكّرًا، لكنّ قضاء الوقت مع الكونتيسة جعل الوقت يمرّ بسرعة دون أن نشعر.
ربّما بسبب شعور أدريان بأنّنا قد نستقرّ هناك إلى الأبد ، قرّر بجرأة تحديد موعد العودة.
عندما سمعته الكونتيسة، بدا وجهها مظلمًا فجأة، لكنّها لم تُحاول إيقافنا، ربّما لأنّها تعلم أنّ لديه الكثير من المهام بعد استلامه اللقب رسميًا.
“عودا بسلام ، أدريان ، و أنتِ أيضًا ، هيلدا …”
في يوم عودتنا إلى القصر ، خرجت الكونتيسة رغم مرضها لتودّعنا.
خلال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها معها، بدت وكأنّها استنفدت كلّ طاقتها المتبقّية، فكان وجهها شاحبًا وهزيلًا.
كانت تكبح دموعها بعضّ شفتيها، واضحةً رغبتها في عدم إظهار البكاء أمامنا ونحن نغادر. لكنّ عينيها المتورّمتين من البكاء طوال الليل جعلتا محاولتها للإخفاء بلا جدوى.
“كونا حذرين … و اذهبا في أمان. الطريق وعر ، فتأكّدا من الراحة في منتصفه”
“نعم، سيدتي، اعتني بصحّتكِ جيدًا أيضًا، حتّى نتمكّن من العودة إليكِ مرّة أخرى.”
عندما أمسكتُ يدها محاولةً مواساتها ، بدأت شفتاها ترتجفان بشدّة.
“لا تقلقا بشأننا، واعتني بنفسكِ أكثر. هكذا … يمكننا أن نعود معًا في المرّة القادمة، أليس كذلك؟”
“…”
لم أتوقّع هذه الكلمات من فم أدريان.
صحيح أنّ علاقتهما كانت تتحسّن تدريجيًا، لكنّ أدريان، بسبب تجاربه السابقة، لم يكن قد تخلّى عن حذره تمامًا.
كنتُ أنا والكونتيسة فقط من نتعامل بحرّيّة، بينما ظلّ هو دائمًا يراقب من بعيد. كان يقول إنّ البشر قد يبدون رقيقين ثمّ يغيّرون مواقفهم فجأة كما لو قلّبوا كفّهم.
“سأعود قريبًا.”
عند سماع أولى كلماته الحميمة، لم تستطع الكونتيسة كبح دموعها أخيرًا، فانهمرت.
الكونتيسة تبكي، وأدريان يحاول تهدئتها بطريقة خرقاء.
و أنا ، و أنا أنظر إليهما ، تجمّعت الدموع في عينيّ أيضًا.
***
قبل أن نعود ، سمعتُ أنّ كلّ ما كان هاريسون يعرفه عن قضيّة الماء المقدّس كان بسبب اعتراف أوليفيا.
تساءلتُ من أين حصل على تلك التفاصيل عن سيدي ، و التي لا يعرفها حتّى أفراد العائلة ، فإذا بالمصدر هو هي.
في النهاية، بسببها تعرّض أدريان للخطر، لكن عندما سمعتُ أنّ هاريسون هدّدها بالمسدّس، قرّرتُ ألّا أحملها اللوم.
الأمر انتهى الآن، ومن الصعب الصمود عندما تكونين على وشك الموت.
عندما عدنا إلى القصر، وجدتُ رسالةً بانتظاري.
المرسل هو “جيفري”. عندما كنا في الفيلا، أرسلتُ رسالةً لإخباره بموقع جثّة هاريسون، ويبدو أنّ هذه الرسالة ردّ عليها. فتحتُ الظرف بسرعة وقرأتُ الرسالة.
***
[ إلى السيدة هيلدا ،
لقد قمتُ بدفن المفتّش في مكان مشمس بعناية. لم أتمكّن من نصب شاهد قبر، لكنّه لم يكن من النوع الذي يحبّ مثل هذه الأشياء على أيّ حال.
لحسن الحظ، أو ربّما لسوئه، أنا الوحيد الذي يعرف بنهايته.
قرّرت إدارة الشرطة التعامل مع الجثّة المزيّفة التي صنعها المفتّش على أنّها حقيقيّة و دفنها. بما أنّ الأمر يتعلّق بشرطيّ ارتكب جرائم قتل ، كان عليهم طيّ القضيّة بسرعة.
لكن الوضع ليس سيئًا تمامًا. بعد انتشار هذا الحدث ، بدأت أجواء التطهير الذاتي تنتشر داخل إدارة الشرطة.
الواقع، كما هو دائمًا، لن يتحسّن بسرعة، لكن …
لن أسألكِ كيف عرفتِ مكان جثّة المفتّش.
لكن أرجو منكِ أن تحتفظي بما فعلتُه سرًا أيضًا.
إذا كنتِ ، بأيّ شكل من الأشكال ، متورّطة في موته … قد يبدو هذا غريبًا، لكنّي أودّ أن أقول شكرًا.
أعتقد أنّ المفتّش كان يريد أن يتوقّف.
الرجل الذي عرفتُه كان أكثر عدلًا من أيّ شخص آخر و كان يشفق على الضحايا. في لحظة احتاج فيها إلى مساعدة ، ساعدتِه. الآن، بعد أن توقّف كلّ شيء ، أعتقد أنّه ممتنّ لكِ، حتّى لو لم يكن ليقولها أبدًا.
أتمنّى أن تبقي بصحّة حتّى نلتقي مجدّدًا.
جيفري ]
***
لقد دفن جيفري هاريسون. لا بدّ أنّ ذلك كان مؤلمًا له، لكن أن يُدفن على يد زميل يحترمه هو نهاية جيّدة لهاريسون.
أتمنّى فقط ألّا يحزن جيفري طويلًا بسبب هذا.
“هيلدا ، لقد عدتِ! هل كنتِ بخير؟ سمعتُ أنّ السيدة ليتيسيا ستبقى في الفيلا لبعض الوقت. هل حدث شيء هناك؟”
ما إن طويتُ الرسالة حتّى ركضت إميلي من بعيد وألقت عليّ تحيّة تلو الأخرى.
كانت تلهث، ويبدو أنّها رأتني من النافذة فنزلت مسرعةً.
صديقتي التي ألتقيها بعد شهر ،
شعرتُ ببعض التأثّر ، فضممتُها بقوّة.
“آه، آه، هيلدا.”
“سعيدة بلقائكِ مجدّدًا، إميلي.”
“ما هذا الكلام فجأة؟ مجرّد زيارة قصيرة للفيلا وتصبحين هكذا؟”
“فقط … أنا سعيدة جدًا برؤيتكِ. هل يمكنني البقاء هكذا قليلًا؟”
“بالطبع، بالطبع. يا لكِ من فتاة، تجعلين الناس يتأثّرون. أعترف أنّي انتظرتُكِ كثيرًا أيضًا.”
بدت إميلي مرتبكةً قليلًا وهي تتحدّث بحماس، ثمّ ابتسمت بخجل. أنا من يعرف جيّدًا من الذي انتظر أكثر.
حتّى عندما كنتُ منبوذةً في هذا العالم ، كنتِ تنتظرينني.
بعد قليل ، تركتُها و ذهبنا معًا لنتمشّى ولنرى “كاليكو”. كان “كركر” يتبع “كاليكو” بالفعل ، فتمكّنتُ من إعطائهما الحلوى التي أعددتُها.
أعطيتُ “كركر” المزيد من الحلوى تقديرًا لدوره في طرد هاريسون، لكنّ كلّ الحلوى انتهت في فم “كاليكو “، و مع ذلك بدا “كركر” راضيًا.
بعد ذلك ، تحقّقتُ من روزي. بمجرّد استدعائها ، جاءت مسرعةً إلى القصر بعينين تلمعان كالنجوم، وأخبرتني أنّ طولها زاد بمقدار 0.3 سنتيمتر.
كنتُ قلقةً من أنّ جرح ذراعها، الذي تسبّبت به رصاصة الماء المقدّس، لم يشفَ، لكن لحسن الحظ كان قد تعافى تمامًا.
جاء كايدن وغروفر لتحيّتي وبكيا كثيرًا، ثمّ جاءت إيفريل والأطفال تباعًا وضربوا كازيمير.
و كانت هناك ديلوريس، التي اقتربت بخجل وأعطتني وسادةً كهديّة.
بعد شهر تقريبًا، شعرتُ بالتأثّر عندما رأيتُ الجميع كما هم.
أمّا أدريان، الشخص الأهم، فلم يكن بخير تمامًا.
يبدو أنّ رؤيتي أختفي أمام عينيه تركت صدمةً كبيرة، إذ كان يستيقظ فجأة أحيانًا من نومه مفزوعًا.
كنتُ أجده يبكي بشدّة وهو يتلمّس يديّ كمن يعاني من نوبة. المشكلة أنّني كنتُ أبكي أثناء مواساته.
هل كنتُ أريد الرحيل؟ كنتُ أبكي بشدّة، فيهدأ هو أوّلًا ويعتذر راكعًا.
تكرّر هذا الموقف مرّات عديدة، لكنّ صدمة أدريان لم تختفِ.
بل إنّ بكائي كان يزيد الأمر سوءًا. أليس التغلّب على هذه الصدمة هو مهمتي الأخيرة الحقيقيّة؟ لكن ، كما هو الحال دائمًا، أنا واثقة أنّني سأنجح في إتمام هذه المهمة حتّى لو استغرق الأمر وقتًا!
***
خلال الأسابيع القليلة التالية، أصبح أدريان مشغولًا لسبب غير معروف.
كنتُ أعلم أنّه سيكون مشغولًا بعد استلامه اللقب رسميًا ، لكنّني لم أعرف تحديدًا بماذا. لم يكن يتردّد على الدوائر الاجتماعيّة أو يحاول بناء علاقات.
كلّ ما تحدّثنا عنه كان سؤاله لي عما إذا كنتُ أتذكّر شيئًا عن والديّ.
بالطبع، شخصيّة اللاعب هيلدا ليس لها والدان حقيقيّان.
عندما أخبرته أنّني لا أتذكّر شيئًا، عاد لانشغاله. وبعد أيّام، عندما دُعي ضيوف غرباء، علمتُ أخيرًا بما كان يفعله.
“أيها الكونت ، من هؤلاء؟”
“هيلدا ، تعالي و قدّمي التحيّة. هذان الماركيز و الماركيزة أرشيبالد. هما والداكِ.”
“والداي؟”
لم أسمع بهذا من قبل.
كنتُ يتيمةً تُركت في الشارع ثمّ أصبحت خادمةً في عائلة بالتزغراف، هذا هو الإعداد الأصلي.
لا يمكن أن يكون لشخصيّة اللاعب هيلدا والدان. لون الشعر قد يكون مشابهًا، لكنّ هذا لا يكفي لاعتبارهما والديّ.
لم أعرف إن كانا والديّ الحقيقيّين أم بالتبنّي، فكنتُ مرتبكةً عندما أمسكت الماركيزة يدي فجأة.
“أوه، هيلدا، أنتِ هيلدا. سمعتُ أنّكِ عشتِ كخادمة في عائلة بالتسغراف. كم عانيتِ، يا مسكينة.”
“ألا تتذكّريننا؟ حسنًا، لقد فقدناكِ وأنتِ صغيرة جدًا، فمن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك.”
“كم كنتُ مذعورةً حينها …”
نظرت إليّ بعيون دامعة وهي تُربت على يدي بحنان.
كان الأمر واقعيًا جدًا ليكون تمثيلًا.
“هيلدا، أنتِ في الحقيقة الابنة الوحيدة للماركيز أرشيبالد السابق. لكنّه توفّي بعد مرض طويل، وقرّر الماركيز الحالي رعاية ابنة أخيه. لكنّ حادثًا وقع أثناء سفرهم بكِ، فافترقتم”
كنتُ أهمس بأنّ هناك خطأً ما، لكنّ أدريان، الذي كان صامتًا، تقدّم فجأة.
حادث؟ لا يمكنني تذكّر شيء كهذا، لأنّني لم أكن أنا في تلك الفترة … أدريان يعرف هذا جيّدًا، فلماذا؟
“حقًا لا تتذكّرين شيئًا؟ لقد كنا نلتقي باستمرار، ولو لفترات قصيرة.”
“آسفون، لم نكن نعلم أنّكِ هنا. لم نتجاهلكِ. كنّا نبحث عنكِ بحرقة. لمَ لا تتكلّمين؟ هل تلوميننا؟”
“سيّدي، كما ترون، هيلدا مرتبكة من لقائها المفاجئ بكما. سأتحدّث معها بهدوء، فماذا لو عدتما في وقت لاحق؟”
كنتُ أفكّر هل يجب أن أقول إنّني أتذكّر أم لا، لكنّ أدريان تدخّل في الوقت المناسب.
“صحيح … هذه ليست قصّة تنتهي في يوم واحد. لا بدّ أنّ هيلدا مرتبكة أيضًا.”
“هيلدا، سنعود لاحقًا. إذا تذكّرتِ أيّ شيء من طفولتكِ، اكتبي لنا. سنكون دائمًا بانتظاركِ.”
غادر الماركيز بملامح حزينة، وبقيت الماركيزة تربّت على يدي بحزن لفترة قبل أن تغادر.
بقينا أنا وأدريان في غرفة الاستقبال بعد رحيلهم.
كنتُ مرتبكةً ممّا حدث للتو ، فجذبني أدريان بلطف وأجلسني على الأريكة.
“أعتقد أنّ لديكِ الكثير من الأسئلة.”
“نعم، من هم هؤلاء؟ هل هم حقًا والداي بالتبنّي؟”
“قد يكونان كذلك، وقد لا يكونان. ما هو مؤكّد أنّهما فقدا ابنة أخيهما في العام الذي عثر فيه كاهن على يتيمة، أنتِ. الشيء الوحيد المتطابق هو الاسم والمظهر. وبما أنّكِ لا تتذكّرين شيئًا، لا يمكننا التأكّد من أيّ شيء.”
“هذا … يبدو مجرّد صدفة. إذا ادّعيتُ أنّني ابنتهما ثمّ تبيّن لاحقًا أنّني لستُ كذلك ، ألن يسبّب ذلك مشكلة؟”
“إنّ كونكِ ابنة أخيهما المفقودة هو شيء يرغبان فيه، فلا داعي للقلق. يبدو أنّهما تعرّضا لانتقادات كثيرة لفقدانهما الوريث الوحيد، لذا سواء كنتِ كذلك أم لا، لن يُحدث ذلك فارقًا كبيرًا بالنسبة لهما. الأهم هو وجودكِ نفسه. كما أنّنا نحتاج إلى لقبهما، فهم أيضًا يستفيدون من ربط أنفسهم بعائلة بالتزغراف.”
لا يهمّ إن كان ذلك صحيحًا أم لا؟ كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟
توقّفتُ لحظة مذهولةً، فوضع أدريان قطعة بسكويت في فمي. كانت البسكويت مُعدّةً لتقديمها للماركيز وزوجته ، وذابت في فمي.
“بحثتُ عن الأمر تحسّبًا، ولم أتوقّع أن أجد الماركيز أرشيبالد وزوجته. لو لم أجد أحدًا، كنتُ سأشتري لقب أحد النبلاء في الحدود ، لكن هذه ظروف أفضل”
“إذن، ماذا عليّ أن أفعل الآن؟ هل يجب أن أذهب إلى عائلة الماركيز؟”
“بالطبع لا. ستعيشين هنا كما أنتِ الآن، لكن ليس كخادمة، بل كابنة الماركيز وخطيبتي.”
بعد أن أنهيتُ البسكويت، أعطاني أدريان واحدة أخرى كان يحملها.
“لن تلتقي بالماركيز وزوجته كثيرًا. ربّما مرّة أو اثنتين في السنة.”
“مرّة أو اثنتين في السنة.”
“لن يتغيّر شيء كثيرًا. الشيء الوحيد الذي سيتغيّر على الفور هو غرفتكِ. لحسن الحظ، أعددتُ الغرفة المجاورة لغرفتي.”
“لحظة، إذن … هل يعني ذلك أنّني سأتوقّف عن العمل؟ لأنّني لستُ خادمة بعد الآن؟”
“لن تحتاجي للعمل.”
حتّى لو عشتُ كخادمة، إذا كانت هويّتي الحقيقيّة هي ابنة ماركيز، فلن أضطرّ للعيش كعشيقة أو محظيّة كما كنتُ أفكّر سابقًا.
ولن أتعرّض للازدراء بسبب أصلي كخادمة كما كانت تخشى ليتيسيا. أعرف أنّ رفع مكانتي هو الحلّ الأفضل ، لكنّني شعرتُ ببعض الأسف.
ابنة ماركيز؟ هذا يعني أنّني أصبحتُ عاطلةً عن العمل بين ليلة و ضحاها! مهنتي و مسيرتي المهنيّة اختفت هكذا!
والأسوأ أنّ كوني لستُ خادمة يعني أنّني لن أرتدي زيّ الخادمة الأسطوري بعد الآن.
أنا، التي أصبحتُ كونتيسة، لا يمكنني التجوال بزيّ خادمة.
هذا الزيّ كان أوّل شيء أسطوري حصلتُ عليه عندما كنتُ فقيرةً جدًا.
من رباط الرأس إلى الفستان، المريلة، الأحذية، والقفازات، كنتُ أستمتع بتأثيرات المجموعة.
كم كنتُ مجتهدةً في تعزيزه! حتّى لو لم أرتدِه بعد الآن، سأظلّ أنظر إليه من حين لآخر.
“و شيء آخر. ستحتاجين إلى ترتيب علاقاتكِ مع من حولكِ. الأشخاص الذين تعرّفتِ إليهم كخادمة سيصبحون تابعين لكِ الآن.”
“ماذا؟ لكنّني لا أريد أن أفقد أصدقائي بسبب مكانتي.”
صحيح ، رفع مكانتي يعني أنّني سأبتعد عن أولئك الذين كنتُ قريبةً منهم عندما كنتُ خادمة.
هم الذين جعلوني أعتبرهم أشخاصًا حقيقيّين بدلًا من شخصيّات غير قابلة للعب، وهم سبب بقائي في هذا العالم بعد رؤية قائمة النهاية، وليس أدريان وحده.
حتّى لو أصبحتُ مع أدريان، لا يمكنني التخلّي عن علاقتي بهم تمامًا.
“صحيح، توقّعتُ أن تقولي هذا.”
“أعرف أنّ هذا ليس ما يُفترض بي فعله، وقد يُشار إليّ بأنّني بلا أصل، لكن…”
“هيلدا، ألم تفهمي بعد؟ أصلي كلّه يعتمد عليكِ. إذا كنتِ بلا أصل، فأنا كذلك. أتعلمين؟ معكِ، أنا مستعدّ لقضاء حياتي أبحر في البحر الشاسع على قارب شراعي.”
أدريان أمسك يدي بقوّة وهو يقدّم الكعكة الثّالثة.
كم يُسعدني أنّ أدريان يتفهّمني، لكنّني فكّرتُ دون قصد أنّ البيت المريح أفضل من البحر الشّاسع، أليس كذلك؟
ففي البحر لا يمكنكَ تجنّب أشعّة الشّمس، وماء الشّرب يكون ناقصًا … لكن بما أنّه كان ينظر إليّ بنظراتٍ حالمة جدًّا، لم أستطع قول ذلك بصراحة.
“إذن … إذا كان الأمر كذلك، فهذا جيّد. بالمناسبة، يجب أن نُخبر السّيّدة بهذا الأمر، أليس كذلك؟”
“لقد تواصلتُ مبكّرًا معها بشأن هذا الأمر. عندما سمعت الخبَر، فرحت كثيرًا. قالت إنّ هناك الكثير للمساعدة فيه، و أنّها قادمة إلى القصر.”
“ماذا؟ هل من المقبول أن تأتي؟”
فوجئتُ بأنّ الخبر وصل بالفعل، وصرتُ مذهولة أكثر عند سماع خبر عودتها.
توقّف أدريان للحظة ثمّ ضحك.
“ستكون بخير. لقد أرسلتُ الكثير من الممرّضين معها … و ستأتي بهدوء مع أخذ قسطٍ كافٍ من الرّاحة.”
“ومع ذلك، أشعر بالقلق من أنّها قد تُجهِد نفسها كثيرًا. لقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتّى بالعربة.”
“لو كانت في حالة صحّيّة سيّئة ، لما قالت أنّها ستأتي بنفسها. إنّ اهتمامكِ بوالدتي يُظهر قلبكِ الطّيّب. يجب أن أخبرها بذلك.”
“لكنّ تعبيركَ لا يبدو طيّبًا على الإطلاق. إنّه مخيف بعض الشّيء …”
“همم، لمَ أشعر أنّكِ تهتمّين بوالدتي أكثر منّي؟”
“هل تشعر بالغيرة؟”
“من الأفضل ألّا تتمنّي أن أغار، هيلدا.”
حاول أدريان طمأنتي قائلًا إنّها كانت ستأتي على أيّ حال حتّى لو لم يكن الأمر متعلّقًا بي، لكنّني لم أستطع التّخلّص من شعورٍ سيّء.
السّيّدة الكونتيسة في الفيلا كانت تبدو وكأنّها تُسرع في ترتيب كلّ شيء.
قالت إنّها لم تعُد بحاجة إلى المجوهرات والملابس. ورغم أنّها لاحظت شعوري بالعبء، أصرت على نقل القصر بأكمله إليّ.
حياة الإنسان شيء لا يُعرف متى وكيف ستنتهي، وأتمنّى أن تكون عادتها في الترتيب ناتجة عن مرضها المزمن، لكن رؤيتها تُجهد نفسها بهذه السرعة جعلتني أشعر بالقلق.
ربّما لأنّها مريضة، أصبحتُ قلقة أكثر من اللّازم.
آمل فقط أن يكون هذا مجرّد تخوّفٍ منّي.
***
وصلت السّيّدة الكونتيسة مبكّرًا بشكلٍ مفاجئ.
بعد ثلاثة أيّام فقط من حديث أدريان، وطأت عتبة القصر، تقريبًا بنفس السّرعة التي سافرنا بها ذهابًا وإيابًا.
كنتُ قلقة من أن تكون قد أجهدت نفسها، لكن لحسن الحظّ، بدت أفضل حالًا من المرّة السّابقة. ربّما بفضل عناية ليتيسيا و أوليفيا، بدت وكأنّها اكتسبت بعض الوزن.
ما إن وصلت، دعتْني السّيّدة الكونتيسة على الفور لتوضيح الألقاب.
قالت إنّها لم تعُد الكونتيسة ، بل السّيّدة الكونتيسة السّابقة ، و أنّني سأكون الكونتيسة في المستقبل ، لذا يجب أن أناديها “أمّي” بدلًا من “السّيّدة”. و أضافت أنّها ستترك إدارة القصر لي ، لكنّها ستساعدني حتّى أعتاد على الأمر.
“هيلدا، أعلم أنّكِ تجيدين العمل، لكن إدارة القصر ليست بالأمر السهل. لن تتمكّني من أداء مسؤوليّاتكِ إذا تعلّمتِ بالمشاهدة فقط. ليس الأمر مقتصرًا على إدارة القصر. كونكِ ابنة عائلة ماركيز لا يمنع النّاس من وصمكِ بأصلكِ كخادمة. للتخلّص من هذا اللّقب ، تحتاجين إلى الكثير من التّحضير. تغيير العادات المتأصّلة في وقتٍ قصير يتطلّب جهدًا كبيرًا، أليس كذلك؟”
“ما الذي يجب أن أتحضّر له؟”
“قبل قدومي إلى هنا، أرسلتُ خطاباتٍ إلى عدّة معلّمين. ستتلقّين التّعليم الذي تلقّيته بالضّبط منهم ، دون أيّ نقصان. قد يكون الأمر صعبًا لأنّ عليكِ التعلّم بسرعة أكبر منّي ، لكنّني أثق بأنّكِ ستنجحين”
السّيّدة الكونتيسة السّابقة ، بيرسيلا ، أمسكت يدي بقوّة بنبرةٍ هادئة و مريحة ، مما جعلني أشعر بالخجل قليلًا لأنّ يدي الباردة من التّوتّر كُشفت.
“قد تتوهّين في البداية لأنّها أشياء جديدة، لكن إذا اجتهدتِ ، ستحصلين على نتائج. إذا شعرتِ بالتّعب، استندي إلى أدريان أحيانًا. سيحبّ ذلك أكثر من صبركِ على التّعب. وخلال التّعلّم، من الأفضل تناول الدّواء. إذا حملتِ قبل أن تستقرّي، قد تصبح الأمور معقّدة”
“سأضع ذلك في الحسبان.”
“جيّد. ومن اليوم، سنذهب للتّمشية صباحًا وظهرًا وفي وقت متأخّر من بعد الظّهر. كلّ ثلاثة أو أربعة أيّام، سأجمع الخدم لتنظيم أعمال القصر وتعليمكِ في الوقت ذاته.”
“حسنًا.”
“إذا لم يكن هناك شيء خاص، هل نأخذ جولة الآن؟ أريد أن أرى كيف تغيّر القصر.”
على الرّغم من نبرتها القويّة، لم تكن بيرسيلا بصحّة جيّدة بما يكفي للتحرّك بحريّة، كانت تسير ببطء شديد مستندة إلى عصا.
على الأرض المستوية، كانت تتمكّن من السّير بصعوبة، لكن على الدّرج، كانتا ليتيسيا وأوليفيا تضطران إلى رفعها من ذراعيها.
“يا إلهي، أعتذر. لم ننتهِ من تهيئة الحديقة بعد، و …”
“لا بأس، أكملي عملكِ.”
خادمة كانت منهمكة في إزالة الأعشاب الضّارّة قفزت مفزوعة عندما رأتنا.
بدت متفاجئة برؤية بيرسيلا، ثمّ مرتبكة برؤيتي إلى جانبها.
كأنّ عينيها تقولان: ‘لمَ هي بجوار السّيّدة بهذا الزّي؟’ ثمّ تذكّرت: ‘أوه، إنّها ابنة الماركيز.’ و أنزلت عينيها بحرج.
واصلت الخادمة عملها دون توبيخ ، لكنّها ظلّت تسترق النّظر إلينا حتّى اختفينا خلف الزّاوية.
في كلّ مرّة نخرج فيها للنّزهة ، كنّا نصادف الخدم حوالي خمس مرّات في المتوسّط.
مرّة صادفنا مجموعة من الخدم يتحدّثون بصخب، وكانوا ينظرون إليّ بفضول، لكنّهم سرعان ما أطرقوا رؤوسهم بسبب بيرسيلا.
“هيلدا، هل تعرفين لمَ أخرج للنّزهة ثلاث مرّات يوميًّا؟”
في إحدى المرّات، سألتني فريسيلا أثناء النّزهة.
في البداية، ظننتُ أنّها تريد قضاء وقتٍ أطول معي لنتعرّف أكثر. لكن بعد عدّة جولات، أدركتُ أنّ هذا ليس السّبب.
تأكّدتُ من عدم وجود أحد حولنا، ثمّ خفضتُ صوتي.
“لتُظهري للجميع أنّني أسير معكِ؟”
“صحيح. أريد أن يرى أكبر عدد من الخدم أنّكِ معي ، حتّى لا يتفاجؤوا أو يتشكّكوا في النّهاية.”
“لذلك تتعمّدين السّير في الأماكن التي يوجد فيها أصوات.”
“لقد لاحظتِ ذلك أيضًا. ذكيّة جدًّا.”
ضحكت بيرسيلا بجمال يُشبه وجه أدريان.
بعد خطوات قليلة، شعرَت بالإرهاق و جلسَت على طاولة.
كنتُ أشعر أنّ وقت مشيها يقلّ يومًا بعد يوم. ساعدتُها على الجلوس بشكلٍ مريح و وضعتُ عصاها بجانبها بعناية.
“كلّما رأونا معًا ، كانت ردّة فعلهم متشابهة، أليس كذلك؟ على الرّغم من أنّ قصّتكِ انتشرت، لا يزالون لا يتقبّلون الأمر”
“ربّما يحتاج الأمر إلى وقت. كنتُ خادمة مثلهم.”
“صحيح. لكن يجب حلّ هذه المسألة بسرعة. الخدم بارعون في البقاء. الآن قد لا يظهرون ذلك ، لكن عندما تصبحين الكونتيسة رسميًّا، سينظرون إلى من يملك السّلطة. سأكون سعيدة إذا قبلوا بكِ كصاحبة السّلطة، لكن عادةً ما يتصرّف بعض الخدم ذوي النّفوذ و كأنّهم أصحاب القصر عند دخول سيّدة جديدة. و بما أنّكِ كنتِ خادمة مثلهم، قد يستخفّون بكِ. ليتيسيا تسيطر على الأمور الآن، لكن لا يمكنها حمايتكِ إلى الأبد.”
“…”
“أفضل طريقة لحلّ هذا بسلاسة هي استخدام السّلطة القائمة. شخصيّة مستقرّة ومطلقة يعترف بها الجميع. رغم أنّني لم أكن بكامل قواي العقليّة، كنتُ يومًا ما سيّدة هذا القصر.”
كانت بريسيلا تبدو لطيفة جدًّا، لكنّها بدأت تظهر كسيّدة واثقة أمام الجميع. كانت تُوبّخ على الأخطاء وتصحّح النّظام.
رغم مرضها ونحافتها، كانت تحمل هيبة وكرامة أرستقراطيّة.
سرعان ما اختفت الهمسات حول سلامتها العقليّة.
“هيلدا، احرصي على تكوين حلفاء داخل القصر. اختاري أشخاصًا لن يخونوكِ مهما حدث. كلّما زاد عددهم، كان ذلك أفضل.”
“سأتذكّر ذلك.”
“جيّد. هل دراستكِ صعبة؟”
“أبذل قصارى جهدي.”
لحسن الحظّ، كنتُ أعرف القراءة والكتابة مسبقًا، وإلّا لكنتُ في ورطة.
كان عليّ تعلّم ما تعلّمته بريسيلا في وقتٍ أقصر بكثير، لذا كانت كميّة الدّراسة هائلة.
قبل فترة، كنتُ أقلق من الملل بعد فقدان وظيفتي، لكن لم يكن هناك وقتٌ لذلك. كنتُ أدرس طوال الوقت تقريبًا باستثناء فترات النّزهة القصيرة!
كان لديّ سبعة معلّمين ، كلّ منهم يعطي واجباتٍ وكأنّني لا أدرس سوى مادّته. لا وقت للرّاحة بعد الدّروس.
واجبات ، واجبات ، واجبات.
كنتُ أتوق أحيانًا إلى تسليمها لأدريان عندما يعرض مساعدتي.
ما ساعدني على تحمّل هذا الجدول القاسي هو الأدوات والدّعم.
كنتُ أستخدم قلمًا أسطوريًّا لتسريع التّعلّم، وفستانًا قديمًا (+7) للرّشاقة في دروس الرّقص، وفستانًا قديمًا (+9) للذّكاء في دروس التّاريخ والآداب والتّربية، وفستانًا قديمًا (+1) للحظّ في الامتحانات، ممّا جعلني أجيب حتّى على الأسئلة التي خمّنتها بشكلٍ صحيح.
مع الجهد الشّاق و الدّعم ، كانت النّتائج مذهلة.
أحيانًا كنتُ أتساءل لمَ كلّ هذا العناء، بينما كنتُ أعيش حياة جيّدة كخادمة، لكن بما أنّني قرّرتُ البقاء إلى جانب أدريان ، لم يكن هناك خيار آخر. و إذا كنتُ سأفعل ذلك ، فأردتُ فعله بشكلٍ صحيح.
ابتسمت بريسيلا بسعادة لردّي.
“جيّد. المعلّمون يمدحونكِ جميعًا. واصلي هكذا. هيّا ، لنذهب إلى هناك … كحح”
“أمّي، إذا كنتِ تشعرين بتوعّك، هل نعود مبكّرًا اليوم؟”
يبدو أنّ العودة إلى القصر أرهقت بريسيلا، فقد كانت حالتها تسوء يومًا بعد يوم. أوصى الطّبيب بالرّاحة، لكنّها لم تستمع.
رفضت مساعدتي بعناد، ووقفت مستندة إلى عصاها.
إنّها عنيدة مثل أدريان.
“لا، أنا بخير. السّعال بسبب الهواء الجافّ فقط. وهذا الوقت مليء بالخدم، لا يمكننا تفويت الفرصة”
“لكنّكِ تبدين متعبة. هيّا نعود”
“أنا بخير حقًّا ، هيلدا. يمكنني الرّاحة بعد الموت. الآن ، يجب أن أقوم بآخر ما يمكنني فعله”
“لا تتحدّثي هكذا ، من فضلكِ”
“أعتذر إذا أزعجتكِ ، لكنّني اخترتُ الموت من قبل. أعيش الآن حياة إضافيّة بفضلكِ. تناولتُ الطّعام مع أدريان مؤخّرًا … ويبتسم لي أحيانًا. لن أندم حتّى لو متّ غدًا”
“…”
“لنعد الآن. الشّمس حارّة اليوم بشكلٍ غير عادي”
ضحكت بريسيلا بخفّة و كأنّها تتحدّث عن شخصٍ آخر ، و سارت ببطء. على الرّغم من ضعفها ، بدأتُ أحترم قوّتها.
واصلت بريسيلا جدولها المزدحم. تجاهلت تحذيرات الطّبيب و واصلت التّفقّد و التّمشي. كانت تدعو النّبلاء مرّة شهريًّا لتعرّفني بهم ، و أقامت حفلات شاي باسمي بفخامة.
بفضل جهودها، بدأت النّظرات التي تقول: ‘كانت خادمة مثلنا’ تتلاشى، لكن بعض الخدم لم يتقبّلوا الأمر.
كانت بريسيلا تلاحظهم بدقّة، وتضعهم تحت إمرتي، وتوبّخهم بشدّة، وتطردهم إذا لزم الأمر.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 201"