—طَق، طَق، طَق.
دوّى صوت طرقٍ خفيف من مكانٍ ما. كان حادًا إلى حدٍّ جعل هيلينا تشعر وكأن أحدهم يطرق مباشرةً على جبهتها.
“لن أترك هذا يمرّ…”
لوّحت بقبضتها في الهواء بلا وعي، لكن لم يكن هناك ما تضربه، سوى ذلك الطرق المستمر الذي ازداد إلحاحًا. وفي النهاية، لم تجد بدًّا من فتح عينيها.
“أوغ…”
تسلّل ضوء الصباح عبر النافذة، يغمر الغرفة الهادئة بلونٍ ذهبي دافئ. تجعد حاجباها.
“ما هذا؟.”
وحين نظرت حولها، لمحت ظلًا ينعكس على النافذة المغلقة. ضيّقت عينيها.
“همم…؟.”
تقدّمت سريعًا إلى المرآة، مسحت أثر النعاس عن عينيها، وسوّت شعرها الأشعث بأصابعها قبل أن تتجه نحو النافذة. كانت النافذة تطل على شرفة صغيرة بالكاد تتسع لشخصٍ أو اثنين.
وكان هناك شخصٌ جالس على الحافة.
في هذا الوقت المبكر، لم يكن هناك سوى رجلٍ واحد قد يأتي بحثًا عنها.
‘حتى لو اعتذرتَ الآن، فقد فات الأوان، بنجامين إيشبيرن.’
أخذت هيلينا نفسًا عميقًا وفتحت النافذة. قفز الرجل في الشرفة واقفًا، وناداها بصوتٍ مضطرب:
“هيلينا…!.”
“ماذا؟ لماذا أنت؟.”
“أنا آسف! لم أتخيل أبدًا أن تصل الأمور إلى هذا الحد….”
كان الرجل المرتجف أمامها هو نفسه سبب كل هذه الفوضى، وليّ عهد الإمبراطورية، الأمير روفوس أربيند.
للحظةٍ عابرة، راود هيلينا اندفاعٌ جارف لأن تدفع الأمير البائس من الشرفة. لكن، للأسف، كان لا يزال وريث العرش.
بدلًا من ذلك، غرست إصبعها بقوة في صدره وقالت بحدّة:
“اشرح.”
“أ-أشرح ماذا؟ كنت صادقًا…!”
“لا تضحكني. هل أحببتني فعلًا؟ حسنًا، لنفترض أنك فعلت. لكن هل كان هذا أفضل ما لديك؟ أن تعترف أمام خطيبتك وجلالة الإمبراطورة؟! حتى ألدّ أعداء والديّ لا أفعل بهم ذلك!.”
“لـ-لهذا جئت أعتذر الآن! قطعت كل هذه المسافة!.”
“يا للروعة. اخترت هذا الصباح، صباح اليوم الذي أُساق فيه إلى المذبح كأن حبلاً يلتف حول عنقي، لتعتذر؟ توقيتك مثالي. لو كنت أسرع قليلًا، لكنتَ الآن في العالم الآخر.”
“كـ-كنتُ مُراقَبًا أنا أيضًا!.”
صرخ روفوس محتجًّا:
“أنا وليّ العهد! هل تعرفين كم كان صعبًا أن أتسلل كالفأر؟.”
حدّقت هيلينا فيه بعينين ممتلئتين بالضيق. كان هناك وقتٌ اعتبرته فيه صديقًا عزيزًا، أما الآن، فلم تعد تحتمل حتى النظر إليه.
“إذًا؟ لماذا جئت؟.”
“هاه؟.”
“قلتَ إن التسلل كان صعبًا. لا تقل لي إنك تحملت كل ذلك فقط لتقذفني بعذرٍ تافه لا يساوي حتى قطعة نقدية واحدة.”
“قطعة نقدية! هاه…”
بدا روفوس وكأنه على وشك الانفجار، لكنه تمالك نفسه. لم يكن لديه وقت للجدال.
$لم آتِ لأعتذر.”
“إذًا لماذا؟.”
“هيلينا، هناك أمر لا تعرفينه.”
ابتلع ريقه بصعوبة، ثم قال أخيرًا:
“الكونت بنجامين إيشبيرن. الجميع في العاصمة يظنونه نبيلًا وسيمًا وثريًا، لكن الحقيقة هي—”
“من الخارج لامع، ومن الداخل أسوأ من حبارٍ فاسد؟ متعفن ومنهار؟.”
“ماذا؟ ا-انتظري… كيف عرفتِ؟.”
بدأت هيلينا تضرب صدره بقبضتيها.
“أعرف، أعرف، أيها الأحمق! أتظن أن جلالة الإمبراطورة كانت لتغضب منا إلى هذا الحد لو كان الأمر بيننا فقط؟ بالطبع لا! ولم تكن لتزوجني من شاب غني وطويل ووسيم كعقاب!.”
“آه! توقفي، توقفي!.”
أمسك روفوس بمعصميها أخيرًا، وتنهد بعمق قبل أن يتابع:
“فلنهرب.’
حدّقت فيه هيلينا طويلًا، ثم أفلتت يديها من قبضته، وبدأت تضربه في معدته بدلًا من ذلك.
“اذهب! اخرج من أمامي وتوقف عن جعل حياتي أسوأ!.”
“آخ! لماذا قبضتاكِ عنيفتان هكذا يا هيلينا؟! ا-اسمعيني! لا أقول أن نهرب بلا خطة، هناك خطة!.”
كان يصرخ وهو يتفادى ضرباتها.
“هناك أرض في تيسيري ورثتها عن الأرشيدوق الراحل. إرثٌ سري، لا أحد يعرف به. سيستغرقون وقتًا طويلًا ليعثروا علينا. يمكننا الهرب إلى هناك، نحن الاثنان فقط، نختبئ حتى تهدأ الأمور، ثم نعود!.”
“هذا أكثر شيء سخيف سمعته في حياتي—!”
“يا له من هراء!.”
كان هراءً. ومع ذلك، كان مغريًا على نحوٍ غريب.
“تخيل مدى صدمة جلالة الإمبراطور والإمبراطورة، ووالديّ أيضًا…”
خصوصًا الإمبراطورة، التي رأت في هذا الوضع فرصة مثالية لاستخدامها كورقة، ووالديها، اللذين تصرفا وكأن سنًا فاسدًا قد اقتُلع أخيرًا.
“وفوق ذلك، سيجلب العار التام على بيت إيشبيرن ودوقية بايارد!.”
حسنًا، هذا كان مبالغًا فيه قليلًا. لكن تخيّل وجه الكونت إيشبيرن حين يكتشف أن المهر الذي ظنه مضمونًا قد تبخر، كان كافيًا ليمنحها شعورًا انتقاميًا لذيذًا.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها تدمير حياتها من أجل انتقامٍ لحظي.
تمسكت هيلينا بعقلها بكل ما أوتيت من قوة.
‘لا. هروب؟ ومع روفوس تحديدًا؟ إن كنتِ ستتعلقين بحبلٍ فاسد، فاختاري على الأقل حبلًا أقل تعفنًا.’
لكن هذا الحبل المتعفن كان يقف أمامها الآن، قال:
“هيلينا، لنهرب معًا. لنكسر كل القيود التي فرضها علينا هذا العالم، ونبحث عن الحرية!.”
الحرية.
عند هذه الكلمة، تجمدت هيلينا. كانت تعلم أن الأمر سخيف، بل عبثي.
لكن الحرية، كانت كلمة تبرر كل شيء.
شعرت فجأة وكأن ريحًا عاتية هبّت من خلفها، وكأن جسدها قد يطفو معها، خفيفًا كالهواء. دفعة واحدة، قفزة واحدة، وقد تطير إلى أي مكان.
مرة واحدة فقط، لو أغمضت عينيها وقفزت، شعرت أنها قد تصل إلى أي مكان تشاء.
ثم—
“آآآآه!.”
شقّ صراخ روفوس الحاد أحلامها المتضخمة كإبرة. كان جسده، المتوازن بصعوبة على حافة الشرفة الضيقة، يتمايل بعنف، ثم سقط إلى الخلف.
—
هذا أسوأ ما يكون.
فكّر بنجامين إيشبيرن، وقد بلغ ضيقه مداه.
يقال إن ثروة الأغنياء تبقى حتى بعد سقوطهم لثلاثة أجيال، لكن هذا لم ينطبق على بيت إيشبيرن.
حين ورث لقب الكونت، لم يكن هناك شيء يُسمّى ثروة. لا شيء على الإطلاق.
لم يكن يهمه إن انهار اسم العائلة. لكن كان هناك أمرٌ واحد لا بد أن يفعله، وكان يحتاج إلى المال.
فاستخرج الماء من الصخر، وعصر ما تبقى من نفوذ ومال من لقبه حتى آخر قطرة. لكن حتى ذلك بلغ حدّه.
ثم جاء عرض الزواج.
لم يكن ليستغني عن مهر هيلينا. حتى لو كانت عروسه غولة، لابتسم في مراسم الزواج.
لكن الحقيقة التي اكتشفها في العاصمة، كانت أكثر إثارة للاشمئزاز من أنف غول.
«الآنسة هيلينا وينستون؟ لا يكاد أحد في العاصمة يجهل قصتها. يقولون إنها ضُبطت مع سمو ولي العهد أمام خطيبته، الآنسة بايارد، وجلالة الإمبراطورة.»
هذا ما قاله الخياط حين أعاره لباسه الرسمي.
لم يكن ساذجًا ليصدق كل إشاعة. لكن هيلينا ونستون التي رآها بعينيه، كانت امرأة تستحق الإدانة.
لا شك أنها جميلة بشكلٍ لافت. ولو لم يرَ حقيقتها، لربما انتهى به الأمر مثل أولئك الحمقى المبهورين الذين يدّعون حبها.
لكنه كان يعرف، أن البريق الخارجي ليس سوى طبقة جلدٍ رقيقة.
كان يعرف ذلك لأنه هو نفسه كذلك. قشرته جميلة وقوية، لكن داخله متعفن، ينهار إلى غبار وطين.
وكان يعتقد أن هيلينا وينستون تشبهه.
تلك الابتسامة المبهورة التي وجهتها إليه، كانت جميلة، نعم.
لكن حين تذكّر كيف استُخدم ذلك الوجه ذاته لإغواء ولي العهد، وكيف خلّف جرحًا لا يندمل في قلب خطيبته، لم يعد يراها جميلة فحسب.
امرأة قاسية.
وأتباع تلك المرأة لم يكونوا أرحم منها. لم يكتفوا بسقيه الخمر طوال الليل، بل حاولوا إنهاكه بحرمانه من النوم.
لكن هذا أظهر مدى جهلهم به.
لقد تدرب مع أشهر فرق المرتزقة في الجنوب. كمية الكحول التي شربها في حياته قد تملأ بحيرة. وقضى ليالي يقظًا أكثر مما نام.
نظر إلى أتباع هيلينا الزاحفين على الأرض، وقال بهدوء:
“هل رضيتم الآن؟ سأذهب للاستعداد للزفاف.”
وبينما كان يتجه إلى الإسطبل لإعادة جواده، رأى شيئًا غريبًا.
‘ما الذي يحدث؟.’
كان هناك مجنون يتسلق جدران قصر وينستون.
بعد أن أنهى أمر الحصان، وقف بنجامين متقاطع الذراعين يراقب. توقف الرجل أمام نافذة، وبدأ يطرق الزجاج بتوتر.
وبعد لحظة، فتحت النافذة هيلينا وينستون.
تنهد بنجامين.
هذا أسوأ ما يكون.
الزفاف بعد ساعات، وها هي تستقبل رجلًا علنًا.
ومن الواضح أنهما ليسا مجرد معارف.
حين رآها تنقر صدر الرجل بسخرية، اندفع في صدره شيء كالنار المصهورة.
لم يعد هناك سبب للتردد.
سحب سهمًا من قوسه، وأطلقه.
“آآآه!.”
صرخ الرجل وسقط جسده للخلف. لم يكن الجرح قاتلًا، إذ تشبث بالحافة، متدليًا في الهواء.
لن أدعك تفلت بهذه السهولة.
تنفس بنجامين بحدة، واتجه نحو مصدر الفوضى، حيث كانت هيلينا وينستون.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"