الرجل الذي سيصبح زوجها مع إشراقة الصباح، بنجامين إيشبيرن، بجسده المتماسك النضر كبرقوقٍ بريٍّ غير ناضج، وبعينيه الخطيرتين، كأن الحاكم أرسله اختبارًا لها، انحنى قليلًا، ولامس بشفتيه ظهر يدها، وهمس:
“قد يكون هذا لقاؤنا الأول، لكن، سيدة وينستون، هل تمنحينني شرف الرقصة الأولى؟.”
وصوته العميق الخافت، لماذا كان عذبًا إلى هذا الحد؟ كأنها تتذوّق الشوكولاتة عبر أذنيها.
وقبل أن تفكّر حتى في التمنّع أو التظاهر بالبرود، وجدت نفسها تجيب:
“حتى لو رقصنا من المقطوعة الأولى إلى الأخيرة، فلا أظن أحدًا سيعترض. ففي النهاية، سنكون زوجين بحلول الصباح، يا كونت إيشبيرن.”
ابتسم لكلماتها. رأت الانحناءة الطفيفة لشفتيه الممتلئتين ترتسم في ابتسامة مائلة، ومع ارتفاع طرف فمه الأيسر، لمحَت بين شفتيه الياقوتيتين نابًا أبيض حادًا، وكان ذلك، هو الآخر، آسرًا على نحوٍ لا يُحتمل.
تقدّما بين صفوف الراقصين، ووقفا متقابلين. وسط الجموع، تبادلا انحناءة خفيفة، وعيناهما معلّقتان إحداهما بالأخرى.
‘هذا سيئ، سيئ للغاية.’
لم تستطع هيلينا أن تصرف نظرها عنه، كأنها واقعة تحت تعويذة. مدّ لؤلؤها الأسود يده إليها. وحين وضعت يدها في كفّه الكبير المتين، شعرت برجفةٍ أقوى من تلك التي انتابتها يوم رقصت أول فالس لها عند ظهورها الأول في المجتمع.
“…!”
وفي اللحظة التالية، دار جسد هيلينا في استدارةٍ أنيقة كاملة. وحين استعادت وعيها، كانت قد انسجمت مع الإيقاع، محتواة بأمان بين ذراعي الكونت إيشبيرن القويتين.
شعرت بأنفاسه الدافئة تلامس جبينها.
“أعذريني إن بدوت غير متقن. لم تتح لي فرص كثيرة للرقص في مناسبات كهذه.”
امتزج عبق عطره بحرارة جسده المنبعثة من قميصه الحريري، رائحة غنية، مُسكرة، أعجزت الكلمات عن وصفها. وصوته العذب، حين همس قرب أذنها، كان كشرابٍ سكريٍّ يُسكب مباشرة في عقلها، حتى كادت تفقد صوابها.
كان الأمر أشبه بالسقوط في جرّةٍ من العسل الذهبي، وفي قلبها، كانت هيلينا تكافح لتبقى متماسكة.
“بالنسبة لشخص يقول ذلك، خطواتك متقنة للغاية، يا كونت إيشبيرن.”
وكان في كلماتها معنى خفي: لا تكذب، ليس وأنت كونت. لكن يبدو أن الكونت أخذها على أنها مديح.
وبابتسامة طفلٍ تلقّى الثناء، مال قليلًا وهمس في أذنها:
“لقد تدرّبت خصيصًا من أجل هذا اليوم.”
اجتاحها دوارٌ مفاجئ. فأغمضت هيلينا عينيها بحذر.
جسدٌ مثير على نحوٍ خطير، وجهٌ وسيم لا يُحتمل، والآن، لطيف أيضًا؟ هذا أسوأ ما يكون…
شعرت وكأن عليها أن تكتب رسالة اعتذار إلى الإمبراطورة كلاريسا تلك الليلة.
جلالتكِ، أعذريني، يبدو أنني أنا من وقعت في فخّ العسل.
وبينما كانت واقفة وعيناها مغمضتان، همس الكونت:
“السيدة وينستون؟.”
“…”
“آنسة هيلينا؟.”
“…”
“هل أنتِ بخير؟.”
فتحت هيلينا عينيها وقالت:
“نادِني بذلك مجددًا.”
اتسعت عيناه قليلًا.
“ولِمَ ذلك؟.”
“لأنك بعد اليوم ستناديني ‘زوجتي’، أليس كذلك؟ أود أن أسمع ‘السيدة وينستون’ و’آنسة هيلينا’ قليلًا، ما دام لا يزال بإمكاني.”
وعند كلماتها، ارتسمت تلك الابتسامة المائلة المألوفة على شفتيه. مال وهمس قرب أذنها:
“متى شئتِ. سأناديكِ كما تحبين، السيدة وينستون، آنسة هيلينا.”
توقفت الموسيقى. وحين انسلت من بين ذراعيه المتينتين، اجتاحها فراغ غير متوقّع. لكنها لم تستطع إظهار أي تعلّق في الوقت الراهن.
وبابتسامة وادعة قالت:
“أشعر بدوارٍ خفيف. أظنني سأذهب لأستريح.”
بادلها ابتسامة خافتة.
“تفضّلي، يا ليدي وينستون، آنسة هيلينا. فالليل طويل، بعد كل شيء.”
الليل طويل. الليل طويل!.
عبارة عادية، لكنها حين خرجت من شفتيه المغويتين، بدت كأكثر الهمسات إغراءً.
تمايلت هيلينا قليلًا وهي تعود إلى مقعدها، غير عابئةٍ بنظرة واحدة لمعجبيها المرتجفين غيرةً.
‘…ماذا عليّ أن أكتب في الرسالة؟.’
لقاء واحد فقط كان كافيًا ليقينٍ تام، الكونت إيشبيرن ليس رجلًا سيئًا. شاب جميل، بجسد فارس قوي وقلب نبيل لطيف، إضافة إلى لقبه وأراضيه الشاسعة.
لا يعقل أن يكون رجل كهذا مرتبطًا بتلك الجماعة الخطرة التي يُشاع أنها تهدد سلام الإمبراطورية.
وحتى لو كان، على نحوٍ ضئيل، متورطًا، أستطيع التعامل مع الأمر.
ستتزوجه. وبحكمتها ولباقتها، كانت واثقة من أنها ستسحره إلى حدٍّ يجعله ينسى أي أفكارٍ مظلمة. بين ذراعيها، وبدفء مواساتها، سينسى ماضيه المريب ويولد من جديد.
رفعت كأس عصير التفاح البارد، وارتشفت منه لتهدئة نفسها، حتى لفت نظرها فجأة الكونت إيشبيرن واقفًا في الجهة المقابلة من القاعة. كان فارسٌ متوشح برداء، يحمل شعار حاشيته، يكلّمه من خلف عمود.
وعند كلمات الفارس، تصلّب وجه الكونت أكثر مما كان طوال الأمسية. ومن دون كلمة، تبعه إلى الحديقة.
‘ما هذا؟.’
خمد حماسها، وحلّت محلّه رغبة جامحة في المعرفة. لم تتردد هيلينا. وضعت كأسها جانبًا، وتسللت بهدوء إلى الشرفة المطلة على الحديقة.
كانت الشرفة مصممة لتمنح رؤية كاملة للحديقة، لكن الشجيرات المشذبة بعناية حالت دون رؤية من في الخارج لمن بداخلها. أما الأصوات، فكانت تُسمع بوضوح تام.
ابتسمت هيلينا بمكر.
‘يا كونت، هل خففتَ حذرك؟ هذا لا يزال ضمن منطقتي، كما تعلم.’
وبمحض الحظ، كان الكونت وفارسه يتحدثان أسفل الشرفة مباشرة، خلف السياج النباتي.
حبست أنفاسها، وأرهفت السمع.
“يبدو أنك كنت مستمتعًا. أفترض أنك راضٍ عن عروسك المرتقبة؟ هذا يبعث على الارتياح.”
قال الفارس مهنئًا.
لكن ردّ الكونت جاء قاسيًا على نحوٍ مبالغ فيه:
“هراء.”
ارتعشت هيلينا.
‘ماذا؟.’
“هذا الزواج من أجل المال. النبلاء مقززون.”
شهقت هيلينا، عاجزة عن التصديق. لكنه واصل بسخرية لاذعة:
“نموذج تقليدي لنبيلة فاسدة.”
ثم تابع بازدراء:
“تجرّ الرجال حولها كأنها ملكة، مثير للشفقة.”
خفق قلبها بعنف.
“نظرتها حين رأتني، أعتقد أنني سأضعها في جناحٍ منفصل، وأتظاهر بزيارتها من حين لآخر.”
“جناح منفصل؟ وماذا لو طلبت الطلاق؟.”
“سأكون قد أنفقت المهر. يمكنها أن تعود بلا شيء.”
“لم تتغير قط.”
ثم انتقل إلى نبرة عملية باردة:
“الأهم، تكاليف السفر عبر البوابة. سنضيف حصة الكونتيسة في رحلة العودة. هل الميزانية تكفي؟.”
“ماذا؟ أنفد المال؟.”
“رسوم استئجار ملابسك الرسمية كانت أعلى من المتوقع، يا سيدي.”
“باهظة. من يصدق أن قطعة قماش تكلّف كل هذا؟.”
كان ذلك كافيًا.
نهضت هيلينا كطيف، حركاتها واهنة مرتجفة. لم تستوعب ما حدث. كانت عودتها إلى القاعة أشبه بالسير في الماء، متثاقلة، غير واقعية.
والضيوف، الغارقون في بهجة السهرة، رفعوا كؤوسهم وهللوا عند رؤيتها تعود.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"