‘…يبتسم؟.’
بينما كانت يدا الخادمة ما تزالان تعبثان بشَعرها، غرقت هيلينا في أفكارها.
«حذر كالصقر، وشرس كوحشٍ بري».
ومع ذلك، قبل عرض الزواج بعجلة شخصٍ يائس، كأنه لا يملك ترف الاختيار.
والأغرب من ذلك، أن موكب كونت إيشبيرن لم يضم سوى شخصين آخرين فقط.
ثلاثة أشخاص لا أكثر، هو أحدهم.
حتى مع الأخذ في الاعتبار أن قدومهم تم عبر البوابة، ذلك الأثر العائد إلى عصر السحرة، والذي يسمح بالانتقال الفوري بين مدن الإمبراطورية الشاسعة، فإن العدد بدا ضئيلاً على نحوٍ غير لائق.
استخدام البوابة يتطلّب كميات هائلة من أحجار السحر، وتكاليفه باهظة إلى حدٍّ فلكي، ولهذا كان من المعتاد تقليص عدد المسافرين قدر الإمكان.
لكن، مع ذلك، لا عربة، ولا خدم، ولا حاشية. مجرد ثلاثة رجال؟.
كان ذلك إخلالًا واضحًا بأبسط قواعد اللياقة.
‘ثم يأتي بعد ذلك كله… ويبتسم وكأنه سعيد؟ هل هو أحمق؟.’
حدّقت هيلينا في انعكاسها في المرآة بملامح جادّة. شَعرها، الذي صفّفته الخادمات بعناية، لمع ببريقٍ صحي، ووجهها، المزيّن بدقة فنية، بدا في أبهى صورة له.
قطّبت حاجبيها وقالت بحدّة:
“لماذا جعلتنني أبدو جميلة إلى هذا الحد؟ اجعلن الأمر بسيطًا! كالمعتاد!.”
أجابت إحدى الخادمات بحذر:
“لكن يا سيدتي، هذا أول لقاء لكِ مع الكونت إيشبيرن. من الطبيعي أن تتزيّني وتظهري في أفضل حال.”
“أحقًا؟.”
“عفوًا؟.”
رمقتها هيلينا بنظرة حادة.
“مظهري ليس المهم الآن. الأهم هو أيّ رجل يكون.”
الخادمات، وقد اعتدن على تعليقاتها المفاجئة، انفجرن ضاحكات.
“آه يا سيدتي، حقًا، ستعرفين قريبًا، وبكل التفاصيل.”
“كياهاها! بدأت مجددًا.”
وحين خفّ الضحك، مالت إحدى الخادمات نحوها وهمست بسرّية:
“سيدتي، يبدو أن كل الشائعات التي سمعناها عن الكونت إيشبيرن كانت خاطئة.”
“أي شائعات؟.”
“أنه وسيم بشكلٍ لا يُصدّق!.”
اتّسعت عينا هيلينا.
“إذن هو ليس وسيمًا حقًا؟.”
احمرّ وجه الخادمة التي كانت تحاول التماسك، ثم غطّت فمها بكلتا يديها وقالت بانفعال:
“بل هو أكثر من ذلك! لا أصدق أن رجلًا بهذه الوسامة موجود فعلًا!.”
“حقًا؟ حقًا؟.”
“أريد أن أراه أنا أيضًا…!.”
أمسكت هيلينا بأيدي الخادمات المتحمسات وضغطت عليها بقوة.
“لن تذهبن إلى أي مكان.”
“هاه؟.”
“لكن يا سيدتي، قلتِ للتو إننا يجب أن نخفف الزينة—”
ابتسمت هيلينا ابتسامة ماكرة.
“لن تذهبن.”
“آه، سيدتي!.”
“أي خادمة تترك عروسًا مرتجفة عشية زفافها لتتسلل وتلقي نظرة على وجه العريس؟ واجبكن البقاء إلى جانبي.”
“أنتِ لم تكوني مرتجفة أصلًا! كنتِ شاردة التفكير حتى الآن!.”
“إن لم أره، فلن يراه أحد.”
“واااه…!”
تنهدت هيلينا ثم قالت باستسلام:
“حسنًا، لا يمكنني أن أبدو سهلة المنال. يبدو أن عليّ أن أتأنق فعلًا. لنرَ إلى أي حد أستطيع تحويل هذه القرعة إلى عربة.”
“سيدتي، كيف تصفين هذا الوجه الجميل بالقرعة؟.”
ورغم اعتراضهن، عادت الخادمات يزيّنّها بحماسة متجددة.
وبينما كنّ يجرّبن الحُليّ المختلفة، غرقت هيلينا في أفكارها.
‘من الجيد إن كان وسيمًا، لكن إن اضطررتُ إلى طعنه في الظهر لاحقًا، فكونه وسيمًا إلى هذا الحد قد يكون مشكلة.’
—
ما إن دخلت هيلينا وينستون قاعة الولائم حتى التفتت إليها كل الأنظار دفعة واحدة.
كانت فاتنة حدّ الاختناق.
شَعرها الكستنائي الكثيف تزيّن بلآلئ تزن قرابة الكيلو، وفستانها الفضي انسدل عند الحاشية بطبقات من الدانتيل البنفسجي والقرمزي.
تعالت أصوات الإعجاب من كل زاوية:
“السيدة هيلينا وينستون، ما زلتِ جميلة كعهدك!.”
لكن هيلينا لم تبدُ راضية تمامًا.
وقفت عند درابزين الدرج العظيم المؤدي إلى القاعة، رفعت رأسها وخصرها بثقة، ومسحت بنظرها المكان ثم قالت:
“أي يومٍ هذا؟ لا أصدق أن القاعة ممتلئة إلى هذا الحد.”
وعند كلماتها، اندفع معجبوها الأوفياء، المنتظرون أسفل الدرج، صعودًا نحوها.
قبّلوا ظهر يدها واحدًا تلو الآخر، وكلٌّ يعلن عشقه:
“سيدة هيلينا، أنتِ الملكة الأبدية لقلبي…”
“حتى لو أصبحتِ زوجة رجلٍ آخر، فلن تتغير مشاعري!.”
“لكِ حبي، روحي، وأبدي…”
تركت هيلينا كلماتهم الفارغة تمرّ دون اكتراث، ونزلت الدرج بخطواتٍ أنيقة، واحدة تلو الأخرى.
ثم رفعت عينيها نحو الرجل الذي يمسك بيدها وسألته بنبرة حالمة:
“إذن، من سيكون زوجي؟ هل أنت؟.”
كاد السير ستان، معجبها الأكثر إخلاصًا، أن يجيب بنعم من شدة سحرها.
لكنه تمالك نفسه وقال:
“آه، يا ملكتي، هذا الخادم الجبان لا يستحق هذا الشرف. الفارس الذي سيقف إلى جانبكِ، هو الكونت إيشبيرن، هناك.”
استدارت هيلينا ببطء شديد نحو الاتجاه الذي أشار إليه.
وكان هناك.
بنجامين إيشبيرن، واقفًا تحت عمودٍ تتدلى منه رايات مزخرفة.
يمسك كأس نبيذ بيده، وقد بدا كأنه كان يتحدث إلى بعض النبلاء.
‘أوه…!.’
شهقت في داخلها.
‘إنه وسيم فعلًا.’
وسط ألوان القاعة المتلألئة والوجوه المتعددة، برز وحده.
شَعره الأسود المتجعد، وبدلته المخملية الداكنة، جعلاه أشبه بلؤلؤة سوداء وسط صندوقٍ يعج بالجواهر.
وحين تلاقت عيناهما، استدار نحوها وشدّ كتفيه.
وقفته ذكّرتها بنمرٍ أسود يرفع رأسه بعد ترقّب طويل.
شعرت بالقوة الكامنة تحت معطفه الحريري، بجسدٍ رشيق كجسد مفترس، وبشرة شاحبة ناعمة كبرقوقٍ بري لم ينضج بعد.
‘الآن فهمت لماذا لم أجد رجلًا للزواج قط.’
وبّخت نفسها داخليًا.
‘بينما كنت أبحث في العاصمة كحمقاء، كان هذا الرجل مختبئًا في أقصى الجنوب.’
ابتسمت له هيلينا ببطء، ابتسامة كسولة موجّهة لوحشها، لبرقوقها البري.
وحين أدرك إيشبيرن أنها تبتسم له، تجمّد في مكانه. لا وجهه وحده، بل جسده بأكمله، كأنه سُمّر في الأرض.
راقبته هيلينا بخيبةٍ خفيفة.
‘سهلٌ جدًا.’
بعد لحظة، وضع كأسه جانبًا، اعتذر ممّن حوله، وتقدّم نحوها بخطواتٍ طويلة وهادفة.
ثم همس بصوتٍ حلو:
“إنها أنتِ.”
مدّت هيلينا يدها إليه بطبيعية.
“نعم. أنا هي.”
خفض نظره نحو يدها.
لم يكن فيه شيء غير جميل. بشرته البيضاء كالرخام، رموشه السوداء الكثيفة، وشفته اللامعتان بلون الياقوت، مغويتان على نحوٍ غير معقول.
“آه.”
وبعد لحظة، فهم ما تريده. أمسك يدها، وارتسمت على وجهه ابتسامة عميقة.
حين ابتسم، تغيّر كل شيء فيه؛ رقّت ملامحه، وبرزت خطوطه الرجولية بقوة أكبر.
انحنى قليلًا، نظر إليها بعينين حمراوين كالروبي، وطبع قبلة خفيفة على ظهر يدها.
حافظت هيلينا على ابتسامتها، متجاهلة الإحساس الذي بثّته شفتاه، وفكّرت:
‘لقد تورّطت.’
وفي تلك اللحظة، انطلقت موسيقى جديدة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"