“روفوس، حاول بجدية أكبر.”
“نغغ…!”
تعلّق روفوس بسياج الشرفة بكلتا يديه، يشدّ بكل ما أوتي من قوة. لكن جسده ظلّ متدلّيًا بعناد، رافضًا أن يتحرك قيد أنملة.
هل كل تلك العضلات للزينة فقط؟ إنه عديم الفائدة تمامًا.
“أوووخ، هاه…!”
راح يركل ويتلوّى، محاولًا إدخال قدمه في نتوءٍ بارز من الجدار. لكن محاولته باءت بالفشل.
بعد لحظة تردّد، قالت هيلينا:
“ما رأيك أن تترك يديك؟ الارتفاع ليس كبيرًا.”
“أ-آه! هيلينا، هذا قاسٍ…! أنتِ تعلمين أنني أخاف المرتفعات، كيف تقولين شيئًا كهذا؟.”
أنين روفوس وهو لا يزال متشبثًا بالسياج كان مثيرًا للشفقة. وهي تراقبه، وقعت هيلينا في حيرةٍ خانقة.
ماذا أفعل الآن؟ هل أنادي أحدًا؟ لكن كيف أشرح هذا المشهد أصلًا؟.
في تلك اللحظة، دوّى طرقٌ قوي على باب غرفة النوم خلفها. حسمت هيلينا أمرها.
“روفوس، تمسّك قليلًا فقط.”
أسرعت نحو الباب لتطلب المساعدة، لكن الشخص الذي كان يقف خلفه كان آخر من ينبغي له أن يرى هذا الموقف.
“اعذريني.”
قالها بنجامين إيشبيرن، ثم تجاوزها ودخل غرفة النوم دون تردد.
تجمدت هيلينا لحظة، ثم استعادت وعيها وصاحت بحدّة:
“ما الذي تظن أنك تفعله؟.”
كان واضحًا إلى أين يتجه، مباشرة نحو الشرفة حيث كان روفوس معلقًا. تحركت هيلينا بسرعة ووقفت أمامه، تحجب طريقه بنظرةٍ حادة.
“اقتحام غرفة نوم سيدة هكذا أمر لا يُصدّق! هل نسيت أننا لم نتزوج بعد؟.”
حدّق فيها بنجامين بنظرةٍ قاتمة، ثقيلة، قبل أن يقول:
“سنكون كذلك بعد بضع ساعات. هل في ذلك مشكلة؟.”
“على أي حال، لسنا متزوجين الآن.”
وأشار بيده نحو الشرفة.
“أحتاج أن أرى ما هناك.”
“ولِمَ تحتاج إلى ذلك؟.”
:لأن هناك أمرًا عليّ التأكد منه.:
:لا يوجد شيء! لا شيء على الإطلاق!.:
وبينما كانت تحاول جاهدة منعه، تجعّد جبين بنجامين الشاحب بضيقٍ واضح.
“إذًا أنتِ تكذبين عليّ؟ هاه، فهمت. أنا الشخص الذي ترين أنه لا بأس بالكذب عليه، أليس كذلك؟.”
“آآآه!.”
في تلك اللحظة، شقّ صراخٌ مدوٍّ ، الهواء من جهة الشرفة، وتلاه صوت ارتطامٍ ثقيل بشيءٍ ما في الأسفل.
انقبض وجه هيلينا لا إراديًا، ثم أسرعت تضبط ملامحها. لم تستطع النظر إلى عيني بنجامين، فاكتفت بالتحديق في النافذة وعضّت شفتها.
“هل لا تزالين ستقولين إنه لا يوجد أحد هناك؟.”
“…”
لم تستطع الإجابة. كل ما فعلته هو أن غرست أسنانها في شفتها بصمت.
في اللحظة التالية، امتدت يد بنجامين الكبيرة وأمسكت بذقنها وخدّها. شهقت هيلينا فزعًا.
حاولت الإفلات من قبضته، لكنها، لسببٍ ما، لم تستطع التحرك. بقوةٍ لا تقبل المقاومة، أدار وجهها نحوه، مجبرًا إياها على لقاء نظرته.
“أستتجاهلينني الآن؟ لا تُشيحي بنظركِ. هذا عقابكِ.”
قاومت هيلينا بكل ما لديها لتبعد يده عن وجهها. لكن قبضته كانت كبيرة، قوية، لا تُكسر. لم تستطع التحرّك ولو بوصة واحدة.
كأنها كانت مقيّدة بالسلاسل.
ثم راحت عيناه، بلون الدم القاتم، البارد حدّ القشعريرة، تتأملان وجهها ببطء، شبرًا شبرًا. كأنه يبحث في ملامحها عن دليل إدانة مكتوب بحروفٍ دقيقة.
شحبت ملامح هيلينا من الإذلال.
“اتركـ…ـني…!.”
لم تُعامل بهذا الشكل قط. حتى حين كانت صعبة المراس، لم يرفع الكونت وينستون يده عليها يومًا. وكذلك زوجة أبيها، ميا. ربما ضغطوا على صدورهم غيظًا، لكنهم لم يمسوها أبدًا.
محاصَرة، لم تحاول هيلينا حبس دموعها. وعينان دامعتان، صاحت:
“أيها الوغد! اتركني!.”
لكن بنجامين إيشبيرن كان حقًا رجلًا بلا دموع، وبلا قلب.
حتى وهو ينظر إلى عينيها الممتلئتين بالدمع، لم يبدُ عليه أي تعاطف. بل على العكس، ازداد صوته برودة، مشبعًا بالتهديد.
“لا تنسي أن اليوم هو يوم زفافنا. إن هربتِ الآن، فسيكون الأمر أصعب في المرة القادمة.”
ذلك التهديد البائس محا دموع هيلينا في لحظة. تحولت ملامحها إلى غضبٍ محتدم.
“اتركني. وإن لم تفعل، سأصرخ وأستدعي الخدم.”
“حينها سأطلب منهم البحث عن الرجل الذي سقط من شرفتكِ. آنسة هيلينا، السيدة وينستون، توقفي عن الهرب كالجبناء، وقولي الحقيقة.”
‘جبانة؟ هل وصفني بالجبانة؟.’
اشتعلت عينا هيلينا الخضراوان غضبًا. جزّت على أسنانها وصرخت:
“حسنًا! نعم، كان ولي العهد روفوس هنا! ظهر فجأة، ماذا كنتَ تتوقع مني أن أفعل؟.”
أخيرًا، تركها بنجامين. وضعت هيلينا يديها على وجهها تلهث.
كان خَدّاها ينبضان بالألم، ربما لأن اللحم الطري داخل فمها انضغط بقوة، وكان طعم المعدن يملأ فمها.
أبقى بنجامين نظره عليها وهو يتجه نحو الشرفة ويفتح النافذة ببطء. لم يكن هناك أحد.
أسرعت هيلينا إلى الشرفة ونظرت إلى الأسفل. عدا شجيرة مشذبة وقد سُحقت، لم يكن هناك شيء.
يبدو أن روفوس كان محظوظًا، لا بد أنه سقط فوق الشجيرة ونجا.
تنفست هيلينا الصعداء، واضعة يدها على صدرها.
“هاه…”
كان هذا المنظر يثير أعصاب بنجامين. إن كان ولي العهد قد أتى من تلقاء نفسه كما زعمت، فلم يكن ينبغي لها فتح النافذة. وبالتأكيد لم يكن ينبغي لها أن تقف أمامه الآن، واضحة القلق على ذلك المتطفل.
اقترب بنجامين ووقف إلى جوارها. كانت الشرفة ضيقة إلى حدٍ جعل هيلينا تسند ظهرها إلى السياج.
أمام عينيها، مرر أصابعه ببطء على حافة السياج. انتشرت لطخة من دم روفوس على السطح.
عند هذا المشهد المقزز، أدارت هيلينا رأسها سريعًا. لكن يد بنجامين الملطخة بالدم لامست خدّها.
“أرى الآن كم أنتِ متسامحة حقًا.”
ارتجفت كتفا هيلينا بعنف من إحساس تلك اليد اللزجة على وجهها. نظر إلى وجهها وقال بصوتٍ عميق، بارد:
“لكن من الآن فصاعدًا، أنصحكِ بأن تتصرفي بما يليق. لا رغبة لديّ في مشاهدة شيء كهذا مرة أخرى.”
—
كان زفاف هيلينا وينستون وبنجامين إيشبيرن فخمًا وأنيقًا، يليق بنبل بيتين عريقين. وقد سرّح بنجامين شعره الأسود الطويل بعناية، وارتدى لباس الزفاف الرسمي، وتلا عهود الزواج بصوته الهادئ العذب.
“وبصفتي ربّ بيت إيشبيرن، والقيّم على أراضي بيروود العظيمة، أقسم أمام الحاكم وبيتينا الموقّرين أن نمضي قدمًا كزوج وزوجة بحكمةٍ وأمانة، متحدين جسدًا وروحًا.”
وهي تستمع إلى العهود التي ينطق بها الرجل الذي سيصبح زوجها، فكّرت هيلينا:
‘أن يكون المرء تعيسًا في زواجٍ سياسي أمر شائع. والزواج لدرء فضيحة أو لأجل المال، ليس نادرًا. لكن هل هو شائع أن يتبيّن أن الشريك الموعود مختلّ العقل؟.’
ارتجفت شفتاها وهي تتلقى عهوده. ثم تحركتا ببطء.
“أنا، هيلينا وينستون، أتخذك، بنجامين إيشبيرن، زوجًا لي.”
وما إن خرجت الكلمات من فمها، حتى مرّت حياتها القصيرة أمام عينيها كخيطٍ من الذكريات.
“…وأشكر الحاكم أن الحياة التي سأعيشها معك ستكون أطول من الأيام التي عشتها دون أن أعرفك.”
كانت ساذجة. مغرورة.
“وأقسم أن أحترمك دائمًا، وأن أكون زوجة محبة.”
—طَق.
وهي تجبر نفسها على قول ما لا تعنيه، عضّت دون قصد على اللحم الطري داخل فمها.
عندها، نطق بنجامين باسمها:
“هيلينا.”
حدّقت فيه بعينين متقدتين.
‘ماذا تريد، أيها الوغد.’
لم تشعر بمثل هذا الحقد في حياتها قط.
بنجامين إيشبيرن. نبيل مفلس، لا يملك سوى وجهٍ جميل، وتزوجها فقط ليضع يده على مهرها.
لو كان الأمر كذلك، لوجب عليه أن يعبدها كملكة.
لكن بدلًا من ذلك، صدق إشاعاتٍ لا أساس لها في العاصمة، وعاملها كامرأة مستهترة فاسدة، منهارة بالكامل.
قوبلت نظرتها المحترقة بالازدراء بابتسامة. تلك الابتسامة الملتوية، التي ظنتها يومًا جميلة بحماقة، ارتسمت مجددًا على شفتي بنجامين إيشبيرن.
“شكرًا لكِ.”
ثم رفع يده ببطء ولمس خدّها.
“وأنا أيضًا، أقسم أن أحبكِ وحدكِ طوال حياتي.”
لكن ذلك القسم بدا لهيلينا إعلان حرب: سنكون عالقين في معركة طوال حياتنا.
‘تماسكي يا هيلينا.’
أعادت نظرها إلى عهود الزواج. لم يعد هناك طريق للعودة، فالزفاف سيتم، مهما حدث.
بنجامين إيشبيرن، لعلّك تظن الآن أن كل شيء يسير كما تريد. لكن هناك أمرًا واحدًا تجهله.
أنني هيلينا وينستون.
‘لنرَ كم ستدوم تلك الابتسامة الواثقة. هات ما عندك.’
كان هناك شيء لا يعرفه. لم تكن امرأة تعيسة أُجبرت على الزواج بسبب فضيحةٍ ومهر. كانت جاسوسة الإمبراطورة، تزوجته لغرضٍ واحد: كشف الأسرار التي يخبئها بكل يأس.
ستنتظر. ستصبر. حتى يفتح قلبه لها أخيرًا.
وحين يثق بها ثقةً تامة، ستنتزع أسراره منه، حتى آخر ذرة.
وبعزمٍ مشتعل في صدرها، تلت هيلينا عهود زواجها بصوتٍ مسموع:
“…وبصفتي سيدة بيت إيشبيرن، أقسم أمام الحاكم وبيتينا الموقّرين أن نمضي قدمًا كزوج وزوجة بحكمةٍ وأمانة، متحدين جسدًا وروحًا.”
لكن في داخلها، كانت تقطع عهدًا آخر مختلفًا تمامًا:
‘أنتَ ميت. سأكشف كل سرّ تخفيه، وسأسحبك إلى الجحيم بيدي. وإن اضطررتُ لتحمّلك، فليكن. وحين يأتي اليوم الذي تبكي فيه متوسلًا للغفران، تذكّر هذا: لن أرحمك قط.’
وما إن انتهى عهدها الصامت، حتى نطق الكاهن أخيرًا:
“بمشيئة السماء، أُعلنُكما الآن زوجًا وزوجة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"