لقد عادت… عادت حقًا.
بعد أن ودّعت بيانكا، وجدت ليندسي نفسها تعبر بوابة قصر كيسيون من جديد.
كانت أنفاسها تتسارع وهي تحاول، عبثًا، إقناع بيانكا بعدم مرافقتها، أن تظلّ بعيدة عن هذا المستنقع العائلي المظلم.
لم ترضخ بيانكا إلّا بعدما سمعت أن على ليندسي أن تواجه أمرًا لم يُحسم بعد داخل بيت كيسون، وأن ثمة عقدًا قديمًا لم يُفكّ بعد.
توقّفت ليندسي أمام ذلك القصر الشاهق، قصرٍ مهيب في حجمه، خانق في حضوره، وارتسمت على محيّاها ابتسامة مُرة كجرعة دواء فاسد.
‘حين كنتُ في كوريا، لم أتصوّر لحظة أنّ قدماي ستجرّانني إلى هنا ثانية. كنتُ أظن أنّ كل شيء انتهى… أنني متُّ بالفعل وانقطعت صلتي بهذا الجحيم. لكن ها أنا ذا، أعود بخطاي أنا، أعود بكامل وعيي.’
الحرّاس الذين حرسوا البوابة نظروا إليها بدهشة لم تُخفَ عن عينها.
لم يفتحوا الأبواب إلا بعدما نطقت بكلماتها الثقيلة: لقد تجلّت فيها قوّة مقدسة. ومع ذلك، فتحوا الأبواب على مضض.
وإن كنتُ كاذبة؟ فليكن العقاب نصيبي.
مضت بين ممرات القصر. لم يكن في نفسها أدنى رغبة بمقابلة والد، أو إخوة، أو أرواح سامة تحمل ملامح البشر.
كل ما أرادته هو أن تدخل غرفتها، أن تحتمي بها، أن تُبعد عن نفسها ولو قليلًا من النزف الداخلي الذي يسكنها.
لكن الصوت انقضّ عليها فجأة، يخترق جدران الممرات كالسكين:
“ليندسي كيسون!”
توقّفت، وزفرت تنهيدة ثقيلة.
ها قد بدأ الأمر… لم يكن ليُكتب لها أن تمشي بسلام في هذا القصر.
التفتت، فرأت الوجه الذي ظلّ محفورًا في أعماق ذاكرتها، الوجه الذي اقترن دومًا بالازدراء والبرود:
رايسيس كيسون.
وقف أمامها مذهولًا، وكأن ظهورها أمامه إهانة لطبيعة الكون. شعّ شعره الفضيّ تحت أشعة الشمس كوميضٍ من فولاذ بارد، أما ملامحه الجميلة فكانت قاتلة بقدر ما هي آسرة، كالوردة التي تخبئ في أعماقها سمًّا أسود.
قال بحدة.
“كيف تجرأت على الدخول؟”
ظلّت صامتة.
أردف، وصوته يتقطر ازدراءً:
“ألم يقل لكِ الأب ألّا تعودي قبل أن تُبرهني على جدارتك؟”
نظرت إليه بعينين صامتتين. لقد كانت تعرف والدها: عنيد، متحجّر القلب، يتكاثر أولاده كالأشباح، لكنهم جميعًا يشتركون في شيء واحد…
كراهيتهم لها. ورايسيس، لم يكن استثناءً؛ بل كان أشدهم قسوة في احتقار الضعف.
‘أنا من اتُّهِمت بضياع إرث أمه…’
لم يكن ذلك ذنبها. لكن الحقد الذي يكنّه لها خدم القصر، مع شهاداتهم المزوّرة، جعلها تحمل العار.
كانت تعرف من الفاعل، بل تكاد ترى وجهه في ذاكرتها، لكن كشفه سيأتي في حينه.
غامت عيناها بالحزن، وتذكّرت كلماته الباردة يوم خُطبت إلى آزيت:
> “هنيئًا لكِ، لقد وجدتِ لنفسك فائدة أخيرًا. لا تعودي إلى هذا البيت مجددًا.”
كان صوته حينها صقيعًا، واليوم صار جليدًا أكثر قسوة.
اقترب منها وقال بجمود:
“ارحلي من هنا ثانية. مكانك في دوقية راديان، حيث قيمتك الوحيدة أن تكوني جسرًا للاتحاد بين العائلات.”
ثم أكمل وهو يقطّب حاجبيه:
“لا أحد هنا يرحّب بكِ. أنتِ تعلمين ذلك جيدًا. فما الذي أعادك إلى هذا الجحيم؟”
كان صادقًا. في بيت كيسيون لا ينتظرها سوى الأب المتعطش لدمها، وإخوة يتلذذون باحتقارها، وخدم يعاملونها كما لو كانت شبحًا تافهًا. لم يكن هذا البيت منزلًا…
كان جحيمًا كاملًا. ومع ذلك، دخلته بإرادتها، وكأنها تسير إلى مصير اختارته بوعي.
صمَتَ قليلًا، ثم تمتم وكأنه يوشك أن يلفظ حكمًا مميتًا:
“سيلفيا كتبت إلى الأب… الجو مشحون، والمزاج في البيت قاتم. إن استمررتِ بهذا الطريق، فإنكِ قد…”
كان سيقول “تهلكين”.
لكن ليندسي قطعت عليه. تقدمت نحوه، وبصوت ساكن يشبه حدّ السيف، قالت:
“لا أفهم لماذا تتحدث وكأن مصيري يخصّك.”
ارتبك صمته، فواصلت، ونبرة عينيها تحمل جمرًا:
“قيمتي… أنا من يحددها، لا أنتم.”
قالت بصوت ثابت، كأنها تُلقي بحجر في بحيرة راكدة:
“إن أصبحتُ أثمن من سيلفيا راديان، فستنتهي المسألة. أليس هذا منطقك أنت؟””
انطفأت ابتسامة رايسيس كما تنطفئ شعلة في مهبّ الريح.
انعكست على وجهه صرامة غريبة، كأنّها لم تكن مجرّد كلمات بل صفعة أيقظت شيئًا يرفض الاعتراف به.
“سيلفيا راديان… قدراتها استثنائية. حتى سوء طباعها لا ينقص من قيمتها شيئًا.”
أطبق الصمت على المكان، صمت ثقيل كالأغلال.
قال أخيرًا، بصرامة تخللتها نبرة أمر:
“ما كان عليكِ العودة. كان ينبغي أن تبقي هناك، مكسورة أو حرة، لا يهم… المهم أن تبقي. تلك كانت فرصتك الوحيدة للنجاة.”
خطت ليندسي نحوه. رفعت إصبعها، ولمسته على كتفه بخفة ساخرة. للحظة تجمّد، غير مصدّق أن هذه الفتاة، التي لم يرَ منها سوى انحناء الرأس وانكسار النظرات، قد تجرؤ على لمس كبريائه.
قالت بابتسامة مائلة، مُثقّلة بالمرارة:
“هذا يكفي. أنا أفضل منها. وهكذا تُحسم المعادلة، أليس كذلك… أخي العزيز؟”
ثم، كأنها تنزع شيئًا من صدرها، أضافت ببرود قاتل:
“أوه… نسيت أن أخبرك. لا تدعوني أختك بعد الأن.”
تجمدت ملامحه. كلماتها سقطت عليه كأثقال من حديدٍ مذاب.
في داخله انبعث صوت الطفولة، صوتٌ منسيّ كان يهمس:
‘لقد كنتُ يومًا أراها أختي… كنت أمدّ لها يدي كما لو أنقذها من الظلام.’
لكن ذلك الزمن تحطّم، وانتهى حين غرس المنزل سمّه في قلبه.
‘ليندسي كيسون دمها نجس.’
‘إن أردت أن تعيش، لا تقترب منها.’
ترددت تلك الهمسات بين جدران القصر حتى اصبحت قانونًا. ومع ذلك قاوم، حاول أن يبقى لها ملاذًا.
إلى أن جاء اليوم الأسود.
> “سيدي رايسيس! إرث السيدة قد اختفى!”
> “إنها الملوثة! كانت آخر من خرج من الغرفة!”
اختفى عقد والدته، العقد المقدس الذي يُعزّز قواها. كل الشهادات اتفقت. كل الأصابع أشارت إلى وجهٍ واحد.
“تلك الحقيرة اشتهت القوّة المقدسة… ألم ترَ بنفسك كيف كانت تطمح إليها؟”
تداعت ثقته بها، وسقطت صور الطفولة في هاوية لا عودة منها.
ومنذ ذلك الحين، أعرض عنها، عاملها كما يعامل الغرباء.
والآن، وهو ينظر إلى ابتسامتها التي تحمل سرًّا لا يريد أن يصدقه، ارتعش قلبه كأنها تحمل بين شفتيها لعنة.
أفضل من سيلفيا؟ هل هذا يعني أنها أزهرت أخيرًا كـ قديسة؟
لكن… لو كان ذلك صحيحًا، لماذا إذن طُردت من دوقية راديان؟
هل يمكن أن تكون سيلفيا قد عجزت أمامها؟
لا… ذلك مستحيل.
تصلّب وجهه أكثر، وقرر في داخله:
‘إن كانت ليندسي قد دخلت قصر كيسيون بكذبة، فلن ينجو جسدها من العقاب، ولن يشفع لها أيّ ماضي.’
⋆★⋆
ابتسمت ليندسي بمرارة، نظرتها تغوص في عينيه كسهام.
“بالطبع… لا تصدقني. لم تفعل يومًا. ولن تفعل.”
لم يكن خدمُ مركيزيّة كيسيون يرون فيها سوى عارٍ يتخفّى في هيئة إنسان.
اعتادوا أن ينسجوا لها خطايا لم ترتكبها، ثم يلقون بها إلى أفواه السادة حجّةً تُنهش بها سمعتها أمام المركيز.
‘بفضلهم، تهاوت ثقة عائلتي بي… بل ووسموني بلقب (الدم الملوَّث) لأني ـ كما قيل ـ أختلق الأكاذيب.’
غدت ليندسي في نظر أسرتها كاذبةً بالفطرة.
تنهد رايسيس عند سماع كلماتها، تنهيدةً باردة أقرب إلى السأم، وقال:
“كُفّي عن هذا الهراء.”
اختفى حتى ذلك القناع المبتسم عن وجهه، وكأنَّ شيئًا في داخله قد تصدّع. نادرًا ما كان يُخذل، غير أن عيني ليندسي كانتا تنظران إليه بثباتٍ نقي، كما لو أنها لم تجبل يومًا على الكذب.
قالت بنبرة هادئة:
“سأذهب أولًا إلى غرفتي، ثم إلى المركيز.”
شهق وهو يرمقها بدهشةٍ ممتزجة بالغلظة:
“إلى أبي؟”
“نعم.”
ارتسمت قسوة على ملامحه:
“أتشتهين الموت؟… لم يكفِك رجوعك، حتى تُغامري بالذهاب إليه؟”
نظرت إليه ببرودٍ نافذ وقالت:
“أنت تعرف تمامًا ما تظنه عني. ما زلتَ تؤمن بأني مذنبة في واقعة اختفاء إرث والدتك.”
شدّد كلماته كمن يُسدل بابًا حديديًا على الحقيقة:
“كل الشهود والأدلّة أثبتوا أنكِ الجانية.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة كأنها قادمة من شتاءٍ لا ينتهي، وقالت:
“لستُ بحاجة إلى شرح شيء لك. لم تُصغِ لي يومًا، ولن تكون هذه المرّة استثناء.”
لم ترَ في الدفاع عن نفسها أمامه معنى. ففي طفولتها بين جدران مركيزيّة كيسيون، كان رايسيس هو اليد الوحيدة التي تمنّت أن تستند إليها.
لكن حين جاء الامتحان الفاصل، تركها وحدها، وأسقط كلماتها في هاويةٍ من الشك.
ولم تُضمر له حقدًا. إنما اعترفت بحقيقةٍ طالما حاولت دفنها:
‘لن أكون لهم يومًا عائلة.’
لقد كان دفء الطفولة الذي منحها إيّاه مجرد شفقةٍ سطحية، عاطفةً رخوة تُمحى مع أوّل كذبة يرويها الآخرون.
ومع ذلك، تمسكت حتى بتلك الوَهْم… خدعة الانتماء.
‘ترى… ما الذي كنتُ أبحث عنه حقًّا؟’
في عالمٍ تُقاس فيه قيمة المرء بصفاء دمه، لا مكان لمن وُصف بالدم النجس.
ومن الطبيعي أن تنال ما نالته من قسوة، في مجتمعٍ تحكمه السطوة وحدها.
لقد كانت ضعيفة… ضعيفة حتى الجذور.
صرف رايسيس عينيه عنها، وكأن الذكرى التي أبت أن تُمحى آلمته أكثر مما تحتمله نفسه، وقال بقسوةٍ مصطنعة:
“لا أعلم ما الذي تريدينه بالضبط، ولكن…”
صمتٌ ثقيل انسكب بينهما.
“… اذهبي واعتذري من سيلفيا راديان، ثم عودي. هذا هو السبيل الوحيد لنجاتك.”
مدّت ليندسي يدها فجأة، وقبضت على يده بقوةٍ تحمل كل ما تبقى من روحها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات