أسندت ليندسي رأسها المثقل إلى زجاج العربة البارد. كان الطريق يهتزّ تحت عجلات الخشب، فيما انعكست على سطح النافذة صورة وجهها الشاحب، نصفه ظل ونصفه ضوءٍ مرتجف.
أطبقت جفنيها، كأنها تُصغي إلى أنينٍ يتردّد في أعماقها أكثر مما تصغي إلى ضوضاء العالم.
‘عليَّ أن أمحو اسمي من سجل العائلة…’
ذلك السجل اللعين، الذي تُدوَّن فيه الأسماء ساعة الولادة، لم يكن كتاب نسبٍ فحسب، بل سلسلة من حديدٍ ودم، قيدًا أبدياً يربط الجسد بالمنزل، والمنزل باللعنة. كل طفلٍ يولد، يدوَّن اسمه ليكون شاهدًا على أنه ملكٌ للدم، حتى مماته.
ولهذا لم تستطع ليندسي أن تهرب يومًا، مهما ضجّت روحها بالرفض، أو تفجّر قلبها كراهية.
كان الاسم كخيطٍ شفاف يلتف حول عنقها، يسحبها حيث يشاء البيت، أينما ذهبت.
‘وهل يكفي هذا؟ أيمكنهم أيضًا أن يُسقطوا عليّ لعنة؟’
كثيرون حاولوا الهرب، لكنهم يعودون في النهاية، منهكين، مكسورين، يستجدون الرحمة…
ثم يُعاد ختمهم بخزيٍ أبدي.
لا خلاص إلا بطريقٍ واحد.
رفعت يدها المرتجفة، وكتبت على زجاج النافذة كلمة وحيدة، كلمة تنبثق من الظلام كما ينبثق النصل من الغمد:
الــمــوت.
كان والدها يعتقد — أو يتظاهر بالعقلانية — أن الاسم لا يُمحى إلا بالموت.
‘أبي رجل عقلاني… عقلاني حد القسوة.’
ارتسم وجه كرين كِسيون أمام عينيها، بملامحه الباردة وكلماته التي لا تزال تنغرز في صدرها كسكاكين:
> “ليندسي كِسيون، يجب أن تُثبتِي قيمتك. لن تفلتي من هذا المنزل حتى تُسددي كل ما تدينين به. استيقظي على القوة الملكية، وارفعي راية شرف العائلة!”
ضحكت بسخريةٍ مكتومة. أي شرف؟ أي إرث؟
> “أنتِ ابنة مركيز كِيسون. هذه الحقيقة لن تتغير أبدًا!”
حتى يوم خطوبتها من آزيت، كان يكرر الكلمات ذاتها، يلفّ حولها حبالًا وهمية باسم الدَّين، كأن الحياة عقدٌ أبديٌّ في دفترٍ غامض.
‘أي دَينٍ لي عليك، أيها الوحش؟ ما الخير الذي أوليتني إياه؟’
شعرت بالاشمئزاز يتصاعد في حلقها، كأنها تتذوق صدأ الحديد.
لكن ظلًّا آخر، أبرد وأشد رعبًا، تسلل إلى ذاكرتها:
‘كلب أبي الأبدي… ميخائيل.’
وجهه كالصخر، عيناه لا تعرفان الرحمة. يكفي أن تتذكر نظراته حتى يتفصّد عرقٌ بارد من جسدها.
هو لا يهدد، هو ينفذ. حين طرد ذلك الرجل ذات يوم، صوته كان حُكمًا لا يُستأنف:
> “اخرج… ولا تعود لتلوث عيني برؤيتك.”
ميخائيل لم يكن يتردد في القتل. لو خالفت أوامر أبيها، لكان سيقطع حبل حياتها دون رمشة جفن.
ومع ذلك، ها هي الآن، عائدةٌ إلى منزل كِسيون.
عودةٌ لا لأنها ترغب، بل لأنها الطريق الوحيد نحو الحرية.
‘لا بد أن أبذل أقصى ما في نفسي… ولو كان الثمن آخر ما أملك.’
فتحت عينيها فجأة. هناك، على مقعدها المقابل، كانت بيانكا تنظر إليها بعينين زجاجيتين، يغشاهما قلقٌ حارّ.
“ليندسي… أأنت بخير؟ وجهك شاحب. أما زلت تشعرين بالبرد؟”
كان صوتها واهنًا، مترددًا، كأنها تخاطب جسدًا من زجاجٍ يمكن أن يتشقق من لمسة.
ابتسمت ليندسي ابتسامة باهتة. ولم يكن ذلك بعيدًا عن الحقيقة.
كانت قد اغتسلت وبدّلت ثيابها في قصر بيانكا القريب قبل الصعود إلى العربة، فغدت مهيأة في المظهر، لكنها لم تستطع أن تخفي إرهاقًا يطفو كظلٍّ غامضٍ على وجهها.
قالت بيانكا بهدوء ثقيل:
“سنصل إلى قصر كِسيون قريبًا.”
ظلت تنظر إليها بنظرة نصف غائبة، نصف مشدوهة، كما لو أنها لم تستوعب بعد ما حدث.
أما ليندسي، فقد عادت روحها لتغرق في ذكرى قريبة، ذكرى اليد التي مدت إليها، اليد التي أمسكت ببيانكا في لحظة الهياج، وكيف تدفق منها تيارٌ لم تعرفه من قبل…
حرارة لا تشبه النار، بل سكينة عميقة تجتاح القلب.
حين تتذكر تلك اللحظة، ينتابها دوارٌ عذب، كأنها ذاقت شيئًا لم يُكتب للبشر أن يذوقوه.
والآن، فيما العربة تهتزّ فوق الطريق الموحل، كان الهاجس ذاته يلحّ عليها:
‘أهذا إذن… هو جوهر القوة الملكية؟’
⋆★⋆
لم يكن ثمة تفسير آخر…
إنها الرابطة الغامضة التي تنسج خيوطها بين الكائن المتعالي وذاك الكيان الذي يُدعى بالقديسة.
منذ أزمنة بعيدة، تناقلت الحكايات همسًا في ممرات القصور: أن بعض المتعالين يولدون بنقصٍ سرّي، ثغرةٍ في أرواحهم، لا يسدّها إلا اقترابهم من تلك اليد التي تحمل السرّ الملكي.
كانوا يشربون من شفاءها كما تشرب الأرض الميتة أول قطرة من المطر، ويرتجفون كأن في دمائهم نارًا تنطفئ لأول مرة.
‘أهذا إذن ما كانوا يقصدون؟’
بيانكا، التي طالما سَمِعَت تلك الروايات، لم تصدّق يومًا. كانت تسخر وتزدري، ترى في شفاء القديسة مجرّد ألمٍ إضافي، جرحًا جديدًا يفتح أبوابًا أخرى للعذاب.
فأبناء الدماء النبيلة ــ مثلها ــ تعلّموا أن يربطوا القداسة بالقسوة، لا بالرحمة.
لكن عندما لامستها ليندسي… تغير كل شيء.
كأنها ذاقت للمرة الأولى معنى الطهر.
كأن ذلك اللمس لم يكن شفاءً بل كشفًا، انبلاجًا للسرّ المستتر في أعماق الكينونة.
‘أهكذا كانوا يشعرون دائمًا؟’
شعرت بالغيرة… غيرة من أولئك المتعالين الضعفاء الذين طالما رأتهم أدنى منها. والآن بدا أنهم هم وحدهم من كانوا يتذوقون هذه النعمة الخفية.
ليندسي لم تعد إنسانة في عينيها.
كانت كيانًا استثنائيًا، فتحةً في الجدار الفاصل بين الأرض والسماء.
وفكرة خسارتها… بدت جرحًا يتجاوز الاحتمال.
‘كيف أسلّمها إذن لمنزل كِسيون؟ أليس من الأجدر أن تبقى هنا، بين جدران آل روسّيه، ولو خفيةً، ولو كرهت هذا؟’
تسرّبت إلى قلبها رغبة مظلمة، غريبة عنها، كأن سُمًّا قد تسرّب في دمائها وأشعل فيها طمعًا لم تعرفه من قبل.
لكن يد ليندسي أمسكت يدها.
وفي لحظة، تبدّد كل شيء: انقشعت الغشاوة، وسقطت الرغبات السوداء كما يسقط الليل عند ظهور الفجر.
كان الأمر أقرب إلى غسلٍ للروح، تطهيرٍ من أثرٍ خفيّ بثّه في قلبها حضورٌ أعلى لا اسم له.
قالت ليندسي، بصوتٍ لا يشبه أصوات البشر:
“لقد استيقظتُ… كقديسة، كما رأيتِ بنفسك.”
ارتجفت شفاه بيانكا، وكأن الزمن تجمّد عند سؤالٍ لا مفرّ منه:
“متى؟… متى حدث ذلك؟ ولماذا أخفيتِ الأمر عنّا؟”
ابتسمت ليندسي بهدوءٍ مائل إلى المرارة.
“لم أخفِ شيئًا. إنما جاء استيقاظ قوتي متأخرًا… لا أكثر.”
كانت الحقيقة بسيطة، ولكن وقعها ثقيل.
في هذا العالم، من لا يصبح شخصًا ذا قيمة، لا يجد سبيلًا للعيش.
رفعت ليندسي نظرها قليلًا، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ يشوبه تردد:
رفعت عينيها إليها ببطء، ثم همست، كأنها تُلقي بظلّ أبدٍ على قلبها:
“بيانكا… أريد منك طلبًا.”
أصغت بيانكا بانتباه، وعيناها متعلقتان بالتي أمامها.
“حين يأتي يومٌ أحتاج فيه إلى العون… هل يمكن أن تكوني إلى جانبي؟”
انحنت ليندسي رأسها، كأنها تحمل وزرًا من الخجل:
“سامحيني إن بدا طلبي وقحًا أو غير لائق…”
لكن ردّ بيانكا لم يكن توبيخًا، بل نسمةً دافئة لامست قلبها:
“ارفعي رأسكِ، عزيزتي ليندسي.”
ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجهها، ابتسامة تحمل وَقع العهود القديمة:
“آل روسّيه لا ينسون أبدًا مَن أسدى إليهم معروفًا. فاطمئني… حين تطلبين العون، ستجدينه حاضرًا.”
⋆★⋆
جاثمًا عند النافذة، انحنى جيو بملامح مشدوهة، يحدّق إلى الساحة الخارجية حيث توقّف المشهد عند دخان المفاجأة.
لقد رأى امرأتين تعبران بوابة القصر، لكن عينيه لم تكد تستوعبان الحقيقة حين أدرك هوية إحداهما.
“بيانكا روسّيه؟” همس كمن يتذوّق المرارة على طرف لسانه. “أي ريح دفعتها إلى هنا؟”
وبينما تتلألأ عيناه ببريق مباغت، انعطف نظره إلى رفيقتها. ثم انفرجت شفتاه بابتسامة مشوبة بالسخرية:
“رايسيس… تعال وانظر. إن دمك الملوث عاد ليطرق أبواب المنزل.”
على المقعد الوثير، كان رايسيس يتكئ بكسل ثقيل، يخفي وجهه بكتاب كأنه ستار بينه وبين العالم. لكن كلمات جيو اخترقت سكونه.
أبعد الكتاب ببطء، فانكشف وجهه، كأن القبح والوسامة قد تعاهدا على الاتحاد في ملامح واحدة.
“دم ملوث؟” قالها ببرود، كمن يقتلع شوكة من صدره.
ابتسم جيو ابتسامة مائلة، كأنها نصل يلمع في الظل. “قذر… ومع ذلك أخّاذ.”
كان كلّ من وُلدوا بوراثة القوة الملكية يملكون هيئة فاتنة، لكن وجه رايسيس كان استثناءً جارحًا: جمال مفرط يوشك أن ينسي المرء أنه مخلوق متعالٍ.
غير أنّ جيو كان يعرف الحقيقة، يعرفها كما تُعرف نكهة السمّ:
“زهرة مسمومة… أجل، لا وصف أدقّ من هذا.”
وبدا الغضب يتسلّل إلى تقاطيع رايسيس، حتى التوت ملامحه بحدة. نهض عن استرخائه ومشى صوب النافذة بخطوات متوترة، وهناك… تجمّدت نظراته.
إنها هي.
ليندسي.
طيفها الباهت كان يشق طريقه بين الحراس الذين سمحوا لها بالمرور.
ليندسي كيسون، أخته التي باعها الأب يومًا إلى دوقية ليديان كما يُباع الخادم في السوق، ثم طرحها أرضًا حين عجزت عن أن تكون ما أراد منها.
وها هي تعود الآن، بعد أن رفضها الجميع؟
أتسعى بنفسها إلى حتفها؟
لقد كان رايسيس يفضّل أن تظل منفية أبدًا، أن تُمحى من سجلات الوجود كما مُحيت من قلبه.
لكن عودتها لا تعني سوى حقيقة واحدة لا شك فيها: أن آزيت ليديان قد تخلّى عنها كما تخلّى الأب من قبل.
غامت عيناه بسخطٍ أسود، وقال كأنه يخاطب الفراغ:
“ها نحن إذن نصل إلى النهاية.”
ثم التفت فجأة، وصوته يقطر حدّةً:
“من الذي سمح لها بالدخول؟”
“ماذا قلت؟” سأل جيو، متصنعًا الدهشة.
ثم قال بصوتٍ مشوبٍ بالدهشة وهو يطلّ من النافذة، كأنما يلمح شبحًا يُبعث من مقبرة منسية:
“ألم يقل الأب لها ألّا تعود إلا إذا أثبتت نفعها؟ فما الذي جعل الحُرّاس يفتحون لها الأبواب؟”
كانت عودة ليندسي ضربًا من الجنون.
إن أرادت البقاء على قيد الحياة، لكان لزامًا عليها أن تتشبث بدوقية ليديان كما يتشبّث الغريق بلوحٍ فوق لُجّة.
“ظننتها لن تطأ هذه الأرض مرة أخرى…”
لكن مركيز كيسون لم يكن يعرف معنى الشفقة.
كان رجلًا تصهره القسوة حتى غدا أشدّ صلابة من الحديد، وأبرد من صقيعٍ يتيم.
لم يعترف يومًا بالضعف، بل كان يمحوه كما تُمحى البقعة السوداء من صفحة بيضاء.
كم من أبناء العائلة تلاشت آثارهم في عتمة القصر، كأنهم لم يولدوا قط، لا يُذكر لهم اسم ولا يُعرف لهم قبر؟
رايسيس نفسه لم يكن يحمل لها ودًا. بينه وبينها تراكمت ضغائن قديمة، كجروحٍ لم تُترك لتندمل.
كانت عقبة في دربه، حجرًا في طريق طموحه، لكنها لم تكن عدوًا يستحق موته.
كل ما ابتغاه أن تنفى بعيدًا، أن تُمحى من مداه البصري والروحي، أن تختفي في بقعة لا يصلها اسمه ولا ظلّه.
لكن الأخبار التي وصلت من سيلفيا ليديان حملت نذير شؤم: رسائل عاجلة، تتحدث عن فسخ خطوبة.
إهانات أُلقيت في وجه ليندسي، واحتجاجات أرسلتها هي للمركيز، لكن الحقيقة لم تعد تخفى: آزيت نبذها.
“مغفّلة…” تمتم رايسيس، والظلمة تسيل على ملامحه.
“لو رغبت بالحياة، لكانت قد تمسكت بعائلة ليديان كما يتمسّك السجين بقيده، لأنه خلاصه الوحيد.”
فتحت أبواب قصر كيسون، كأنها تفتح بوابة قدرٍ أسود. دخلت ليندسي بخطواتٍ واثقة، كمن يواجه حتفه بعينين مفتوحتين. عندها صاح جيو مبهوتًا:
“انظر! تلك العربة… إنها عربة دوقية روسّيه! أفهمت؟”
ظلّ رايسيس غارقًا في صمته، فيما استمر جيو ينفث سُمّه:
“ألا يثير دهشتك؟ ما الذي قد يدفع بيانكا روسّيه لتدنّس مكانتها بمرافقة دمٍ ملوث؟”
لكن الصمت كان جدار رايسيس منذ أن انكسرت صلته بأخته. لم يجادل من يطعنها، لم يردّ على من يلعنها. تعامل معها كما لو أنها لم تُخلق، كأنها محض فراغ.
إلا أن جيو لم يتوقف عن طعن الهواء بسكين كلماته:
“بيانكا روسّيه… يبدو أنها أرقّ قلبًا مع الدماء النجسة مما توقعت. أخبرني، ألا يثير اشمئزازك؟ سمعت أن تلك الوضيعة أضاعت إرث أمك الثمين…”
عندها ارتجف إطار النافذة تحت قبضتي رايسيس، وكاد الخشب يصرخ. لم يُحوّل بصره عن ظل ليندسي الذي شق القاعة، لكنه نطق بصوتٍ أشبه بزمجرة صاعقة محبوسة:
“أغلق فمك.”
ارتبك جيو، محملقًا:
“ماذا قلت؟”
“قلت: لا تعبث بشؤون عائلتنا. إن أردت أن تغادر هذه القاعة على قدميك… فاكبح لسانك.”
وظلت عيناه معلّقتين على ليندسي، كأنها المرآة التي تُعيد إليه وجهًا أراد نسيانه ولم يستطع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات