كانت ليندسي قد حسمت أمرها. الخروج من بيت آل ريديان، وترك هذا العش الملعون خلف ظهرها، لم يعد يثير في قلبها أي حنين.
لا شيء يربطها، لا دم ولا ذكرى، سوى قيود صدئة آن أوان كسرها.
لكن الصرخة التي اخترقت السكون قبل أن تخطو خارج البوابة أوقفتها. صوت لم يكن يشبه أصوات المعتادين.
توقفت، وأدارت رأسها ببطء. الهواء نفسه تغيّر، ثمة طاقة غريبة تتناثر في الأفق، تقترب منها رويدًا.
“ليس آزيت… وليس كينيان.”
لو كانت المسألة تتعلق بأحدهما، لما التفتت، كانت ستمضي قدمًا، تهجر هذا القصر كما يترك السجين زنزانته.
لكن أن يكون الصوت غيرهما… فهذا شيء آخر.
“بيانكا…”
الوحيدة التي عرفت قلبها في حياة سابقة. الوحيدة التي لم تعاملها كغريبة.
خطت بخطى سريعة، كأن قدميها تعرفان وحدهما إلى أين يجب أن تسير.
⋆★⋆
سقط جسد بيانكا مترنحًا، فأمسكها كينيان بين ذراعيه بارتباك. بجواره، كان آزيت يحدّق بذهول لا يقلّ عنه.
كان يبحث عن القديسة، لكنه كان يعرف أن مجيئها في تلك اللحظة شبه مستحيل.
تمتم كينيان، ووجهه يزداد شحوبًا:
“إنها تفقد السيطرة…”
انفجار كائنٍ متعالٍ في نوبة هياج، كارثة يصعب حتى على ااذي في نفس مستواها إخمادها.
ليس فقط صعوبة قمعها وهي في كامل وعيها، بل هناك احتمال أن تُصاب بجراح قاتلة… أو تُقتل.
حولهم علت الأصوات القلقة:
“ابتعدوا!”
“لا تقتربوا!”
التفت كينيان بدهشة، ليجد ليندسي تتقدم، تسير وسطهم بخطى لا تعرف التردد.
“ليندسي كيسون؟!”
لم يستطع آزيت إخفاء دهشته. سأل الفارس الذي كان يمنعها من التقدم:
“ما الذي تفعله هذه المرأة هنا؟”
أجابه الفارس متردّدًا:
“قالت… إنها تريد رؤية السيدة بيانكا.”
قطّب آزيت عينيه، وفي نظرته خليط من الضيق والاحتقار.
“يا لها من وقاحة.”
كان يعرف أنها مثيرة للمشاكل، لكنها الآن تتجاوز حدود الجهل: أن تظهر في وسط هكذا موقف!
ترك بيانكا في حضن كينيان، ونهض بحدة:
“ليندسي كيسون، لا وقت لدينا لنتعامل معك الآن.”
لكن صوتها جاء ثابتًا، أشد صلابة مما توقّع:
“استطيع شفاء بيانكا.”
ارتبك آزيت بشدة.
بدأ يشكّ فعلًا في أنها فقدت عقلها.
هل جنّت إلى حدّ الاعتقاد بأنها قادرة على استدعاء القوة الملكية لمجرد أنها ترغب بذلك؟
لكن ليندسي واجهت نظرته بصراحة جارحة.
“لا تقل كلامًا فارغًا.”
قال متشككًا:
“أتزعمين أنك أظهرتِ القوة الملكية؟”
فأجابته بهدوء:
“وإن فعلت؟”
زفر آزيت باستياء.
“مثير للغثيان… كل هذا من أجل لفت الانتباه؟”
قالت ببرود، وكأنها تطوي كتابًا قديمًا بين يديها:
“لا تخدع نفسك. لست أبحث عن إنتباهك بعد الآن.”
توقف آزيت لوهلة. كلمتها اخترقت صدره كإبرة مسمومة.
لكن قبل أن يرد، جاء صوت كينيان صارخًا:
“سيدتي!”
التفت آزيت في فزع، فرآها.
بيانكا تهتز في نوبة تشنج، جسدها يلتف كغصن يُعصر.
“ابتعد فورًا! لا وقت لدينا!”
ومدّت يد دفعت آزيت جانبًا بقوة لم يتوقعها.
تجمّد لحظة وهو ينظر إليها. ليندسي… تدفعه؟!
لكنه، رغم صدمته، تراجع دون وعي، فاندفعت ليندسي نحو بيانكا.
‘ستُقتل… هذه الحمقاء ستُسحق على يدها!’
هذا ما فكّر به وهو يستعد للتدخل، عازمًا على محاولة إخضاع بيانكا بأقل قدر من القسوة.
لكنه، حين التفت ليتأكد، رأى مشهدًا ما كان ليصدّقه لو حُكي له.
⋆★⋆
كان كينيان يحدّق في ليندسي غير مصدّق.
“لماذا جئتِ…؟”
لكن ليندسي لم تُجبه.
جلست قرب بيانكا، وأمسكت معصمها المرتجف بيد ثابتة.
شعر كينيان بدم بارد يسيل في عروقه.
“أتريدين الموت؟!”
قالت، بنبرة قاطعة:
“أحتاج للتركيز… اصمت.”
أي تركيز هذا الذي تقصده؟
قطّب كينيان حاجبيه.
هل تنوي الانتحار؟
لم يكن في ذهنه تفسير آخر. شعور بارد تسلل إلى صدره. مدّ يده محاولًا إبعاد ليندسي، متيقنًا من أنه يجب إبعادها.
لكنها تفادت يده.
رفع نظره إليها بعينين محمرتين من القلق. لم يستطع أن يستوعب ما الذي تحاول فعله امرأة بلا أي قوة ملكية.
لكنها رمقته بنظرة حادة جعلت يده تتوقف في منتصف الطريق. لم يجرؤ على التقدم.
حولها، ارتفعت أصوات المتعالين:
“يا للوقاحة! ماذا تنوين؟”
“إنه إهانة صريحة للسيدة بيانكا!”
“ما الذي يمكن أن تفعليه وأنت بلا قوة ملكية؟!”
الشك، الاحتقار، الريبة… كلها طوّقتها من كل جانب.
لكن ليندسي عرفت هذا المشهد من قبل.
كانت معتادة على أن تُحاصر بالشكوك. وعرفت أيضًا كيف تقلب الطاولة.
شدّت على معصم بيانكا. ومن أطراف أصابعها أخذت تنساب دفعة دافئة، ضوء غامض يذيب الصخب.
وجه بيانكا المشدود بدأ يتراخى، ارتجافها يتلاشى قليلًا، وأنفاسها تعود ببطء إلى نظامها.
وفي اللحظة التالية، انفرجت جفونها المغلقة، وارتسمت على محيّاها ملامح سلام لم يعرفه أحد لها من قبل.
وبجوارها، همس كينيان، كمن يرفض تصديق عينيه:
“قوة… ملكية؟!”
كلمة كينيان سقطت في المكان كحجرٍ في بئرٍ ساكن، فتبعها صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه قد تلبّد بالذهول.
لم يستطع أن يفهم ما يراه؛ المشهد انقلب على منطقه، وأفكاره راحت تدور في دوائر معتمة بلا مخرج.
أما بيانكا، التي أفاقت من غيبوبتها وفتحت عينيها المثقلتين، فقد بدت كطفلة خارجة للتو من كابوس طويل.
لم تنطق بكلمة، فقط أمسكت بيد ليندسي في لا وعي، كأنها اليد الوحيدة التي تربطها بالحياة.
تقطّبت ملامح كينيان وهو يتمتم في نفسه:
‘ليندسي كيسون لم تُبعث كقديسة… هذا مؤكد… فما الذي يحدث أمامي إذن؟’
أيُعقل أن تولد القوة الملكية في جسدها فجأة، بعد وصولها لهذا العمر؟ أيمكن ان يكون ما يراه ضربًا من الوهم؟
لكن بيانكا روزيت نفسها—التي لا تقل عنه قوة ولا شأنًا—ها هي تهدأ، تهدأ كما لا يهدأ العاصف إلا بعد أن ينكسر في قلبه شيءٌ عميق.
وهذا ما لم يستطع هو، ولا أحد من سلالته، أن يفعله.
رفع نظره فرأى أعين الحاضرين، أولئك الكائنات المتعالية، محدّقة في ليندسي بدهشة لا تخفى.
بعضهم جمد فمه مفتوحًا، وبعضهم بدت على وجهه علامات الرعب أكثر من الدهشة.
شعر كينيان بوخز في صدره؛ لم يحتمل أن تُوجَّه كل تلك النظرات إليها، كأنها فجأة اصبحت مرآةً لشيء لم يرغبوا جميعًا في مواجهته.
اقترب منها بغير وعي، كأن الخطوات جرّت نفسها دون إذن منه.
صاح بصوت متشنج:
“ما الذي فعلتِ بحق؟! أأنتِ قديسة؟! كيف استطعتِ أن توقفِي هيجان السيدة بيانكا؟”
رفعت ليندسي بصرها إليه. تلك النظرة وحدها كانت كافية ليشعر أنه أمام كائن غريب، شخص لم يعرفه من قبل.
كانت شاحبة، كأن دماءها انسحبت من جسدها.
جسدها الضئيل يرتجف كمن يقف على حافة هاوية، شفاهها مائلة إلى البياض، والهواء حولها محمّل برائحة الانهيار القريب.
لحظة واحدة، وتذكّر كيف انهارت قبل أيام قليلة، كأنما جسدها منذ زمن يرفض البقاء.
قال، وهو يقطّب حاجبيه بمرارة:
“أحقًا ستغادرين هكذا؟”
لكنها لم تجبه. صمتها أثقل من أي رد.
أعاد سؤاله، وكأنه يبحث عن إجابة لمعضلة داخل صدره:
“أي نوعٍ من البشر أنتِ؟”
وقبل أن يتقدّم أكثر، جاء صوت بيانكا، قاطعًا أفكاره، حادًا كالسكين:
“كينيان!”
خفض نظره نحوها. بيانكا كانت قد استعادت شيئًا من رباطة جأشها، لكن عينيها كانتا تشتعلان بغضب لم يره فيها من قبل.
قالت بصرامة:
“ليندسي تحت حمايتي. إيّاك أن تتحدث عنها.”
انطبقت شفتاه، عاجزًا عن الرد. كيف يمكنه أن يجادل؟ بيانكا لم تكن يومًا بهذا الغضب… ولم تكن يومًا بهذا الوضوح.
أمسكت بيانكا بيد ليندسي كأنها تتمسّك بآخر ما تبقّى لها من يقين، وقالت:
“ليندسي ستأتي معي. لقد أنقذتني… وأنا مدينة لها. هل لديك اعتراض؟”
لم ينبس كينيان بحرف. ربما في زمن مضى كان سيصرخ: “لكنها خطيبة آزيت!”
أما الآن، فما الذي تبقّى ليُقال؟ ليندسي كانت في طريقها للانفصال عن آل كيسون بأمر من أمه، سيلفيا، ولن يُغيّر هذا حقيقة أن ما حدث للتو قد قلب الموازين.
غير أن الأكثر إرباكًا من كل ذلك كان وجه بيانكا. كانت متأهبة، حادة، كأنها ستصدّ أي يد تمتد نحو ليندسي— حتى لو كانت يده هو أو يد آزيت.
لماذا؟
أي سبب يجعل بيانكا، المتعالية التي لا تبالي عادةً بذوي الدماء الدنيئة، تُظهر هذا الاستنفار لأجلها؟
غطت بيانكا جسد ليندسي بمعطفها، ثم مضت قُدمًا، تاركةً وراءها ذهول الجمع.
ومن خلفها، أخذ الهمس يعلو بين المتعالين:
“مذهل… أن ليندسي كيسون أظهرت القوة الملكية.”
“لكن الأغرب… أن بيانكا نفسها وقفت في وجه آزيت وكينيان لأجل فتاة من دمٍ مختلط!”
“ما الذي يحدث؟ ما الذي يتغيّر في هذا العالم؟”
أغمض كينيان عينيه بإحكام، كأنما يحاول أن يطرد من داخله هذا الطنين، لكنّ السؤال ظل يحفر في صدره بلا رحمة.
⋆★⋆
في جوف العربة، التقت عينا ليندسي بعيني بيانكا.
لم تعرف كيف تحتمل ذلك الوهج الموجّه نحوها، فارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة، كمن يحاول إخفاء جرحه بابتسامة.
قالت بصوت منخفض:
“كان لا بد أن أكشف أنني أستطيع استخدام القوة الملكية… عاجلًا أم آجلًا.”
كانت تعرف أن لا سبيل للتحرر من عائلة كيسون إلا بذلك.
فوالدها، القاسي الجامد، لم يكن ليدعها تنفلت بسهولة من قبضته.
لكن تلك النظرات، نظرات بيانكا التي تغلي بالعاطفة، كانت كالحمل الثقيل على كتفيها.
ورغم ذلك… لم تندم لحظة.
لو لم توقف هيجان بيانكا، لكانت هذه المرأة الوحيدة التي أولتها عطفًا في حياتها قد ضاعت إلى الأبد.
‘لقد كانت الوحيدة التي رأتني… الوحيدة التي مدّت يدها إليّ.’
تذكّرت وصيتها القديمة، وصوتًا داخليًا ارتجف في أعماقها:
‘كما أُعامل… أردّ.’
سواء أكان ذلك دينًا بالجميل… أم عداوة.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 7"