“ماذا تفعلين؟”
ترك رايسيس ليندسي تمسك بيدة بين اصابعها، وهو يعلم يقينًا أنّها لا تستطيع أن تؤذيه في شيء.
لم يكن خوفًا ما يسكنه، بل فضولٌ غامض لمعرفة ما الذي تحاول فعله.
لكن حين ظلّت ساكنة لا تتحرك، حاول أن يسحب يده من يدها.
فهمس بصوتٍ متهدج:
“لا تُفلتي هذه اليد…”
غير أنّه لم يُكمل عبارته؛ إذ ارتسمت على شفتي ليندسي ابتسامة آسرة تحمل فتنةً غريبة.
وفي تلك اللحظة بالتحديد…
انبعث خيطٌ واهٍ من قوةٍ مجهولة، قوة لم يألفها رايسيس من قبل، قوةٌ جعلته ينسى التنفس لبرهة. كانت هزيلة في ظاهرها، لكنها تزلزل أعماق روحه.
تمتم مرتجفًا:
“ما… ما هذا؟”
تطلّع إلى ليندسي بعينين مضطربتين، تترنح حدقتاه بلا توقف.
أمّا ابتسامتها فقد تجمدت، قبل أن تقترب منه، لتُسلم أذنه إلى دفء أنفاسها.
وانساب صوتها العذب، كأنّه قطرات عسلٍ تذوب في روحه:
“أتصدقني الآن؟ لقد أيقظتُ قُدرتي المقدّسة.”
ثم مرّت بجواره بخفة، تاركةً وراءها ذهوله. وحين أفاق من صدمته، كانت قد اختفت عن ناظريه.
⋆★⋆
دخلت ليندسي إلى غرفتها.
لقد كان الوقت الذي قضته في إرشاد رايسيس قصيرًا جدًا؛ لم تستخدم سوى القدر الأدنى من قدرتها. ومع ذلك، كان يكفي ليدرك أنّها استيقظت على قوتها المقدّسة.
‘ربما سيلحظ أنّني لستُ كسائر الكهنة’
تأملت الغرفة بعينيها. المكان بدا مُهملاً، غارقًا في الغبار، كأنه لم يُمسّ منذ شهور. كل شيء كان بائسًا، كما تركته.
لم يتغير شيء.
كأن عشرين عامًا مضت ولم تمسّ هذا الركن من العالم.
‘لا عجب… فأنا الوحيدة التي غادرت منه.’
تسللت إليها فجأة فكرة غريبة:
هل كانت حياتها في كوريا مع هان جي-يو سوى وهمٍ صنعته وحدتها؟
ألم يكن مجرد حلمٍ مُترف يذوب أمام بوابة قصر الراديان؟
فكم من المتجاوزين وُلدوا على حافة الموت، وربما كانت قدرتها على الإرشاد ليست إلا يقظةً فجائية.
لكنها هزّت رأسها بعنف، كمن يطرد شبحًا:
‘لا… حياتي مع هان جي-يو كانت حقيقية.’
كانوا أناسًا غمروا قلبها بلطفٍ حتى البكاء.
الإسبِر الذين آمنوا بها، وقاتلوا إلى جانبها. لم يكن كل ذلك سرابًا.
انحنت تحت سريرها، وأخرجت الصندوق السري الذي خبأته هناك منذ سنين. فتحت الحجرات بحذر، فظهر أمامها صندوق صغير، وحين رفعته، كانت أوّل ما وقعت عليه عيناها ورقة قديمة.
كانت تلك الرسالة التي كتبتها قبل مغادرتها مركيزيّة كيسون.
«لن أعود إلى هذا المكان أبدًا.»
لكن الوعد تحطم. ها هي قد عادت بقدميها إلى هذا القصر المقيت.
‘سأمحو اسمي من سجل العائلة وأغدو حرّة… سأجد طريقًا إلى كوريا.’
المال الذي تحتاجه للجوء، القوة التي تقودها إلى المخرج، والأهم: الحرية.
كلها أشياء لا وجود لها إلا في هذا المكان.
«بعد أن أمحو اسمي من سجل العائلة، وأتحرر من عبودية كيسيون، سأعود إلى كوريا… لا محالة.»
وعدٌ لن تكسره مجددًا.
تمامًا كما كتبته في تلك الورقة.
غير أنّ الرسالة لم تنتهِ عند هذا الحد.
«إن عدتُ إلى هنا، فذلك يعني أنّني فشلتُ في إيقاظ قوتي المقدسة، أليس كذلك؟»
«أرجوكِ… إن عدتُ، فهذا يعني أنني لم أجرؤ حتى على قراءة هذه الكلمات… لو أنني فقط تزوجتُ آزيت دون عقبات…»
كانت قبضتها تشتد حول الورقة كلما توغلت في كلماتها. لم يكن أحد في هذه الدار يهتم بها، لا خادمة لتنفض عنها الغبار، ولا عينٌ لتلحظ وجودها. كانت أدنى شأنًا حتى من الخادمات.
ربما كتبت تلك الورقة لنفسها، مؤمنة أنها الوحيدة التي ستقرؤها.
لكن الآن، وهي تمسكها بين يديها، شعرت بالاختناق.
«لنعد… لنعد إلى أولئك الذين منحوني معنى الوجود. لا هروب بعد اليوم من هذا الجنون.»
وفي تلك اللحظة…
رنّ صوت خلفها:
“السيّدة ليندسي…”
نهضت ليندسي على صوت الخادمة المنبعث من خلف الباب:
“المركيز يطلب حضوركِ.”
⋆★⋆
كان رايسيس يُصلح نظارته، ملامحه متشابكة كأنها مرآة لعاصفةٍ داخلية. عينه مُثبتة على فنجان الشاي أمامه، لكن فكره كان في مكان آخر تمامًا.
‘لقد كانت تلك قوة مقدّسة… لا شك في ذلك.’
القوة المقدّسة التي يعرفها، كانت دومًا مرادفة للرعب. لم تكن إلا قيدًا صارمًا يفرض على الأرواح كي لا تنفلت وتجنح إلى الجنون.
‘هكذا يجب أن تكون… مُرعِبة.’
ومع ذلك… فقد شعر بالراحة.
هذا الإدراك بعثره. رفع يده ليُغطي وجهه، كأنه يخجل من ارتباكه.
لم يختبر الحيرة يومًا؛ منذ تربى على الانضباط في بيت كيسيون، لم يعرف قلبه زعزعةً ولا اضطرابًا. فما الذي يُسكنه الآن؟ أي شعور هذا الذي يعتمل داخله؟
ترنحت في رأسه أصوات الماضي، كلماتُ أساتذته الجافة:
> “ابتسم يا سيد رايسيس… البقاء في هذه الدار مرهونٌ بقدرتك على كتمان مشاعرك.”
> “عليك أن تُجالس من يليق بك.”
> “ولا تنسَ… لا يُعامل الدم النجس كأخٍ أو أخت.”
قطّب حاجبيه، كمن يحاول أن يمزّق تلك الوصايا من أعماقه.
‘لا بدّ لي أن أراها…’
لقد عزم أن يتحدث مع ليندسي أكثر. لكن ما إن همّ بالتحرك نحو غرفتها، حتى جاءه صوتٌ يناديه:
“السيد رايسيس!”
تغيّر ملامحه على الفور، متخذاً صرامةً مصطنعة.
“ما الأمر؟”
قال المُرسل:
“المركيز يستدعيك حالًا.”
صمت رايسيس برهة.
“كما أن الآنسة سيلفيا راديان أرسلت رسالة مجددًا.”
ما إن سمع الاسم، حتى أسرع خُطاه إلى مكتب المركيز.
وهناك، لمح ليندسي، كانت واقفة أمام الباب، على وشك أن تدفعه لتدخل.
قال بذهول، يكاد لا يصدق:
“هل تُريدين الموت حقًا؟”
ألم تُدرك بعدُ ما سيحدث إن واجهت أباها في هذه اللحظة؟
اعترض طريقها بحدّة:
“إن دخلتِ الآن، ستُساقين إلى عائلة راديان. وستجدين نفسك راكعةً عند قدمي سيلفيا راديان.”
رفعت ليندسي رأسها، وأمالته قليلًا، كمن يُصغي بسخرية، ثم قالت:
“وحتى لو كان ذلك صحيحًا… فما شأنك أنت؟”
كان صوتها باردًا، كأنّه شتاءٌ يزحف إلى قلبه. لم يُخاطبها أحد بمثل هذا الجفاء، ولا حتى الغرباء. أدهشه أن يكون الكلام صادرًا منها.
“ما الذي قلتِه؟”
“هل أخطأتُ؟”
سألته بنظراتٍ ثابتة، وفي عينيها مرآة من الاتهام.
لو كان قلقه يومًا نابعًا من كونه يعتبرها عائلته، لكان لذلك معنى. أما الآن، فلم يعودا شيئًا لبعضهما.
ألم يكن هو نفسه من قال لها ذات مرة إنه توقّع منها الكثير؟
فأجابته بصرامةٍ حادة:
“كنتُ مخطئة إذ منحتك أي أمل. لا جدوى من الحديث إليك بعد اليوم. لسنا على وفاق، ولا حديث بيننا.”
كلماته خنقته قبل أن ينطقها، فلم يجد ردًا.
لقد ظل منذ لقائها مجددًا أسيرًا في دوامة من الحيرة.
حين خذلته، قرر أن ينزعها من قلبه. ومنذ ذلك الحين، بالكاد رآها.
ومع ذلك…
لم يفهم لماذا يظل قلقًا بشأنها.
‘لكنني… قلق عليها.’
اعترف لنفسه أخيرًا.
ليندسي كيسون تُؤرّقه. تُربك قلبه حتى الشحوب.
‘هل حقًا سرقت ليندسي تذكار أمي؟’
أخذ قلبه ينبض بعنف مع هذا السؤال. كان الألم يثقل صدره، ذكرى ذلك اليوم حملت فراغًا لا يُحتمل. لم يُصغِ إلى كلماتها حينها، كان شعوره بالخسارة أعظم من أن يسمح له بالاستماع.
لكن إن لم تكن كلماتها كذبًا…
لا… هذا مستحيل.
كل الأدلة، كل الشهود، أشاروا إليها. كيف يُمكن أن يكون الحق معها؟
ازدادت حيرته مع كل تفكير، فحاول أن يُخفي اضطرابه خلف قناع من الجمود.
‘كل ما في الأمر أنني رغبتُ بالتأكد من أنّها قديسة فحسب…’
ردّد هذه العبارة في داخله، محاولًا استعادة صلابته. لقد تعلّم أن المشاعر فخ، وأن في مركيزيّة كيسيون لا مكان لمن يُستعبد بضعف قلبه.
شدّد ملامحه وقال لها بسخرية جافة:
“أظن أنّك لا تملكين حتى شجاعة فتح الباب، أليس كذلك؟”
لكنّه تساءل في نفسه: أكانت خائفة من أبيها حقًا؟ إذن كيف تجرؤ على المجيء بنفسها؟
قهقهت ليندسي بهدوء، كأنّ كلماته لم تُصبها:
“لا شجاعة؟”
ثم أضافت:
“أنت تعلم جيدًا أني أخشى والدي… خاصة بعد أن انتشرت شائعات عن عجزٍ يلوثني.”
صمت رايسيس، عاجزًا عن الرد.
“لا أعلم ما الذي تفكرين به…” حاول أن يقول بنبرةٍ مترددة، “لكن، الأفضل أن تعودي لغرفتك الآن. سأحدث والدي بنفسي—”
غير أنّها قاطعته بحركةٍ حاسمة، دفعت الباب أمامه، وقالت بصرامة نافذة:
“أنت لا تعرف عني شيئًا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات