2
الفصل الثاني
“ألبرت، ألم تخبرني أن السيدة تمتنع عن الطعام؟”
سأل الرجلُ كبيرَ الخدم الذي ولجَ متأخرًا.
ارتعشَت كتفا الخادمِ من نبرةِ الصوتِ المُخفَضةِ، التي تحملُ في طياتها كظمًا شديدًا للغضب.
لا شك أنه الدوق إدبون مارتينيز.
“أعتذرُ، يا سيدي الدوق.”
رغم أنني لم أدرك تمامًا سببَ غضبه العارم، فقد خمنتُ أنه بسبب الحساء، فوضعتُ الملعقةَ جانبًا.
“آه، يا كبير الخدم. لدي حديثٌ هامٌّ وخاصٌّ مع السيدة، فلتصحبْ جيرارد إلى الخارج.”
“حاضرٌ، يا سيدي.”
بأمرٍ من الرجل، سارع كبير الخدم يشدُّ يدَ جيرارد.
“لكن، ولكن… أمّي…”
ظلَّ الطفلُ يُدير رأسَهُ مرارًا وتكرارًا وهو يُجرُّ خارج الغرفة، ناظرًا إليَّ بعينين تملؤهما القلق.
طَقّ. (صوت إغلاق الباب)
“هاااه.”
بعد انغلاقِ الباب، أطلق الرجلُ تنهيدةً طويلةً بدافعِ الضيق، ومسحَ على شعره.
“ما الذي جعلكِ تفعلينها هذه المرة؟”
إدبون مارتينيز.
كنتُ أعلم أن مواجهته حتميةٌ في يومٍ ما، لكنني لم أتصور أن تكون اليوم، ولا بهذه الطريقة.
“ما الذي أثار حنقكِ وجعلكِ تتصرفين هكذا؟”
حاول إدبون ضبطَ غضبه والالتزام بالاحترام، لكنه لم يستطع إخفاءَ الحقد الدفين الذي يكمنُ في أعماقه.
“وصلني الخبر أن السيدة لم تخرج من غرفتها منذ أربعة أيام، مُمتنعةً عن الطعام وطاردةً جميع الخدم، فلم أستطع إكمال عملي وهرعتُ من العاصمة.”
“لا، بل إن الأمر…”
“فهل اكتمل رضاكِ الآن، بعدما رأيتِني أعودُ مهرولًا مصدّقًا كذبتكِ؟”
أَرغد.
طحنَ إدبون أسنانه غيظًا.
“إن كنتِ تتوقين إلى الطلاقِ إلى هذا الحد، فكفِّي عن هذه الأفعال السخيفة وتَقَدَّمي بطلب تسوية طلاقٍ رسميٍّ للسلطات. حينها، سأكونُ مسرورًا بوضع توقيعي عليه.”
بدا وكأن إدبون لديه الكثير ليقوله، لكنه في النهاية استدار وأعطاني ظهرَه.
طَقّ. (صوت إغلاق الباب)
“آه…”
انبعثَ منّي تنهيدةُ أسفٍ عفويةٌ وأنا أرى إدبون في ثورةِ غضبٍ عارمة.
صحيحٌ أنني طلبتُ الانفرادَ لأحتاجَ وقتًا للتفكير، لكنني لم أتمنَّ أبدًا أن يصلَ الأمرُ إلى هذا الحد. لم أقصد اللعبَ بمشاعر إدبون أبدًا.
ولكن، حتى لو كانت هذه هي الحقيقة، فمن المستبعد أن يصدقني إدبون وهو في شدةِ غضبهِ.
“هاه، يبدو أن الفرار هو الحل الأوحد.”
يبدو أنه لا ينبغي للمرء أن يتدخل في شؤون الآخرين العائلية بتهاون.
الأميرة أنديتيني، من العائلة المالكة لمملكة إرنيان.
على الرغم من كونها مملكةً واهنةً لا يُستبعَدُ انهيارها في أي لحظة، فقد عاشت أنديتيني حياتها دون أي نقصٍ لكونها الابنة الثالثة للملك.
شعرٌ بلاتينيُّ فاخر، وعيونٌ بنفسجيةٌ غامضةٌ وساحرة. شكلٌ لافتٌ ونسبٌ نبيل.
أولُ يأسٍ واجهته أنديتيني في حياتها، بعدما كانت تنالُ كلَّ ما ترغبُ فيه، كان زواجها.
لقد زُوِّجَتْ لرجلٍ مجهولِ الأصل، مُنحَ إقطاعيةً موبوءةً بالوحوش ومستعصيةَ الحل.
على الرغم من أن إدبون كان بطلَ حربٍ حوّلَ مملكةَ إرنيان إلى إمبراطورية، بل إلى أقوى دولة في القارة، إلا أنه بالنسبة لأنديتيني كان مجرد رجلٍ دنيءٍ ونجس، مهووسٍ بالقتل.
وهكذا، لم تكتفِ أنديتيني، التي زُوِّجَتْ برجل لا ترغب فيه، بإثارةِ المشاكل مع إدبون في كل مناسبة، بل لم تتوانَ عن إطلاقِ الأقاويل التي تسيء إلى سمعته.
ولكن ما زاد غضب أنديتيني هو رد فعل إدبون. مهما فعلت، لم يكن يكترثُ على الإطلاق.
لقد تجاهلها إدبون تجاهلاً تامًا، وكلما تجاهلها، زادت أنديتيني في طيشها وسوءِ تصرفها. استمرت هذه السنوات ستًّا كاملة.
لذا، فإن علاقةَ الزوجين أنديتيني وإدبون وصلت إلى أسوأ مراحلها، ولا حاجة لمزيد من الشرح.
كم أتمنى أن أتمكن من تجاهل كل هذا، وأعتبره لا يخصني.
‘لكنني الآن أنديتيني…’
حبستُ تنهيدةً عميقةً وتسارعتُ في خطواتي.
إذا كان عليَّ أن أعيشَ الآن كأنديتيني، فلا يمكنني البقاءَ حبيسةً في تلك الغرفة إلى الأبد.
‘هذه هي القاعةُ الرئيسيةُ، وهذا المبنى هو سكنُ الخدم.’
يمكنني قراءةُ ذكرياتِ أنديتيني. رغم أنني أحتاجُ إلى بذل جهدٍ للبحثِ عنها، إلا أن هذا كان مصدرَ راحةٍ لي.
إحدى الحقائق التي علمتُها من الذكريات هي أن الخدمَ يخافون أنديتيني.
لم يكونوا يتجاهلونها، بل كانوا يخشونها.
ولذلك، فالسببُ السخيفُ لعدم تناولها الطعام هو طردها للخدم طالبةً أن تُترك وشأنها.
‘لا، حتى لو قالت ذلك.’
… لقد التزم الخدم بأوامر أنديتيني حرفيًا.
التزامٌ لا أكثر.
لم يُبْدِ أيٌّ منهم قلقًا إنسانيًا تجاه أنديتيني أو تدخلَ في شؤونها.
‘بالطبع، لم يكن ليجدوا خيرًا في التسكع أمام أنديتيني.’
مع هذه الأفكار، دخلتُ سكنَ الخدم.
لم يكن هناك أحدٌ في الردهة الداخلية، لكونه وقتَ العمل.
ردهةٌ هادئة.
بينما كنتُ أوشكُ على الاستدارة، سمعتُ أصواتَ نساء.
“انظري، إن!”
“آه، هل سمعتِ أنتِ أيضًا؟”
“تش، هل كنتِ تنوين عدم إخباري؟ انظري، ألم يعطكِ جيرارد مالًا؟”
… جيرارد؟
توقفتُ لا إراديًا حين سمعتُ اسمَ جيرارد يُذكر على ألسنةِ الغرباء.
“كم أعطاكِ؟”
“أوه، يجب أن تحتفظي بهذا سرًّا لكِ وحدكِ. لا تخبري أحدًا، أرجوكِ.”
“يا إلهي، كم يبلغ هذا؟”
صدحتْ أصواتُ دهشةٍ وضحكاتٍ في الردهة الهادئة.
“إنه حقًّا طفلٌ مضحكٌ! بمجرد أن أبدِي له قليلًا من القلق والاهتمام، يأتي إليَّ في كل مناسبة!”
“يا لي من غبية، لو كنتُ أعرف، لتوليتُ أنا الأمر.”
“ماذا تقولين، خذي هذا.”
خشخشة. (صوت العملات المعدنية)
“ولكن، ما سببُ المال هذه المرة؟”
“آه، قلتُ له إن السيدة ستسعد بهدية، وإنني سأساعده في اختيارها بعناية، فانخدعَ بسرعة.”
“إذًا، هل اشتريتِ هدية للسيدة، وهذا ما تبقَّى؟”
لم أقصد التنصتَ على حديثهن.
لكنني لم أستطع تحريكَ قدميَّ.
“لكن جيرارد يحبكِ حقًّا.”
“ألن أصبحَ أنا دوقة المستقبل؟”
“قد يحدث ذلك حقًّا! آه، كم هذا المال! إنه أضعاف راتبي! كم أتمنى أن يحبني أيضًا. هل يجب أن أتحدث معه مرة؟”
“بفف، ربما يحبكِ أيضًا! إنه يلاحقُ من يُبدي له اهتمامًا قليلًا إلى درجة الإزعاج!”
مع هذا الصوت الممزوج بالسخرية، تذكَّرتُ وجهَ جيرارد البريء.
<يا أمي، إذا احتجتِ لأي شيء، أخبريني! سأفعلُ كلَّ شيء!>
… تلك النظرة التي كان جيرارد ينظر بها إليَّ كانت بوضوح نظرةً تبحثُ عن العاطفة.
حتى وهو يدركُ تمامًا أن أنديتيني تكرهه.
لم يكن الطفلُ يعرف كيف يتركُ اليد.
“…”
<إنه حقًّا طفلٌ مضحكٌ! بمجرد أن أبدِي له قليلًا من القلق والاهتمام، يأتي إليَّ في كل مناسبة!>
الطفلُ الذي لم يُحَبّ، يسعى خلفَ ما يشبهُ الحبَّ.
كم يجب أن يكون وحيدًا ليسعى وراء هذا الاهتمام الرخيص بهذا الشكل.
شعرتُ بثقلٍ في قلبي.
‘لماذا هذا التشابهُ البالغ حتى في هذا الأمر…’
… في صغري، كنتُ أحبُّ مساعدةَ المنزل كثيرًا.
أحببتُ الحلوى التي كانت تأتي بها لي، والمديح والضحكات العابرة التي كانت تمنحني إياها أحيانًا.
وصل بي الأمرُ إلى تمني أن تكون هي أمّي.
لكن في النهاية، لم تكن مشاعرُها مثل مشاعري.
<المنزلُ غنيٌّ جدًّا. يقولون إنها الابنةُ الوحيدةُ ويريدون إطعامها كلَّ الأشياء الجيدة. إنهم يدفعون لي الكثير من المال لإطعام الطفلة، كيف أرحل؟>
في اليوم الذي تنصتُّ فيه على مكالمتها الهاتفية.
<الطفلةُ مزعجةٌ بعض الشيء، لكن لا بأس. أتعرفين، الأطفالُ غيرُ المحبوبين، بمجرد أن تمدحيهم مرة واحدة، يضحكون ككلبِ القريةِ سعيدين. إنها مزعجة، لكنها مطيعة.>
لم أستطع أن أسألها إذا كان ما قالته حقيقيًّا.
لم أستطع أن أقول لوالديَّ إنني منزعجة.
اكتفيتُ بمسحِ دموعي وحدي في غرفتي.
وبعد ثلاث سنوات، طُردتْ بعدما ضُبطتْ وهي تسرق خاتمَ أمي.
… كان جيرارد يشبهني تشابهًا مريرًا.
زواجُ والديهما الذي لم يكن مرغوبًا من الطرفين.
الأمُّ المخيفةُ والأبُ اللامبالي.
وعدمُ الحصولِ على الحب.
في سنِّ جيرارد تقريبًا، كنتُ أنا أيضًا أسعى جاهدةً للحصولِ على حب والديَّ.
<هل تشربين الماء؟>
<هل أساعدكِ؟>
كنتُ أراقبُ نظراتِ أمي حتى في أدقِّ وأبسطِ الأمور، تمامًا كما يفعل جيرارد معي الآن. كنتُ أتعذبُ لأرضيها.
في صغري، اعتقدتُ أن الحبَّ يمكن كسبه بالجهد.
في النهاية، استسلمتُ.
<أرجوكِ لا تتخلَّي عني.>
طفلٌ يشبهني.
… على الرغم من شعوري بالأسف تجاهه.
لم أكن عادلةً أو عاطفيةً بما يكفي لأخاطرَ بحياتي من أجله.
بأنانية، أردتُ أن أقول له: بما أنني نجوتُ، فعليك أن تنجوَ أنت أيضًا.
هل يمكنني، وأنا على هذه الحال، أن أغضبَ على الخادمتين من أجل جيرارد؟ هل أملك الحق في ذلك؟
‘ … في النهاية، سأتخلى عن جيرارد.’
كان هذا نفاقًا زائفًا.
حتى لو طردتُ هذه الخادمة، فستتكرر هذه الأمور مرات عديدة، ما لم يُبْدِ شخصٌ ما اهتمامًا مستمرًا بجيرارد.
كنتُ لا أريد أن أفعلَ أيَّ شيءٍ لجيرارد قدرَ الإمكان.
بما أنني سأرحلُ على أي حال، لم أكن أريد أن أنشئَ أيَّ رابطٍ عاطفي.
لم أكن طيِّبةً بما يكفي لأُعتَبَرَ شخصًا صالحًا يتجاوزُ الحسابات ويهتمُّ بالطفل، ولم أستطع في الوقت نفسه أن أتخلى بقسوةٍ عن طفلٍ تعلقتُ به دون شعورٍ بالذنب.
لذلك، أردتُ المغادرةَ قبل أن ينشأ أيُّ تعلُّق.
لم أكن أريد أن أهتمَّ لجيرارد ولو قليلًا، سواء كان ذلك بسبب تشابهٍ أو شفقة.
كنتُ مصممةً على ذلك بالتأكيد…
“… يا سيدة الدوقة؟!”
يا للسخرية، ضاربةً بكل عزمي عرضَ الحائط، فتحتُ الباب الذي ما كان يجب أن يُفتَح.
التعليقات لهذا الفصل " 2"