بعد أن ألقت شارلوت كلامها الأخير، غادرت الغرفة بنفس الثقة الجريئة التي دخلت بها، دون أن تلتفت خلفها. لم يكن وجود حارس إلى جانبها أو غيابه يشكل بالنسبة إليها مسألة ذات أهمية كبيرة.
ففي النهاية، كانت دائماً تحمل خنجراً مخفياً في طيات ثيابها، جاهزاً لحماية نفسها إذا ما اضطرت إلى ذلك. وكانت على يقين أن كوينسي، مهما بلغت قسوته، لن يتجرأ أبداً على إيذائها مباشرة، كما لو كانت هناك خطوط حمراء غير مرئية بينهما.
غادرت شارلوت، تاركة كوينسي وحيداً في الغرفة، يحدق في الفراغ الذي خلفه رحيلها، كأن شبح وجودها لا يزال يطفو في الهواء.
مع صوت نقرة خفيفة للمزلاج، فُتح الباب، ودخل دريك، أحد أتباع كوينسي المخلصين، وانحنى تحيةً باحترام.
“سيدي، كما أمرت، تأكدت أن الآنسة متجهة نحو الملعب،” قال دريك، بنبرة رسمية تخفي توتراً خفيفاً.
“إذن، عادت إلى إدوارد،” تمتم كوينسي، وصوته يحمل مرارة عميقة، كأن الكلمات تُنطق بنكهة السم. “إدوارد اللعين.”
‘ما الذي فعلوه بها؟’ تساءل كوينسي في نفسه، وهو يغرق في حيرة عميقة من التغيير الذي لمسه في شارلوت.
لم يكن غافلاً عن إدوارد. ألم يرسل جواسيسه لمراقبتهم؟
كان يعلم أن العلاقة بين ألفونسو وشارلوت لم تكن وثيقة إلى درجة الحميمية. لم يكن هناك لقاءات مميزة بينهما قبل زواجهما، ولم يكن ألفونسو من النوع الذي يغدق على زوجته بالعاطفة ليملأ فراغ وحدتها.
:فكيف، بحق السماء، استطاعوا أن يسرقوا مني شارلوت التي ربيتها بعناية؟’ فكر كوينسي، والغضب يتأجج في صدره كجمر مشتعل.
عندما قالت شارلوت: “كوينسي، لم أعد بحاجة إليك”، شعر كأن قلبه قد انهار إلى هاوية مظلمة. لم تكن تلك شارلوت التي عرفها طوال حياته. شارلوت التي شكلها بيديه، التي أمضى سنوات في صقلها، لم تكن لتفكر أبداً في التخلي عنه أولاً.
لقد قطعت صلتها به فعلاً، وبإرادتها الحرة، كما لو كانت تكسر قيداً كان يربطها به.
شعر كوينسي بخيانة حادة تمزق أحشاءه، كأن مخالب نارية تنحت جروحاً عميقة في روحه. لم يشعر بهذا الألم حتى عندما غادرت نوها لأول مرة، متحدية العائلة.
حينها، كان مقتنعاً أنها ستعود إليه حتماً، لكن هذا الشعور بالخيانة كان جديداً، قاسياً، ومؤلماً كطعنة غير متوقعة.
شد كوينسي فكه، فبرزت خطوط وجهه الحادة كشفرات، ثم استدار ببطء، وصوته يخرج كالسم المقطر: “ظننت أن الكلمات كافية لحل الأمر بسلاسة…”.
لكنه أدرك الآن أن الحلول الدبلوماسية لن تجدي نفعاً. مسح وجهه بيد متصلبة، كأنه يحاول محو الغضب الذي تجلى على ملامحه للحظة نادرة، ثم أضاف: “لقد غيرت رأيي، دريك. أخبر الرجل الذي استأجرناه ألا يتردد في استخدام أي وسيلة ممكنة.”
“هل تعني حقاً قتل دوق إدوارد؟” سأل دريك، وصوته يرتجف بدهشة واضحة.
“نعم،” رد كوينسي، وعيناه الخضراوان تلمعان ببرود قاتل. “كنت أنوي إبقاءه حياً، لأنه قد يكون مفيداً لنا يوماً ما. لكن…”.
كان يخطط في البداية لإصابة ألفونسو بجروح تجعله عاجزاً، أو على الأقل إلحاق ضرر به يكفي لدفع شارلوت إلى الاعتقاد أن وجودها يجلب المشاكل لمن حولها، مما سيجبرها على العودة إلى نوها طواعية.
لكن بعد محادثته معها، أدرك أن مثل هذه الحيل الخفيفة لن تكسر إرادتها القوية. كانت عيناها، وهي تعلن حبها لألفونسو، مشعة بصدق لا يقاوم، كضوء شمس لا يمكن إخفاؤه.
كان كوينسي يعرف تلك النظرة جيداً، كما لو كانت محفورة في ذاكرته.
في أيام الطفولة، قبل أن تُلقب شارلوت بـ”شريرة نوها”، قبل أن تصبح هدفاً لانتقادات المجتمع وأصابع الاتهام، كان يمشط شعرها كل صباح بينما هي نصف نائمة، في طقس يومي بسيط مليء بالدفء.
في تلك الأيام، قبل ظهورها الأول في المجتمع، كانت تستلقي على الأريكة، غير مبالية بفستانها المقلوب الذي يكشف عن ساقيها، تقرأ كتاباً، ثم تقول فجأة: “كوينسي، أنتَ المفضل لدي. أريد أن أعيش معك في نوها إلى الأبد.”
رد عليها بهدوء وهو يرتب كتاباً: “إذن، أرضي والدنا، شارل. عليكِ أن تحملي اسم نوها إذا أردتِ البقاء معي.”
“بالطبع سأفعل!” ردت بحماس طفولي، ثم أضافت بنبرة متذمرة: “لكن إذا تزوجت، لن أستطيع العيش معك، أليس كذلك؟”.
“هذا صحيح. الزواج أمر لا مفر منه،” أجاب، بنبرة عملية تخفي ابتسامة خفيفة.
“لكنني لا أريد ذلك!” قالت، وهي تميل برأسها. “ألا يوجد طريقة لنعيش معاً في نوها إلى الأبد؟”.
كانت أمنية طفولية، خالية من أي واقعية. فالنبلاء يتزوجون دائماً، وطالما أن دومينيك يسيطر على نوها، كان على شارلوت أن تتزوج حتماً، سواء أرادت أم لا.
لكن كوينسي توقف للحظة، مذهولاً بضوء الشمس الذي انسكب على وجهها، مضيئاً عينيها الخضراوين كاللوز، عينين تشبهان عينيه وتختلفان عنهما في آن. كانت تلك النظرة مشبعة بالود، كابتسامة صيفية تحمل عبق زهور الذرة المتفتحة.
“لو كان بإمكاننا العيش هكذا، نحن الاثنان فقط، إلى الأبد،” تمتمت، وهي تسند ذقنها على يدها، وابتسامة حالمة تعلو وجهها.
كان كوينسي يتذكر تلك النظرة بوضوح تام، كأنها محفورة في قلبه. ربما كانت تلك اللحظة التي شعر فيها، لأول مرة، بشيء يمكن تسميته تعلقاً حقيقياً.
لم يكن الأمر مفاجئاً عند التفكير فيه. حتى الحذاء القديم، بعد ارتدائه طويلاً، يصبح عزيزاً على صاحبه.
فلمَ لا يحب أخ شقيقته التي رباها بعناية وحرص؟.
لذلك، جعل كوينسي من شارلوت “شريرة نوها”، ليضمن ألا يجرؤ أحد على خطبتها. فعل ذلك ليمنع دومينيك الجشع من بيعها في زواج سياسي كأداة لتحقيق مكاسب. حتى عندما توقفت شارلوت عن النظر إليه بتلك العينين الدافئتين، لم يهتم كثيراً.
ففي النهاية، كانت ستبقى إلى جانبه، كما اعتقد. لكن الآن، تغير كل شيء، كأن الأرض انقلبت رأساً على عقب.
“سأقتل دوق إدوارد، وأعيد شارلوت إلى نوها، ولو بالقوة إن لزم الأمر،” قال كوينسي، وعيناه الخضراوان تلمعان بنور بارد كالجليد.
حتى الحذاء الذي فقد وظيفته يمكن الاحتفاظ به في خزانة، كتذكار أو كشيء يحمل قيمة عاطفية. ‘أفضل من التخلص منه،’ فكر، وهو يحدق في الفراغ بنظرة مظلمة.
“آمل ألا تندم شارلوت كثيراً على قرارها.” نظرت عيناه نحو الملعب، متلألئة ببرودة قاتلة، كأنما يخطط لضربة لا رحمة فيها.
***
عندما عادت شارلوت إلى الملعب بعد محادثتها المشحونة مع كوينسي، كانت المباراة قد انتهت بالفعل، وكان الهواء مشبعاً برائحة التوتر والحماس المتبقي.
هرعت إلى غرفة انتظار إدوارد، ممسكة بأطراف فستانها، وهي تندفع عبر الحشود بعجلة، كأنها امرأة فقدت صوابها، غير مبالية بالنظرات المستغربة من حولها.
“ألفونسو! أين ألفونسو؟” صرخت، وهي تجوب المكان بعينين متلهفتين، قلبها ينبض بقلق لا يهدأ.
الثقة التي أظهرتها أمام كوينسي لم تكن سوى قناع هش للغرور. في اللحظة التي سمعت فيها عن خطته الماكرة، كانت ترغب في الركض إلى الملعب فوراً، كأن قوة خفية تدفعها.
كان هناك فرق شاسع بين توقع أن كوينسي يخطط لشيء ما، وبين سماعه يعترف بذلك مباشرة، كأن كلماته أشعلت ناراً في صدرها.
‘آمل ألا يكون قد أصيب بجروح خطيرة،’ فكرت، وهي تحاول طمأنة نفسها بمهارة ألفونسو الأسطورية.
كانت تثق بقدراته، لكن ذكرى خسارته السابقة، تلك اللحظة التي فقدته فيها، كانت محفورة في غريزتها، أعمق من أي منطق يمكن أن يهدئها.
وأن يحدث هذا في غيابها عن الملعب جعل القلق يعتصر حلقها كيد حديدية، يخنق أنفاسها. وصلت إلى غرفة انتظار إدوارد بسرعة مذهلة، لكن يديها كانتا ترتجفان لدرجة أنها كادت لا تستطيع الإمساك بمقبض الباب.
اضطرت إلى دفع الباب بكل قوتها، متكئة على وزنه كأنها تعتمد عليه لتظل واقفة. ما إن انفتح الباب حتى انسكب صوت ضجيج من الداخل، مزيج من أصوات متداخلة مليئة بالتوتر.
“يجب أن نعالجك أولاً، سيدي!” صرخ أحد الفرسان بنبرة ملحة.
“سنحضر سيدتنا، فقط انتظر!” أضاف آخر بلهفة واضحة، كأنه يحاول تهدئة عاصفة.
عندما فُتح الباب بالكامل، توقف الضجيج فجأة، كأن الزمن تجمد في لحظة واحدة. رأت ألفونسو، وقد خلع درعه لتوه بعد المباراة، محاطاً بفرسان يحاولون تهدئته ومنعه من الحركة، كأنهم يحاولون السيطرة على أسد جريح.
تجمد الجميع في مكانهم، مصدومين برؤيتها، كأن شبحاً ظهر أمامهم. لم تلحظ تعابير وجوه الفرسان، أو ربما لم يكن بإمكانها ملاحظتها في تلك اللحظة.
ففي تلك الثانية، اندفع ألفونسو نحوها، وضمها إلى صدره بحركة مفاجئة، كأنه يخشى أن تختفي إن لم يمسك بها.
“ألفونسو؟” تمتمت شارلوت، وعيناها مفتوحتان على وسعهما من الصدمة والارتياح.
لم يجب، لكنها شعرت باضطراب قلبه، ينبض بسرعة كأنه يسابق الزمن. إذا كان كوينسي صادقاً، فقد رأى ألفونسو مشهداً في الملعب يوحي بأنها تُسحب بعيداً، كجزء من خدعة كوينسي الماكرة.
كان قلبُه ينبض بنفس الاضطراب الذي شعرت به وهي تركض طوال الطريق إلى هنا.
كان ذلك دليلاً واضحاً على أنه تجاهل نصيحتها بتجاهل أي شيء يحدث في المدرجات، مفضلاً القلق عليها على تركيزه في المباراة.
لكنه، في الوقت ذاته، كان دليلاً حياً على أنه بخير، يتنفس، ويقف أمامها الآن.
شمت رائحة خفيفة للدم، ومن الحديث الذي سمعته قبل دخولها، استنتجت أنه لم يخرج من المباراة سليماً تماماً.
لكنه، على الأقل، لم يكن في الحالة الكارثية التي تخيلتها طوال الطريق، تلك الصورة المرعبة التي ظلت تطاردها.
في تلك اللحظة، عاد عقلها إلى مكانه، وشعرت ساقاها بالضعف، كأن كل طاقتها استُنزفت في تلك اللحظة.
كادت تسقط، لكن ألفونسو ضمها بقوة أكبر، مانعاً إياها من السقوط، كأنه درعها الحي.
كان عناقاً طويلاً، مشبعاً بالشوق والارتياح، كأنهما يعيشان لحظة إعادة توحيد بعد فراق طويل.
***
للأسف، لم يدم هذا العناق الدافئ طويلاً.
فقد قاطعه السير أرنو، الذي لم يتحمل الصمت المشحون في الغرفة، وسأل بنبرة مترددة ممزوجة بالحماس: “أم، أعتذر عن المقاطعة في هذه اللحظة الحميمة، لكن هل يمكننا التصفيق؟ لم أرَ مشهدًا مؤثراً كهذا منذ خدمتي لسيدي!”.
كمكافأة على صراحته المتهورة، أُمر أرنو بالركض خمسين لفة حول ساحة التدريب، قفزاً كالأرنب، وسط ضحكات خافتة من الفرسان الآخرين.
~~~
لا تنسوا الاستغفار والصلاة على النبي!
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 98"