كلمات ألفونسو ظلت تتردد في ذهن شارلوت، ودون وعي منها، عادت إلى حوار دار بينهما قبل أيام قليلة. لم يكن مجرد حوار عابر، بل كانت كلمات ألفونسو التي نطق بها بنبرة مشحونة بالعاطفة:”أنتِ تشفقين عليّ، بينما أنا محروم حتى من حق القلق عليكِ.”
في تلك اللحظة، افترضت شارلوت أن ألفونسو قال ذلك لأنه يرفض أن يُعامل كضحية تستحق الشفقة. لكن الآن، وبعد تفكير عميق، أدركت أن الأمر لم يكن كذلك. لم تكن الشفقة هي المشكلة، بل كانت حدودها الصلبة التي وضعتها بينهما، تلك الحدود التي جعلته يشعر بأنه منبوذ، عاجز عن الاقتراب منها أو فهمها.
‘كيف لم أنتبه لهذا من قبل؟’ فكرت، وهي تشعر بثقل الحقيقة يضغط على صدرها. ألفونسو، بقلبه الطيب، كان يهتم بها رغم أنها ترى نفسها مجرد شخص عابر في حياته، ورقة يمكن التخلص منها دون أسف.
عندما استعادت ذكرياتها، أدركت أنها كانت منغمسة جدًا في فكرة الرحيل، لدرجة أنها أهملت تمامًا كيف قد تبدو تصرفاتها في عيون الآخرين. ‘لقد بالغتُ في وضع المسافات،’ اعترفت لنفسها بمرارة. كانت دائمًا باردة ومتحفظة مع الجميع، ولم تفكر بعمق في كيفية التعامل مع ألفونسو، الشخص الوحيد الذي شكّل استثناءً في عالمها. كانت تظن نفسها خبيرة في التعامل مع الناس، لكن عندما واجهت شخصًا تحبه بصدق ولكنها مضطرة لتركه يومًا ما، وجدت نفسها تائهة.
‘كيف يمكنني أن أحب شخصًا بكل قلبي وأعلم أنني سأغادره؟’ تساءلت، وشعرت بالحيرة تعصف بها. كلما حاولت التفكير، بدا الأمر أكثر تعقيدًا. لكن ما أصبح واضحًا الآن هو أن ألفونسو شعر بخلل في سلوكها. إذا كانا سيقضيان عامًا آخر معًا، فإن إصرارها على وضع حدود قاسية لن يكون مفيدًا لأي منهما.
أومأت برأسها بخفة، مصممة على أن تقول له إنها ستوافق على طلبه، ستسمح له بالاقتراب قليلًا، ستخفف من تلك الحدود. لكن في تلك اللحظة بالذات، شعرت بألم حاد يعتصر أحشاءها، وتقلص وجهها في تعبير من الرعب والألم.
“اخرج…” همست بصوت مكتوم، وكأنها تكافح لتتماسك.
“ماذا قلتِ؟” سأل ألفونسو، وقد فوجئ بتغير نبرتها المفاجئ.
“لا أريد مواصلة الحديث معك. اخرج الآن!” صرخت، وصوتها يرتجف من شدة الألم الذي كانت تحاول إخفاءه. كانت الكلمات تنطلق منها كالرصاص، لكنها لم تكن تعكس مشاعرها الحقيقية.
تجمدت ملامح ألفونسو، وعيناه اتسعتا للحظة في صدمة. لكن سرعان ما استعاد رباطة جأشه، وبدت عيناه الآن مشحونة بخيبة أمل عميقة.
“لم أظن أن طلبي كان معقدًا إلى هذا الحد،” قال بنبرة هادئة لكنها تحمل جرحًا واضحًا. “لكن إذا كنتِ مصرة، سأغادر.”
كان صوته يحمل نبرة أسى، كما لو أن كلماتها قد طعنته في صدره. لم يضف شيئًا آخر، وغادر غرفتها على الفور، تاركًا خلفه صوت الباب وهو يُغلق بقوة مكتومة.
عندما أصبحت وحيدة، استسلمت شارلوت أخيرًا للألم. وضعت يدها على فمها بسرعة، لكن الدم الساخن اندفع من حلقها، مصحوبًا بألم مروع يشبه طعنات السكاكين.
“كح… كح!” سعالها كان عنيفًا، ويداها ارتجفتا وهي ترى الدم الأحمر يغطي راحتيها. شعرت بدوخة طاغية، وغطى جبينها العرق البارد. كانت أنفاسها متقطعة، وكأنها تكافح لتبقى واعية.
‘كدتُ أن أُمسك…’ فكرت، وهي تحاول تنظيم أنفاسها. في اللحظة التي كانت على وشك الرد على ألفونسو، اجتاحها ألم مفاجئ، كالسكاكين التي تمزق أحشاءها. كان الألم شديدًا لدرجة أنها كادت تصرخ. لو تأخر ألفونسو في المغادرة ولو لثوانٍ، لكانت قد تقيأت الدم أمامه، كاشفة سرها المروع.
كانت تعرف مصدر هذا الألم جيدًا. ‘إنه الطقس،’ فكرت بحزن. لقد عانت من نفس الأعراض بعد عودتها إلى الماضي، لكنها كانت آنذاك خفيفة بما يكفي لتبريرها بمرض عابر. أما الآن، فقد تفاقمت الحالة بشكل خطير، وأصبحت تهدد حياتها.
“يجب أن أعتذر لألفونسو…” تمتمت، وهي تحاول كبح دموعها. لم تكن تنوي طرده أو إيذاءه، لكن الألم جعلها تفقد السيطرة. حاولت تنظيف الدم بسرعة واللحاق به، لكن جسدها المنهك لم يتحمل. فقدت وعيها قبل أن تتمكن من الخروج من الغرفة.
استيقظت في اليوم التالي، وشعرت بالامتنان لأنها كانت في قلعة بيهونيك، وليس في القصر الرئيسي. لحسن الحظ، لم تكن تُبقي خادمات معها، فلم ينتبه أحد لحالتها. لكن منذ تلك الحادثة، تدهورت صحتها بشكل مخيف. أصبحت تتقيأ الدم بشكل متكرر، وصارت حركتها محدودة بسبب ضعف جسدها المتزايد.
‘الآن، وبفضل الأدوية التي وصفها الطبيب، تحسنت حالتي قليلًا. لم أعد أتقيأ الدم يوميًا، وأستطيع القيام بالأنشطة اليومية إلى حد ما،’ فكرت. لكنها كانت تعلم أن هذا الحل مؤقت.
عندما استدعت طبيبًا سرًا، فحصها وهز رأسه بقلق: “يبدو أنكِ تعانين من إصابة داخلية غامضة أضعفت جسدكِ بشكل كبير. سأصف لكِ أدوية لتخفيف الأعراض واستعادة بعض القوة. مع الراحة لبضعة أيام، ستتمكنين من العودة إلى حياتك اليومية.”
لكنه أضاف بحذر: “هذه ليست المرة الأولى، أليس كذلك؟ الأعراض ستزداد سوءًا. لا أملك وسيلة لعلاج هذه الإصابة الداخلية. إنها تفوق قدراتي.”
كانت شارلوت تعلم أن هذه الإصابة لا يمكن علاجها. ‘إنها نتيجة الطقوس،’ فكرت بحزن. لكن كان هناك بصيص من الأمل. تفاقم الأعراض الآن يعني أن الطقس يقترب من اكتماله، وهذا بدوره يعني أن ألفونسو يقترب من تحقيق السعادة التي طالما أرادتها له.
‘هناك تقدم حقيقي!’ فكرت، وشعرت بفرحة خفيفة تخفف من ألمها. جهودها—إعادة الخاتم إليه وجعل كلوي تقف إلى جانبه—كانت تؤتي ثمارها. كانت دائمًا تخشى ألا تنجح في جعل ألفونسو سعيدًا، وهو خوف تحول إلى هوس يؤرقها ليل نهار. ‘كنتُ سأنهار لو لم يكن هناك تقدم بعد حل مشكلة بيهونيك.’
بالطبع، لم تصل بعد إلى جعل ألفونسو سعيدًا بالكامل، لكن وجود تقدم كان كافيًا ليملأ قلبها بالأمل. كانت ترغب في القفز فرحًا، لكن جسدها الضعيف منعها من ذلك.
لكنها كانت تعلم أنها لا تستطيع الاستمرار على هذا الحال. خلال أيام قليلة، أصبح وجهها شاحبًا بشكل ملحوظ، وكانت تخفي ذلك بالمكياج. لكن الأعراض قد تتفاقم في أي لحظة، مما جعلها تخشى الخروج. وبسبب حاجتها إلى الراحة، انعزلت عن الجميع، مما جعل ألفونسو يعتقد أنها غاضبة منه.
‘لقد بدا منزعجًا جدًا عندما غادر الغرفة،’ تذكرت، وشعرت بالذنب يعتصر قلبها. كانت تريد الاعتذار، لكن حالتها الصحية لم تسمح. في يدها، كانت لا تزال تمسك بمنديل ملطخ بالدم، تذكيرًا قاسيًا بواقعها.
‘إذا ذهبتُ إليه بهذا الوضع، سيكتشف الحقيقة،’ فكرت. ألفونسو كان ملاحظًا بشكل استثنائي، وسينتبه إلى أي علامة تدل على مرضها. ‘ومع طباعه الطيبة، لن يتجاهلني إذا عرف أنني مريضة.’
كان قد طلب منها أن تسمح له بالقلق عليها، وإذا اكتشف حالتها، سينشغل بها، مما قد يعيقه عن سعادته التي اقترب منها أخيرًا. ‘يجب أن أجد حلاً قبل أن يلاحظ شيئًا،’ قررت بحزم.
وهكذا، توصلت إلى نتيجة حتمية: يجب أن تجد الخيميائي غابرييل. ‘هو الوحيد القادر على مساعدتي في السيطرة على هذه الحالة.’ الأطباء العاديون عجزوا عن علاج إصابتها الداخلية، لكن غابرييل، بمعرفته الواسعة وخبرته العميقة، قد يجد طريقة لإخفاء الأعراض على الأقل، إن لم يكن علاجها.
“المشكلة الآن هي كيف أعثر على غابرييل،” تمتمت، وهي تحاول تنظيم أفكارها. لحسن الحظ، كان لديها فكرة عن مكانه المحتمل. ولحسن الحظ الأكبر، كان المكان قريبًا من بيهونيك: مدينة دي سان فال، أو “سان فال” كما تُعرف عادةً.
كانت سان فال تُلقب ب “مدينة الماء والسيف”، وهي مدينة ذات طابع فريد بسبب قناتها الضخمة التي تقسمها إلى نصفين، ومبانيها المتلاصقة التي تشكل شبكة معقدة من الأزقة. تذكرت شارلوت أن غابرييل أشار مرة إلى أنه عاش هناك، أو بالأحرى، هي من اكتشفت ذلك عندما رأت لوحة معلقة على جدار منزله.
“غابرييل، قلتَ إنك زرت أماكن كثيرة. هل كنت في سان فال؟” سألته يومها.
“لماذا تسألين؟” رد بنبرة حذرة، كأنه يحاول تجنب الموضوع.
“بسبب هذه اللوحة. إنها تصور مناظر سان فال، أليس كذلك؟”.
كانت اللوحة تصور القناة الشهيرة والمباني الضيقة المتلاصقة، وهي سمة مميزة لسان فال. كانت المدينة قد تحولت إلى وجهة سياحية بعد تطوير القناة، لكن التوسع العشوائي في السابق جعل الأزقة معقدة وخطيرة، مما أدى إلى تدهور الأمن في بعض المناطق وزيادة عدد المسلحين. لهذا السبب، أُطلق عليها لقب “مدينة الماء والسيف”.
عندما ضغطت عليه، قال غابرييل بنبرة مترددة: “اشتريتها بدون قصد. لا تهتمي.”
لكن شارلوت كانت مقتنعة أن اللوحة كانت ذات معنى بالنسبة له، وإلا لما احتفظ بها. لحسن الحظ، كانت سان فال قريبة من بيهونيك، لذا لن يكون السفر إليها صعبًا من الناحية الموضوعية. لكن المشكلة الحقيقية كانت حالتها الصحية. ‘سان فال ليست مكانًا آمنًا، وأنا بهذا الضعف لن أتمكن من التجول في أزقتها الخطيرة،’ فكرت.
“هل أخاطر وأذهب على أي حال؟” تساءلت، وهي تشعر أن هذه قد تكون فرصتها الوحيدة. إذا لم تذهب الآن، قد لا تسنح لها الفرصة مجددًا. بينما كانت غارقة في أفكارها، قطعتها طرقات خفيفة على الباب.
“سيدتي، أنا آرنو جويل. هل يمكنني الدخول للحظة؟”.
~~~
لا تنسوا الاستغفار والصلاة على النبي!
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 73"