كانت شفقة شارلوت، بلا شك، تجعل ألفونسو يشعر بخجل يعتصر قلبه. لكنها، في الوقت ذاته، كانت تحمل حلاوة مغرية، كرائحة زهرة تتفتح في غابة مظلمة. كلما تخيل عينيها الخضراوين، اللتين تلمعان كبحيرة مضاءة بأشعة غروب الشمس، شعر ألفونسو برغبة جارفة في مد يده نحوها، ليغرق وجهه في دفء تلك الشفقة التي كانت تمنحه إياها بحرية. كانت شارلوت هي من اقتربت منه أولاً، بخطوات واثقة ودون حذر، مما جعله يتساءل عما إذا كان له الحق، ولو قليلاً، أن يطمع في هذا القرب.
‘تبًا’، فكر ألفونسو فجأة، مقاطعًا نفسه بعنف وكأنه يحاول كبح جماح خيال جامح. ‘حق؟ أي حق؟ لا يوجد شيء كهذا!’ كانت أفكاره تتدفق كسيل جارف، تعصف بعقله كعاصفة لا ترحم. كان كل شيء في حالة اضطراب، وكلما حاول تنظيم أفكاره، شعر باختناق أشد.
وقف في إحدى الردهات الطويلة لقصر بيهونيك، حيث كانت الجدران الحجرية القديمة، المزينة بالنقوش الدقيقة، تلقي ظلالاً داكنة على الأرضية الرخامية الباردة التي تعكس ضوء المشاعل الخافت. سحب ربطة عنقه بحركة متشنجة، محاولاً تخفيف الضغط الذي شعر به في صدره، لكن الإحساس بالضيق لم يتلاشَ. عبس قليلاً، وجبهته تتجعد في تعبير من الإحباط، ثم بدأ يسير بخطوات سريعة وثقيلة، كما لو كان يهرب من شبح يطارده. لكن أفكاره كانت أسرع، تلاحقه كذئاب جائعة: ‘إذا كنتِ تهتمين بي وتشفقين عليّ، فلماذا لا تبقين؟ لماذا أجد نفسي أتوسل في داخلي ألا تسحبي يدكِ؟’.
‘هي ليست من هذا النوع’، فكر بحزم، محاولاً إسكات تلك الأصوات الداخلية التي كادت تفتك به. شارلوت كانت دائمًا تفكر في النهاية، كأن كل خطوة تقوم بها هي جزء من خطة محكمة تنتهي برحيلها. لقد اختارها لأنه أراد أن يظل وحيدًا في النهاية، وهي بدورها اختارت هذا الطريق. ‘يجب أن أتوقف’، قال لنفسه، وهو يتكئ على جدار بارد، مغمضًا عينيه بقوة كمحاولة يائسة للهروب من أفكاره المضطربة. في تلك اللحظة، شعر، لأول مرة في حياته، بمعنى أن يكون المرء أسير قلب لا يمكنه التحكم به، أسير مشاعر ترفض الانصياع.
* * *
في هذه الأثناء، داخل غرفة ألفونسو، وقفت شارلوت أمام الباب الخشبي الثقيل الذي أغلقه خلفه بقوة، ترمش بعينيها بدهشة وكأنها تحاول فك لغز معقد. كانت مرتبكة، كأن علامة استفهام عملاقة تتراقص فوق رأسها، مضاءة بضوء الشموع التي ترقص على الطاولة الجانبية. ‘هل ألفونسو غاضب؟’ تساءلت، وهي تميل رأسها قليلاً، محاولة تفسير ردة فعله. نبرته كانت حادة، مما يؤكد غضبه، لكن ما أربكها لم يكن الغضب بحد ذاته، بل شيء أعمق، شيء شعرت أنه مألوف بشكل غريب.
‘تعبيره… يذكرني بشيء من الماضي’، فكرت، وهي تحدق في الباب المزخرف بنقوش نبيلة قديمة. شعرت بنوع من الديجا فو، كأنها عادت إلى لحظة من حياتها السابقة. كان وجه ألفونسو، بجبهته المجعدة وعينيه المليئتين بالتوتر، يشبه تعبيره في تلك الأيام البعيدة، عندما كان ينظر إليها بنظرات مليئة بالازدراء أو ربما الاستياء. ‘لا، هذا مستحيل’، قالت لنفسها، وهي تهز رأسها لتبديد الفكرة. علاقتهما الآن مختلفة تمامًا، وكانت واثقة من ذلك.
كانت هذه الثقة مستمدة من لحظات الصباح التي أصبحت طقسًا يوميًا بينهما. شارلوت، التي كانت في حياتها السابقة تنام حتى وقت متأخر، تغيرت بعد وفاة ألفونسو. كانت الكوابيس والأرق يطاردانها، حتى أصبح الاستيقاظ قبل الفجر عادة راسخة. لكنها لم تشتكِ، لأن ذلك منحها فرصة مشاركة ألفونسو لحظات الصباح.
لم تكن محادثاتهما طويلة أو عميقة، لكن الراحة التي شعرت بها في وجوده كانت كافية. كانا يلتقيان في الردهات الرخامية الباردة أو غرفة الجلوس المطلة على الحديقة، حيث كانت أشعة الشمس الأولى تتسلل عبر النوافذ الزجاجية الملونة. “صباح الخير، ألفونسو”، كانت تقول، مرتدية ثوب نوم حريري خفيف مغطى بشال طويل يتدلى على كتفيها، وشعرها الأحمر يتوهج تحت الضوء.
‘ألفونسو الآن لا يكرهني’، فكرت بارتياح. كان هذا كافيًا لتشعر بالسعادة، مقارنة بالماضي، عندما كان كل لقاء بينهما كالمشي على جليد رقيق، يهدد بالانهيار في أي لحظة. في تلك الأيام، بعد سنوات من زواجهما، كان ألفونسو ينظر إليها بنظرات مليئة بالازدراء، أو ربما بالإحباط، وكان يعبس كلما التقيا.
تذكرت حوارًا قديمًا بينهما. “شارلوت، هل يزعجكِ حقًا أن أهتم بكِ؟” سألها ذات يوم، بنبرة تحمل مزيجًا من التحدي والإحباط، وكأنه يحاول فهمها دون أن يرغب حقًا في ذلك.
“نعم، يزعجني”، ردت دون تردد، كلماتها حادة كالسكاكين. كانت تعلم أن ألفونسو يحب أديلين، ولم تكن تريد أن تكون مجرد واجب بالنسبة له. كلما أظهر اهتمامًا بها، شعرت بالبؤس أكثر، لكن كبرياءها منعها من شرح ذلك، وألفونسو لم يبذل جهدًا لفهمها.
“إذا كنتِ تكرهين ذلك، فتحمليه. أنا أيضًا أتحملكِ، أليس كذلك؟ لن أتخلى عن واجباتي كزوج”، قال بنبرة باردة، وجبهته تتجعد أكثر.
“افعل ما شئت. لكن لا تتفاجأ إذا عوقب الخدم الذين ينقلون أخباري إليك”، ردت بسخرية لاذعة.
كانا عنيدين بشكل لا يصدق، هو بسبب مبادئه الراسخة، وهي بسبب كبريائها الذي لا يلين. كانت الخلافات بينهما حتمية، وفي النهاية، كانت هي من تستسلم غالبًا. ‘من يحب دائمًا هو من يخسر’، فكرت بحزن خفيف، وهي تعود إلى الواقع عندما سمعت طرقًا خفيفًا على الباب.
كان هذا هو السبب الذي جعلها تبقى في الغرفة بدلاً من ملاحقة ألفونسو. ‘كنت أتوقع قدومها الآن’، فكرت، وهي تستعد للمواجهة القادمة. ‘بل إنها تأخرت قليلاً، أليس كذلك؟’.
“تفضلي”، قالت شارلوت بنبرة هادئة لكن حازمة. فُتح الباب الثقيل، ودخلت كلوي بيهونيك، وجهها يحمل تعبيرًا من القلق الممزوج بالتردد. كانت بالضبط كما توقعت شارلوت، وكأنها تلعب دورًا في مسرحية كتبتها شارلوت بنفسها.
“ما الأمر، سيدة بيهونيك؟” سألت شارلوت، وهي تجلس على كرسي فاخر مغطى بقماش مخملي أحمر داكن، وذراعاها مطويتان بأناقة. كانت نبرتها هادئة، لكنها تحمل حدة خفية تجعل من يسمعها يشعر بالحذر.
“أنا… أنا…”، تلعثمت كلوي، ثم انخفض رأسها في حركة اعتذار عميقة، كأنها تحاول إخفاء وجهها من الخجل. “أنا آسفة، سيدة إدوارد. أتقدم باعتذاري الحقيقي.”
كانت كلوي، التي تكبر شارلوت بما يكفي لتكون في مقام والدتها، تنحني أمامها، وهي الابنة الوحيدة لعائلة بيهونيك، التي نادرًا ما اضطرت لخفض رأسها لأحد في هذه المنطقة الريفية النائية. كان وجهها يحمر من الخجل، وعنقها يتوهج بلون قرمزي، لكن شارلوت ظلت جامدة كتمثال، لا تظهر أي علامة تعاطف أو اهتمام.
“اعتذار؟ عما؟” سألت شارلوت، وهي تميل رأسها قليلاً بنظرة متسائلة، كأنها تدفع كلوي للكشف عن تفاصيل أكثر.
“عن… اتهامكِ بالسرقة دون دليل”، ردت كلوي بصوت خافت، وعيناها مثبتتان على الأرضية الخشبية المصقولة.
“وأيضًا عن تفتيش غرفتي دون إذن، أليس كذلك؟” أضافت شارلوت، ونبرتها تحمل سخرية خفيفة لكنها لاذعة.
“نعم… أنا حقًا آسفة”، قالت كلوي، وهي تنحني أكثر، كأنها تحاول أن تجعل نفسها أصغر أمام شارلوت.
ابتسمت شارلوت ببرود، وكأنها تتسلى بالموقف. “يبدو أنكِ لم تجدي القلادة بين أغراضي، أليس كذلك؟”.
صمتت كلوي، عاجزة عن الرد، وكأن الكلمات تجمدت في حلقها.
“من الواضح”، استطردت شارلوت بنبرة واثقة، وهي تستند إلى ظهر الكرسي. “بعد كل التهديدات التي أطلقها ألفونسو، كنتِ بحاجة إلى إيجاد شيء لتبرير تصرفاتكِ. لكنني لم آخذ شيئًا، فكيف ستجدين ما ليس موجودًا؟”.
كانت شارلوت محقة. تذكرت كلوي تعابير الإحباط على وجوه الخادمات وهن يخبرنها أنهن لم يجدن شيئًا، حتى بعد تفتيش كل زاوية في غرفة شارلوت، بما في ذلك تحت السرير والخزائن المغلقة. كانت القلادة، وهي إرث عائلة بيهونيك ذو قيمة رمزية عظيمة، قد اختفت بشكل غامض. كانت كلوي مقتنعة أن شارلوت هي السارقة، ربما كعقاب لاشتباهها في أمر الخاتم الذي تخفيه عائلتها.
كانت الأدلة الظرفية تبدو قوية: شهادة خادمة تشير إلى تصرفات مشبوهة، وكون شارلوت الغريبة الوحيدة في قلعة بيهونيك، إلى جانب دوافع محتملة للرد على عائلة بيهونيك. لم تفكر كلوي مليًا، بل اقترحت أن شارلوت هي المذنبة وأصرت على تفتيش غرفتها، حتى بعد تحذيرات ألفونسو. ‘حتى لو تسببت في مشكلة مع إدوارد، يجب أن أستعيد القلادة’، فكرت كلوي، لكنها الآن كانت تواجه حقيقة مريرة: لم يكن هناك دليل.
‘إذا خسرت القلادة وتسببت في مشكلة مع إدوارد…’، فكرت كلوي، وشعور بالذعر يتسلل إلى قلبها كالسم. كانت تحاول الحفاظ على هدوئها، لكن داخلها كان يغلي بالقلق.
“ليس لدي المزيد لأقوله. يمكنكِ المغادرة الآن، سيدة بيهونيك”، قالت شارلوت بنبرة باردة كالثلج، وهي تشير إلى الباب بحركة يد أنيقة.
لكن كلوي، في لحظة يأس، أغلت عينيها بقوة وبدأت تركع ببطء، كأنها تستسلم لقدرها. “سيدة إدوارد، أرجوكِ، أنصتي إليّ هذه المرة فقط. أعترف أنني أخطأت، ويمكنكِ اتهامي بظلمكِ. أنا مستعدة لتحمل أي عقاب!” توقفت لحظة، ثم أضافت بنبرة يائسة: “لكن القلادة… يجب أن أستردها. إنها ذات أهمية كبيرة لعائلتنا!”.
“كأن أغراضكم هي الوحيدة المهمة”، تمتمت شارلوت بسخرية خفيفة، لكن صوتها كان منخفضًا لدرجة أن كلوي لم تسمعه بوضوح. قبل أن تستطيع كلوي السؤال، قالت شارلوت بنبرة حيادية: “إذا كانت القلادة بهذه الأهمية، فماذا يمكنكِ تقديمه مقابل مساعدتي في العثور عليها؟”.
~~~
لا تنسوا الاستغفار والصلاة على النبي!
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 61"