– كيفية إنهاء عقد زواج بشكل مثالي.
الفصل الواحد والعشرين
في صباح اليوم التالي، مع أولى خيوط الفجر، غادرت شارلوت على عجل. كانت وجهتها مدينة دواين، وهي ليست بعيدة عن العاصمة، بل تقع على مقربة منها، مكان يحمل في طياته سحراً خاصاً.
“شارلوت ذهبت إلى دواين؟ حسنٌ، ليس سيئاً على الإطلاق. هناك بحيرة تحبها كثيراً، أليس كذلك؟” قال كوينسي بنبرة مرحة وهو يتلقى تقرير خادمه. كان يتحدث وكأنه أخٌ عادي يتمنى التوفيق لأخته الصغرى في رحلتها.
منذ صغرها، كانت شارلوت مفتونة بالأنهار والبحيرات، تتأمل صفاء المياه وهدوءها. لكن هذا المشهد الوديع لم يكن سوى واجهة. لو لم يكن أمام كوينسي رجلٌ مقيد، يتلوى على الأرض ويصرخ بصوت مكتوم، لكان من السهل تصديق هذا المظهر البريء.
“أوغ! أوغ!” كانت أصوات الرجل المكمم تخترق الصمت، بينما كان وجه كوينسي الهادئ، بل والمبتهج تقريباً، يشكل تناقضاً صارخاً مع المشهد. من جهة، رجل يصارع من أجل حياته، ومن جهة أخرى، كوينسي يتحدث ببرود كما لو كان يستمتع بفنجان شاي في فترة ما بعد الظهر.
“بجوار تلك البحيرة، تنتشر أشجار الزهور بكثرة. في الربيع، تتساقط بتلات الزهور الملونة على سطح الماء، مكونة لوحة بصرية خلابة. شارلوت تحب هذا المنظر كثيراً،” أضاف كوينسي بنبرة شاعرية، وكأنه يسترجع ذكرى عزيزة. ثم أردف، بنبرة أكثر حنيناً: “كم كنت أتمنى لو استطعت أن أصطحبها هناك بنفسي.”
ثم، التفت فجأة إلى الرجل المقيد على الأرض، وقال بنبرة تحمل تهديداً خفياً: “أليس كذلك، روهان ألويس؟”.
لم يكد ينهي جملته حتى رفع قدمه الأنيقة، ووجه ركلة قوية إلى وجه روهان. صوت الضربة القاسية تردد في الغرفة، مصحوباً بصفير خفيف أطلقه كوينسي كما لو كان يحتفل بانتصار صغير.
“يا للأسف، كنت آمل أن أرى هذا المنظر مع شارلوت هذا الربيع أيضاً،” قال كوينسي بنبرة ساخرة، ثم أضاف بصوت أكثر قتامة: “من كان يظن أن هناك من يجرؤ على صفع شارلوت ويظن أنه سينجو بفعلته؟”.
بإشارة من ذقنه، اقترب رجال كوينسي وأزالوا الكمامة عن فم روهان. بمجرد أن تحرر فمه، بدأ روهان يتوسل وهو يبكي: “أنا… أنا بريء! لقد كانت هي من حاولت إغوائي أولاً! يدي… كانت مجرد خطأ! إذا كنت تعتمد على كلامها فقط، فهناك سوء تفاهم كبير!”.
“أردت أن أسمع ما ستقوله، لكن يبدو أن كلامك لا يستحق الاستماع إليه،” رد كوينسي ببرود، ثم وجه ركلة أخرى إلى روهان، جعلته يتأوه من الألم.
“روهان ألويس، أنت من يعاني من سوء فهم. شارلوت لم تقل عنك ولو كلمة واحدة،” قال كوينسي، وهو يحدق فيه بنظرة باردة كالجليد.
“إذن… لماذا؟” تمتم روهان، وهو يلهث من الألم والخوف.
“لماذا؟ يا لها من مفاجأة أن تسأل هذا السؤال. ألست أخوها؟ أليس من الطبيعي أن أدافع عنها؟” رد كوينسي بنبرة ساخرة، ثم أضاف: “أخ يجب أن يتعامل حتى مع الأمور التي لا تتحدث عنها أخته.”
في عينيه الخضراوين، برزت ذكرى قديمة. رأى شارلوت تضع منديلاً على خدها، وإلى جانبها ألفونسو. ثم سمع صوتها الخافت عبر الباب: “هل أنت… تكرهني أيضاً؟”.
“شارلوت ضعيفة القلب، كانت كذلك منذ صغرها. لو كنت مكانها، لقتلت من يسبب لي المتاعب دون تردد، لكنها لم تفعل ذلك قط،” قال كوينسي بنبرة فيها شيء من الحسرة. “لذلك، لا خيار أمامي سوى أن أتدخل نيابة عن أختي الرقيقة.”
ضرب بقدمه خد روهان بخفة مرتين، ثم استدار وقال: “انهوا الأمر.”
“كيف نفعل ذلك؟” سأل أحد رجاله.
“افعلوا كما فعلتم مع ديتريش. اعطوه خيارين: إما أن يدفع ثمناً لصمته، أو يصمت إلى الأبد دون ثمن،” أجاب كوينسي بنبرة هادئة، كأنه يتحدث عن أمر تافه.
الصمت بدون ثمن يعني الموت. أما الصمت بثمن؟ تذكر روهان فجأة شائعة قديمة:”هل سمعت عن السير ديتريش؟ لقد هاجمه قطاع طرق وفقد يده. يقولون إنه يتذكر كل شيء بوضوح، لكنه لا يعرف من هم المهاجمون. خسارة يده أنهت آماله في الترقي.”
“لا… لا!” صرخ روهان، وقد تملكه الرعب وهو يرى رجال كوينسي يقتربون حاملين أسلحة حادة. في الخلفية، رأى ابتسامة كوينسي الباردة.
“سأنقل تحياتي إلى السيدة ألويس بنفسي،” قال كوينسي قبل أن يغادر القبو، وصوت صراخ روهان يتردد خلفه.
خارج القبو، استقبلته خادمة من عائلة نوها، منحنية باحترام. “سيدي.”
“آه، سيلفيا، أراكِ هنا. هل أنهيتِ المهمة التي كلفتكِ بها؟” سأل كوينسي.
“نعم، تم التعامل مع أمر إدوارد كما أمرت. لن يجهلوا أن نوها وراء ذلك،” أجابت.
“عملٌ جيد،” قال كوينسي، مبتسماً بلطف، ثم صعد السلالم. عيناه الخضراوان، اللتين تشبهان لون الأبسنت القوي، كانتا الجزء الوحيد الملون في وجهه الشاحب. وفي تلك اللحظة، عبر ذهنه اسمٌ أزعجه: ألفونسو لينوس إدوارد.
تذكر كلماته لشارلوت الليلة الماضية: “لا تتزوجي، شارلوت.”
لم تكن كلماته مجرد نزوة. كان كوينسي ينتظر هذه اللحظة منذ زمن. كان يعلم أن شارلوت، بقلبها الرقيق، لن تستطيع عصيان أوامر والدها، لكنها أيضاً لن تكمل المهمة، وستعود إليه طالبة المساعدة. كان هذا هو السيناريو المثالي الذي رسمه في ذهنه.
‘لم أتوقع أن تكتشف شارلوت ما يُطعم لوالدها،’ فكر كوينسي. لكن هذا ربما كان لصالحه. ما يهم هو الرابطة بينه وبين شارلوت. إذا كان تقاسم الأسرار سيجعلهما أقرب، فهذا ليس بالأمر السيء.
لكن أن يرغب ألفونسو في الزواج من شارلوت؟ هذا لم يكن جزءاً من خطته. لو كان الأمر مجرد زواج سياسي، لما تدخل. لكن تلك النبرة في صوت شارلوت:”هل أنت… تكرهني أيضاً؟”
كانت المرة الأولى التي يسمع فيها خوفها من أن يكرهها أحدهم. ‘هذا لا يُعقل،’ فكر كوينسي. في تلك اللحظة، أدرك أن ألفونسو لينوس إدوارد سيغير شارلوت، وهو لم يكن مستعداً بعد للسماح بذلك.
‘إذا علمت شارلوت بما أفعل، ستكرهني بالتأكيد،: فكر كوينسي بلا مبالاة، ثم نفض الفكرة من رأسه. كان هذا هو أسلوبه: خالٍ تماماً من أي شعور بالذنب.
***
في اليوم التالي، في قصر إدوارد.
ضغط ألفونسو على صدغيه بأصابعه، وهو يحاول استيعاب الموقف. “لنلخص الأمر: قبل الاحتفال بتأسيس المملكة، اختفت الجوهرة التي كان من المفترض تقديمها للملك. والأدلة تشير إلى أن عائلة نوها وراء ذلك. هل فهمت الأمر بشكل صحيح؟”.
“نعم، سيدي. في اليوم السابق، جاء وفد من نوها وطالبوا بنفس الجوهرة بالضبط. لا أعلم إن كانوا يعلمون بأمرها أم لا، لكن…” أجاب أحد مرؤوسيه.
“لا داعي للتلطف، لودفيغ. إذا قلت إنهم لم يكونوا يعلمون، فهذا يعني أنهم أغبياء،” قاطعه ألفونسو بنبرة حادة.
“نعم، سيدي،” رد لودفيغ بخنوع.
“وسيرجو، أنت أيضاً تلقيت الرفض من نوها اليوم، أليس كذلك؟” أضاف ألفونسو.
“كانوا على وشك سكب الماء عليّ لو لم أغادر على الفور،” أجاب سيرجو بنبرة مكتئبة.
ضغط ألفونسو على صدغيه مرة أخرى، وأغلق عينيه ببطء. ساد الصمت الغرفة، حتى قالت صوفيا، التي كانت تجلس على الأريكة المقابلة: “يا لها من فضيحة…”.
كانت جملتها تعبر عن مشاعر الجميع.
***
في الحقيقة، كان ألفونسو واثقاً من أن عرض الزواج سينجح هذه المرة. كيف لا؟ كان عرضه مثالياً، جذاباً حتى. لكن هذا كان سيصح لو كانت شارلوت مجرد فتاة مضطهدة من عائلتها. من وجهة نظره، لم يكن هناك سبب منطقي لرفضها عرضه.
‘بالطبع، قد تكون لديها أسباب،’ فكر ألفونسو. ربما تريد أن تكون مخلصة لحبيبها، أو ربما قال لها حبيبها إنه لا يريدها أن تتزوج. كان هذا مفهوماً.
لقد أخبرها بوضوح أنه لن يجبرها، وأعطاها مهلة أسبوع، وطلب منها ألا تتجنبه. ‘لكن هل كان عليها أن ترفض بهذه الطريقة؟’ تساءل بنبرة متزايدة الحدة.
لماذا كانت متعجرفة إلى هذا الحد؟ ألم تعلم أن وقته محدود؟ أم أنها تستمتع برؤيته يتعلق بها كما لو كان مفتوناً بطرف ثوبها؟ شعر ألفونسو بصبره ينفد.
في الحقيقة، كان دائماً هكذا مع شارلوت. هو، الرجل الذي لا يتصرف بعفوية، وجد نفسه مدفوعاً بالاندفاع. هو، الذي اعتاد أن يعامل الصبر كلعبة، وجد نفسه يفقده. ولأول مرة منذ قرر الزواج من شارلوت، وافق على الآراء السلبية التي أبداها مستشاروه.
“سيدي، أرجوك، فكر مرة أخرى. عائلة نوها ليست الخيار الصحيح. إذا استمررنا في التنازل لهم رغم تصرفاتهم الوقحة، سيكون ذلك إهانة لشرف إدوارد. لذا…” بدأ لودفيغ.
“كفى، فهمت،” قاطعه ألفونسو بحدة.
“أرجوك، هذا طلب من القلب. نوها…” حاول لودفيغ الاستمرار.
“قلت إنني فهمت، لودفيغ بارتيليمي. لا تجعلني أكرر كلامي،” رد ألفونسو بنبرة جعلت الحاضرين يصمتون.
شعر بحرقة في حلقه، كأنه ابتلع حفنة من الإبر. لم يستطع تحديد سبب هذا الشعور بالضبط. هل كان مجرد استياء من تصرفات شارلوت المتعجرفة، كما يرى رجاله؟ أم أن الألم يأتي من إدراكه أنه أخطأ في تقدير الموقف، ظاناً أن الزواج سيكون سهلاً؟.
:ربما الأخير،’ فكر ألفونسو. كان تقييمه للأمور دائماً صحيحاً، أو هكذا اعتقد. نجاحاته العديدة في ساحات المعارك أثبتت ذلك. لكن بمجرد أن ترك ساحة الحرب، بدا أن حدسه فقد بريقه. العلاقات البشرية ليست كالتكتيكات العسكرية، لكنه ربما بالغ في ثقته بنفسه.
بنبرة قاسية، قال: “سأمضي قدماً في مفاوضات الزواج مع لافيروز.”
~~~
لا تنسوا كومنتاتكم الحلوة يلي تخليني استمتع بالتنزيل
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
التعليقات لهذا الفصل " 21"