الفصل التاسع
“سموكِ، أأنتِ متوعّكة كثيرًا؟”
لم يأتِ جواب، بل تسلّل من الغرفة صوت سعالٍ حادّ.
“أظنني سأكون بخير بعد أن أرتاح أيامًا قلائل.”
“فلعلّي أمكث بجانبك إذًا…”
“كلا. لا حاجة لذلك.”
جاء الرد هذه المرة على عجل.
“قد تُصاب أنت بلا طائل. أنا بخير، فلا تقلق، وامضِ لشأنك.”
“لكن…”
“قلت لك لا تُشغل بالك.”
وإذ رأى ثيودور متردّدًا لا يعرف أيَصْنَعُ، تكلّمت الكاهنة الواقفـة بجانبه بنبرة هادئة:
“سأبقى أنا هنا، فبإمكانك الانصراف.”
“لا أستطيع أن أحمّلك ذلك. فلا بدّ أنّ لك شؤونًا أخرى…”
لكنها هزّت كتفيها وكأنّ الأمر هين.
“في العادة أكون منشغلة بإعداد قدّاس العصر، غير أنّك تعلم… الرئيس لا يُبالي بمثل هذه الشعائر في هذه الأيام، أليس كذلك؟”
لم يكن في كلامها موضعٌ للجدال. فمنذ أن حلّ الجيش بلوپويل، انصرف الرئيس بكليته إلى إكرام الجنود وصرف وجهه عن إقامة القدّاسات.
زفر ثيودور زفرةً عميقة، وملامحه مضطربة:
“إذن، وإن كان في الأمر وقاحة مني، فسأعتمد عليك.”
“لا عليك.”
ابتسمت الكاهنة ابتسامة طفيفة توهم الطمأنينة، لكن عينيها ظلّتا خاويتين من كل دفء، فلم يُخفّف ذلك من قلق ثيودور. ولما لم يكن أمامه بديل، خطا متثاقلاً مبتعدًا.
—
قاعة الطعام تحت الأرض في الدير، التي غشيها الغبار والكآبة زمنًا طويلًا، أضحت الآن عامرة بألوان الطعام الفاخر.
كانت بحقّ أضخم وأفخر مائدة تقع عين ثيودور عليها مذ قدم إلى هنا. الديك الرومي المشويّ يقطر دسامة، والفواكه الطازجة – لا يدري من أيّ البلاد جيء بها – تتوالى بلا انقطاع على الطاولة.
ظلّ يرمق الأطعمة بذهول لم يستطع إخفاءه، فالتفت إليه الكونت الجالس بجواره متعجبًا:
“لا يبدو الأمر بالسوء الذي تناهى إلى أسماعنا. لقد أقلقني أن تكون صائمًا عن الطعام ههنا، لكن يظهر أن همّي كان في غير محلّه.”
على هذه الكلمات المفعمة بالارتياح، لم يزد ثيودور إلا ابتسامة باهتة، غير أن نظره نحو الرئيس كان حادًّا نافذًا.
‘أولم يقل لي من قبل إن الزاد لا يكاد يكفيهم؟’
ولم يكن ذلك وحده ما أهاج صدره، بل إن رؤيته وهو يثرثر بحماسة إلى جانب الدوق الأكبر جعل الدم يغلي في عروقه.
فالرئيس، أسقف منفيّ إلى لوبويل مذ حُكم عليه بالإجرام، حاله كحال الأميرة. وكان منذ زمنٍ يختبرها هو وثيودور، متلمّسًا أيّ سبيل للعودة إلى العاصمة. غير أنّه في لحظة ما تبدّلت أحواله كليّة.
آنذاك لم يبالِ ثيودور كثيرًا، لكنه الآن أدرك السبب: ما إن أيقن الأسقف أنّ الأميرة قد أُقصيت نهائيًّا عن العاصمة، حتى فقد اهتمامه بها. ومنذ ذاك الحين، انقلبت وجبات الدير من مقبولة إلى مهزلة.
حتى الساعة، لم يربط ثيودور كبير أهمية بهذا التحوّل، إذ كان الجوع أمرًا مألوفًا في لوپويل، وظنّ أن لا مهرب له ولا للأميرة منه.
غير أن الفرق البينّ في المعاملة لمن بيدهم السلطة أذهله إذهالًا. ففي القرية أسفل الدير، كان معظم الناس يقتاتون على الحشائش، بل إن الأميرة نفسها لم تذق طعامًا معتبرًا.
لقد بان له قصد الرئيس أوضح من الشمس: لم يكن يريد سوى الظفر بنظرة من الدوق الأكبر، عساه ينال بها سبيل العودة.
لكن رغم هذا التزلّف الفاضح، لم يمدّ الدوق يده إلى الطعام.
“أدرك أنّ الحال عسيرة. ألا تراك تُجهد نفسك فوق الطاقة؟”
“ليس كذلك، يا صاحب السمو. صحيح أنّ مواردنا ضيقة، لكن جلالته، بكرمه العظيم، أمدّنا بالأرزاق كي لا يجوع القوم ههنا.”
غير أنّ مشهد القرية، الذي رآه ثيودور بأم عينيه قبل أن يرقى المنحدر إلى الدير، كان أصدق من كل قول: فلم يكن ثمّة توزيع عادل.
ومع التناقض الصارخ بين الواقع وكلام الرئيس، لم يُبدِ ديكلان اعتراضًا، بل رفع طرف شفتيه بابتسامة هادئة:
“ذاك إذن خبرٌ سار.”
فما كان من الرئيس إلا أن ازداد حماسةً وتزلّفًا:
“بل أنا آسف أشدّ الأسف إذ لم أستطع إكرام بطل الأمة بما هو أرفع من ذلك.”
عند سماع هذا الصوت المقيت، ابتسم ثيودور بسخرية وهو يقضم فخذ ديك.
“تُبخس نفسك، يا سيادة الأسقف. فهذه الوليمة أزخر ما وقعتُ عليه منذ وطئت قدماي هذا المكان.”
على الأثر تحوّل بصر الأسقف الحادّ إليه، بيد أنّ ثيودور لم يضطرب بل أضاف بنبرة ماكرة:
“إن كان عندكم مثل هذه الأطايب، فَعَلامَ بخلتم بها علينا إلى هذا اليوم؟”
وانحدرت عيناه الجميلتان ببطء كأنهما حقًّا متحسّرتان. فالتفتت إليه أنظار الدوق الأكبر والكونت معًا.
“آه، وعلى ذكر ذلك، هل لي أن آخذ شيئًا من هذا الطعام إلى صاحبة السمو الأميرة؟ فإني أخشى أنّ علّتها المتكرّرة في الآونة الأخيرة إنما مردّها إلى أنّها قضت أيامًا تتغذّى بعصيدة مخلوطة بالرمل. والبدن يضعف لا محالة إذا قَصُر الزاد، أليس كذلك؟”
“مـ… ما هذا؟ هذا محض افتراء، يا سيدي.”
وكلّما ازدادت كلمات ثيودور لذعًا، ازداد لون الأسقف شحوبًا، بينما ظلّ وجه ديكلان جامدًا لا أثر فيه.
“لستَ مضطرًّا لأن تُبرّر لي.”
كان في صوته مسحة ضحكة، لكن وجهه خلا من أي دفء.
“غير أنّ ما قاله السير مونشيس صحيح. فإن كانت الأميرة لا تجد ما يكفيها، فكيف يسوغ لي أن أمدّ يدي إلى هذه المائدة؟”
وما إن ألقى الدوق الأكبر مائدته جانبًا حتى تبعته الأعين كلها، وسرى صقيع في جوّ الوليمة كان من لحظاتٍ قبل عامرًا بالأنس.
“ألا تعلم، أيها الأسقف، أنّ جرم الاستخفاف بالعائلة المالكة جرم عظيم؟ فإن سائر الرهبانيات في الإمبراطورية لا تقوم إلا في ظلّ حكم جلالة الإمبراطور. وأيّ استخفافٍ أعظم من ألّا تؤدَّى المراسم اللائقة للأميرة، ولو أنها غادرت القصر إلى هذا المنفى؟”
بهذا الكلام الخالي من النبرة، انطفأ ما بقي من دم في وجه الأسقف.
“لا تنسَ، أنت عبدٌ مملوك لجلالة الإمبراطور.”
“نـ… نعم، نعم… سأجعلها نصب عيني.”
وخرجت الكلمات من فم الرئيس أقرب إلى أنين، فابتسم ديكلان ابتسامة رقيقة. كان الرئيس لا يزال كالأموات شاحبًا، يحاول جاهدًا أن يرفع زوايا فمه.
ثم رفع ديكلان كأسه شاكرًا على الضيافة باسم الجيش، فعاد الجنود إلى مرحهم وأكلهم.
وما إن لان الجوّ، حتى نهض الدوق الأكبر، ولم يمسّ لقمة:
“أيها الكونت، سأمضي الآن لأتفقد الجنود الجرحى. فحسنٌ أن تبقى أنت لتُتمّ الأمر.”
“حسنًا، يا صاحب السمو.”
ثم انصرفت عيناه إلى ثيودور الجالس بجواره.
“ثيودور.”
ورغم صخب الجوّ، برز صوته الهادئ واضحًا. وحين التفت ثيودور، ناوله الدوق الصحن الذي كان أمامه.
“لستُ أريد أن آكل. فاحمل نصيبي إلى صاحبة السمو.”
أخذ ثيودور الصحن بدهشةٍ، والحيرة تلوح على وجهه. لكن إذ قام الدوق وانصرف دون أن يُبدي أي اهتمام بالطعام، تلاشت شكوكه سريعًا.
ومهما يكن، فقد بدا أنّ وليمة اليوم ستظل ذكرى عذبة، ولو لمجرد منظر الأسقف الكسير الوجه.
—
حين فتحت سيينا عينيها قليلًا من نومها، كان الليل قد أسدل ستاره. ومن سكون الخارج أدركت أنّ الوليمة قد انتهت.
نظرت من النافذة المعتمة، ثم نهضت ببطء. حلقها كان جافًا جدًّا.
ولوپويل بلاد قلّما تمطر، فإذا هطل جمع الدير مياهه في أوعية. نصفها يُخزَّن في المغتسل، ونصفها الآخر يُسخّن للشرب ويُحفظ في قاعة الطعام – هذا كان نظام المكان.
غير أنّ قاعة الطعام نفسها كانت اليوم مقرّ الوليمة، فتردّدت أن تمضي إليها. جلست على حافة السرير تفكر، ثم عزمت: لقد انتصف الليل، ولن يكون الجنود – وقد أرهقتهم الرحلة – يقظين الآن.
قامت بهدوء وفتحت الباب قليلًا، فرأت الممر خاليًا. الكاهنة التي كانت تلازم الخارج بدت أنّها غابت لحين، تتهيأ لقدّاس الغد.
لكن ما إن فتحت الباب على سعته حتى اصطدم قدمها بصوت ارتطام خافت. نظرت فإذا طبق فضّي موضوع عند عتبتها.
كان ممتلئًا طعامًا وافرًا – بلا ريب جلبه ثيودور من الوليمة – يكفي وزيادة لوجبة. حقًّا، لم ترَ سيينا مثل هذه الوفرة منذ أن وطأت قدماها لوپويل.
‘أفهِمت الآن.’
لم يكن خافيًا عليها سبب وجود هذا الطعام عند بابها. فقد تصوّرت بيسر صورة ذلك الشيخ الماكر يتودّد إلى الدوق الأكبر طمعًا في العودة إلى العاصمة.
طالما اشمأزّت من حيله، كيف يقترب منها أو من ثيودور، يسألهم في كل فرصة عن أخبار القصر.
دفعت الطبق إلى الداخل، وخرجت. فما كان لها شهوة للطعام وقد قضت يومها طريحة الفراش، إنما عطش ينهش حلقها.
وكان مبنى الدير من ثلاثة أجنحة: الشرقيّ مأوى الكاهنات، والأوسط يحوي قاعة الطعام وغرف الأدوات الطقسية، والغربيّ مأوى الكهنة.
ساورها قلق أن تصادف أحدًا، فينكشف كذبها بشأن مرضها. لكن يغلب على ظنها أن القساوسة جميعًا في الكنيسة وراء المبنى يؤدون صلوات الليل، ولن يكون أحد قرب قاعة الطعام.
وبهٰذا الاطمئنان، خرجت من غرفتها بخطى أخفّ.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "9"