الفصل الثامن
مع أنّ القانون العسكري يحرِّم المخدِّرات تحريماً قاطعاً، إلّا أنّها كانت تُتسامَح في استخدامها زمن الحروب.
غير أنّ الحال اليوم في أعقاب الحرب مختلف، إذ غدا التعاطي جريمة خطيرة لا يُغضُّ عنها الطرف.
‘ولو كان صاحب السموّ الدوق الأكبر نفسه…’
وما إن دخل الخيمة بقلبٍ يرفض التصديق، حتّى غشيت وجهه صدمة شديدة. لقد بدا المنظر أمام عينيه جحيماً لا يسكنه إلا مدمَن.
فرائحة الأفيون العاتية جعلت رأسه يدور، وزجاجات الخمر الملقاة على الأرض كانت مسدودة بأعقاب السيجار عوضاً عن الأغطية.
وفي تلك الخيمة التي تشبه مكبّ القمامة، لم يبقَ شيئٌ سليم سوى الرجل الواقف أمام المرآة، متأنّقاً في بزّته العسكريّة.
وبالرغم من أنّه دخّن من الأفيون ما حوّل الخيمة إلى هذا الخراب، فقد بدا في مظهره على حاله المعتاد، لا رجفة في يديه وهو يرتّب ثيابه، ولا أثر لذةٍ في عينيه البنفسجيّتين الكليلتين وهما تحدِّقان في المرآة.
ولم يُفضح أمره إلّا بالحُمرة المحيطة بعينيه، شاهدةً أنّه صاحب هذه الفوضى كلّها.
“مولاي، ماذا لو رأى أحدٌ هذا المشهد…؟”
“فإن رآه أحد، فما عليه إلا أن يموت.”
تقطّبت حاجبا الكونت مونشيز أكثر لهذا البرود وكأنّ الأمر لا يعنيه. فآثر أن يكتم محاضرةً طويلة وأن يطلق تنهيدةً من أعماق قلبه. عندها قبض الدوق الأكبر حاجبيه قليلاً.
“سوف تُسقط الأرض من ثقل أنينك.”
“لك الشكر حقّاً لو كففت عن إجباري على التنهد من فرط ما أرى.”
فارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتين وسيمتين.
“وما الذي جاء بك؟”
“أتيت أرفع تقريراً. لقد جمعنا معظم الجثث الممكن انتشالها، ونستطيع الرحيل في أبعد تقدير مع مطلع الأسبوع القادم.”
“أحسنت.”
كان صوته خالياً من كلّ نغمة، رتيباً إلى أقصى غاية، فيما أخذت أصابعه الطويلة تغلق آخر أزرار بزته.
“سجّلوا بدقّة من لم نتمكّن من استرجاعهم، وأخبِروا ذويهم.”
“نعم. وعلى أيّ طريقٍ سنعود؟”
“ألم تسمع من غايوس؟”
أمال الدوق رأسه ناحيته.
“بحسب الكشّافة، لم تسلم مدينةٌ في هذه الناحية. إمّا أن نعبر جبال سلتك… أو…”
توقف قليلاً وزفر كأنّه يلفظ كُربةً عالقة.
“علينا أن نسلك لوبوِيل.”
كان في صوته شيء من الكراهية، غير أنّ الكونت، وهو يجهل ما في صدره، ظنّ أنّ امتعاضه سببه ما هو معروف عن لوبوِيل من سوء بيئةٍ ورداءة حال.
وما كان ذلك ببعيد عن الصواب؛ فكلّ من سمع بما يجري هناك يأنف أن يقصده.
تسرّبت الشرور في تلك الأرض النائية القاحلة، كأنّها نتيجة حتميّة لحشر البشر في موضعٍ لا يصلح لسكناهم.
ومع ذلك، فإنّ هذا القبح نفسه قد حمى الأرض من ويلات الحرب، إذ لم يطمع فيها أحد، فنجت وحدها من آثارها.
هزّ الكونت رأسه كمن تفهّم.
“مع أنّها بيئة رديئة، إلا أنّها أحسن الخيارات. لا نستطيع أن نعبر جبالاً وعرة ونحن مثقلون بالجرحى.”
لكنّ محاوره ظلّ صامتاً، فقال الكونت زيادةً في التوضيح:
“بل قد يكون ذلك خيراً، فحيثما وُجد دير، فلا بد من وجود راهبٍ أو اثنين يحسنون التمريض والعلاج…”
“سنعلم إن كان خيراً حين نصل.”
صوته كان بارداً، حتى إنّ الكونت رمقه بوجهٍ متسائل. أمّا الدوق الأكبر، فقد ظلّ بلا تعبير، وهو يعبث بأزرار كمّه قائلاً:
“تلك الأرض لا تصلح للإقامة. ما إن يُتمّ الجرحى علاجهم سنغادر إلى العاصمة مباشرةً، فاجعل ذلك في حسبانك.”
“…نعم.”
وكان في جوابه المقتضب مسحة قلق.
‘لِمَ يتكلم كأنّه زارها من قبل؟’
لقد نشأ ريو مونشيس إلى جانب هذا الرجل منذ أن كان سيّداً فتيّاً في بيت الدوق، قبل أن يُلقّب ببطل الإمبراطوريّة.
حتّى في تلك الأيام السوداء التي فقد فيها أبويه بين عشية وضحاها، وصار يتيماً يجوب ميادين القتال، كان الكونت معه.
غير أنّ ذاكرته تقول: لم تطأ قدماه لوبوِيل قط.
ولئن أساء هو التذكّر، فما كان لينسى موضعاً اشتهر بذلك السوء.
وحتّى بعد مغادرته الخيمة، ظلّ شعور غامض يعصف في قلبه.
‘هل أخطأتُ السمع؟’
ولعلّها أعصاب مرهقة من طول النظر إلى الجثث المشوّهة ليلاً ونهاراً. فمهما اعتاد المرء، يظلّ الأمر يستنزف روحه.
فصرف الكونت ذلك الشعور على أنّه وسواس الإرهاق، ولم يُعِره بالاً.
كانت اليد تعبث بالزرّ في كمّه بلا وعي. والرجل أمام المرآة يحدّق في صورته بنظرةٍ متجمّدة كالثلج، لا ينوي إحكام إغلاقه.
لقد أفاق بعد دوّي البنادق، فإذا هو على هذه الحال.
عاد شعره الأبيض إلى لونه الأوّل، وانمحت من وجهه الخطوط القاسية.
مسّ موضع صدغه حيث أطلق الرصاصة ذات يوم، فلم يجد أثراً.
عاد حيّاً بعدما تهيّأ له أنّه مات… يا لسخرية القدر.
فكّر: ‘كنتُ أتمنّى أن ينتهي أمري هناك.’
لكن بـصوت”قَطّ” انقطع الزرّ. هنالك فقط التفت إلى كمّه، وإذا بوجهه الخالي من كلّ شعور يتلوّى شيئاً فشيئاً.
“تبّاً…”
لم يكن يتمنّى هذا. لقد رحّب بإخلاصٍ بأن يُسدل الستار على حياته. فالعالم بغيض، ومنذ ماتت الطفلة، صار التنفّس عذاباً.
غير أنّ العالم سخر منه جهاراً.
تنفّس ديكلان تنهيدةً عميقة وأسقط يده عن كمّه.
كلّ شيء عاد إلى البدء. عاد وحده، وقد انقطعت عنه الروابط المشؤومة التي تعلّق بها.
‘لعلّه الأفضل.’
حتى وإن كان تكراراً لزمنٍ عبثيّ في حقّه، فإنّه في حقّها هو الخير. لقد ندمت زوجته أبداً على زواجها منه.
قبض ديكلان على الزرّ المقطوع حتى كاد يسحقه.
لوبوِيل، حيث يقيم الممرّضون، لا بد أن يلتقي بها هناك. لكن ما من خيارٍ آخر.
راح يتساءل: كيف تراها في هذا الزمان؟ مهما حاول أن يستحضر صورتها، لا يرى إلا جسداً واهناً مسجّى على فراش. في ذاكرته، كانت دوماً تبكي.
بعد استئصال رحمها، ابتُليت سيينا بآلامٍ لا تُطاق. لا تنام إلا بمسكّن، ولا تقدر أن تخطو في بستان القصر.
حتى الشمس كانت سُمّاً لها، فلا تخرج من تحت الغطاء ولو في قلب الصيف.
[لقد جعلتني هكذا.]
وكان ديكلان، كلّما بكت أمامه بهذا القول، لا يجد ردّاً. لأنّها حقيقة لا تُدحَض.
كان الطفل ميّتاً عند مولده. ولو عاش، لكان وريثاً له.
لقد اختار أن يُضحّي بالولد لينقذها، ولم يندم. لكن حين رأى حياتها جحيماً بعد ذلك، ضاع كلّ تبرير.
كان موت النساء في الولادة مألوفاً، لكنّهن يلقَين رحمة الناس. أمّا سيينا فقد وُصِمت بقاتلة طفلها، وظلّ الناس يدوسون اسمها حتى بعد موته.
فلو أنّه أبقى على الطفل، لكان لها موت مشرَّف، ولظلّت ذكرى نبيلة بوصفها زوجة الدوق وأمّ وريثه، لا امرأةً قاسية القلب.
وجاء نداء من خارج الخيمة بأنّ الاستعداد للرحيل إلى لوبوِيل قد تمّ.
رفع ديكلان بصره عن المرآة، فعاد إليه الهدوء تدريجياً.
“…لكن لا داعي لذلك الآن.”
همس لنفسه.
في لوبوِيل، لن ينجو من لقائها. لكن يمكنه أن يوقف الأمر عند مجرّد مصادفة عابرة.
وما دام كلّ شيء قد عاد إلى البداية، فقد عرف ما يجب أن يفعل.
على خلاف الحركة النادرة التي عمّت الدير بقدوم الجيش، وجد ثيودور مونشيس نفسه منذ الصباح في مأزق.
فبمجيء الجيش الذي حقّق نصراً عظيماً إلى حيث تقيم الأميرة الإمبراطوريّة، كان من مقتضى الأدب أن تخرج بنفسها لاستقبالهم.
ذلك أنّ أعظم واجب على الأسرة المالكة أن تشكر من جلبوا العزّ للإمبراطوريّة باسم الشعب.
وإن تكن سيينا قد نُفيت إلى هذه الأطراف، فهي بعدُ ابنة لبيت مالوني الإمبراطوري، أمّا الطرف الآخر فهو الدوق الأكبر مونفراتو، مَهيب الإمبراطوريّة والمحبوب من رعيّتها.
فلو شاع أنّ الأميرة ازدرته بغير موجب، لهبطت سمعتها الضعيفة أصلاً إلى حضيضٍ لم يُسبق له مثيل.
ومع ذلك، فقد اتخذت الأميرة الأعذار بالمرض منذ الصباح، وأغلقت بابها دون أن تأذن لأحد بالدخول.
بل إنّ الكونت أحضر راهباً خبيراً بفنون العلاج احتياطاً، فإذا بالراهب يقف معه الآن حائراً أمام الباب.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "8"