الفصل السابع
كانت شخصية ثيودور الودودة هي أعظم قوّاه، غير أنّها في هذه اللحظة لم تكن سوى صداعٍ مؤلم.
“لا نية لي أن أعود إلى العاصمة بمعونة الدوق الأكبر.”
“عفواً…؟”
“كما قلتُ تماماً. لا أريد أن أرجع مثقلة بدَين كهذا.”
ظلّ ثيو متحيّراً، عيناه الواسعتان ترمشان بذهول.
“ثم إنّ ذلك لن يكون صواباً بحقّ الدوق الأكبر أيضاً.”
تمتمت سيينا كأنّها تخاطب نفسها. والحقّ أنّه في الماضي جلب على نفسه حذر الإمبراطور الزائد حين جاء بها إلى العاصمة، فقولها لم يكن باطلاً. لذا، فقد عَزمت هذه المرّة أن تتفادى لقياه في لوبويل إن استطاعت. ورغم أنّها لا تستطيع أن تمنع الجيش من القدوم، فإنّ بوسعها على الأقل أن تتحاشى مواجهته وجهاً لوجه.
وبينما كانت غارقة في تفكيرها بوجهٍ متجهّم، أضافت متأخّرة وقد بدا على محيّاها أثر إدراك:
“آه، بالطبع، لا بأس أن تعود وحدك.”
“أتريدين منّي، أنا حارس سموّك، أن أرجع بلا سيّدتي؟”
ضحك ثيو ضحكةً يائسة غير مصدّق.
ومع ذلك، بقيت سيينا على صلابتها:
“وما الضرر؟ كما قلتَ أنت، ذاك الرجل جوزيف يلبّي كلّ ما يطلبه الدوق الأكبر، فلا بدّ أن يأذن لك بالعودة وحدك.”
“مولاتي… أرجوكِ، احترسي في كلامك. ماذا لو سمعك أحد؟”
همس ثيو بقلقٍ وهو يرمق الخارج بنظرة حذرة، لكنّها لم تُعره اهتماماً.
فليسمع من شاء. لقد ذاقت الموت ثم عادت للحياة، فما الذي يُخيفها بعد؟
إذ نُفيت إلى هذا المكان البعيد لمجرّد أنّها بصقت في وجه أحدهم، فما قيمة تهمة تجديف لمجرّد ذكر اسم؟ لم تعد تعني لها شيئاً.
وفوق ذلك، كان الإمبراطور يبعث بانتظامٍ أفراداً من حرسه الخاص ليُسلّموا الرسائل إلى ثيو. ورغم أنّه لم يُظهر ذلك، فإنّ مضمون تلك الرسائل كان جليّاً.
فإلى جانب كونه فارساً بارعاً، فإنّ ثيودور مونشيس كان ابناً محبوباً للكونت مونشيس. وبما أنّ الكونت خادمٌ مخلص للدوق الأكبر، فقد بدا من الواضح أنّ بقاء ثيو في هذا المنفى لم يُعجب الإمبراطور.
وكانت هناك أيضاً النيّة الصريحة في عزلها عزلاً كاملاً.
وأيّاً كان الأمر، فقد بدت مراسلات جوزيف السرّية مع ثيو في نظرها شديدة الريبة.
ورغم أنّ ثيو كان يُجيبها بانصياع، فإنّ القلق لم يبرح وجهه. فلقد صار في الآونة الأخيرة يحسّ بمسافةٍ خفيّة تفصل بينه وبين الأميرة. في البدء ظنّه محضَ خيال، لكنّه شيئاً فشيئاً تحوّل إلى شكّ.
إذ كان قد لازمها منذ أن كان صبياً متمرّناً، فهو أعرف الناس بها. حتى أنّه كان يعلم كم كانت تتلهّف للعودة إلى العاصمة بعد أن جاءت إلى هنا.
‘كنتُ أظنّ أنّها ستتوسّل أن تُعاد إلى العاصمة حالاً.’
لكنّ الأميرة بدت في الآونة الأخيرة مختلفة عن ذي قبل.
—
لم يستغرق الأمر طويلاً للوصول إلى لوبويل من الحدود. فالمسافة لم تكن بعيدة عن الشمال، غير أنّ الطقس كان العائق غير المتوقَّع.
فقد أرهقت الجنود حرارة أوائل الصيف الخانقة سريعاً. ولم يكن في الطريق أيّ موضع صالح للراحة. وكان طبيعياً ألّا تُرى شجرة واحدة تُلقي ظلاً، فالأرض هنا لا تُنبت الأشجار حقّاً.
“هناك بئر، أفلا نستريح قليلاً؟” سأل غايوس الرجل المتقدّم الركب.
فالتفتت عينان بنفسجيّتان باردتان نحو البئر.
“الأغلب أنّه بئر جافّ. فلا نهر قريب ولا نبع سطحيّ، فأنّى له ماء؟ واليابس من الأرض دليل أنّ المطر لم يهطل منذ زمن.”
“لكن وجود البئر يدلّ على أنّ قرية ليست بعيدة. فبدلاً من أن نقضي وقتنا تحت لهيب الشمس، قد يكون الأجدر أن نسرع إلى الدير.”
وحين ذُكر الدير، قبض ديكلان على لجام جواده بغير وعي.
لقد أعدّ نفسه من قبل، ولكن تماسكه أخذ يضعف كلّما انبسطت أمامه المشاهد المألوفة.
‘شهر واحد يكفي.’
شهرٌ كافٍ ليلقى الجرحى علاجاً ويبرؤوا بعض الشيء.
صحيح أنّه لن يستطيع تفادي لقائها في الدير الضيّق، لكنّه على الأقلّ لن ينغمس معها أكثر ممّا يضطر.
وبعد مسيرة أخرى…
“انظروا! لقد بدا الدير!”
صرخ أحدهم، فاضطربت الصفوف خلفه فجأة.
وفي وسط الجلبة التفت ديكلان أيضاً.
كان الدير قائماً على صخرةٍ شاهقة، وقد بُني من حجارة ضخمة مملوءة بالرمل. وكان ضخم البنيان، يُرى من بعيد.
وفي أواخر النهار، تحت أشعة المغيب، بدا المشهد فاتناً.
إذ كان في الحقيقة حصناً حجريّاً عاديّاً، لكنّ الضوء المتلاشي جعله كأنّه قلعة من غبار الذهب.
“ليس بالسوء الذي تخيّلت.”
“ذلك من بعيد. ولكن إن تهاونتَ، ابتلعك المكان.”
ضحك بعض الجنود. وربّما لأنّهم أحسّوا بالراحة لقربهم من محطة الاستراحة، فقد ارتسمت الحياة شيئاً فشيئاً على وجوههم المرهقة.
وبينما ساد جوّ من الخفّة، كان ديكلان في المقدّمة جامد الملامح، يحدّق في الدير بصمت.
غير أنّ ما انكشف لهم عن قرب كان فظيعاً.
فالجثث متناثرة على الطريق، ولا يُفرّق بينها وبين من لا يزال حيّاً. وبعضهم يتهادى إليهم متوسّلاً متعلّقاً بالجنود.
بُهِت الجنود أمام المشهد. ولم يُسمع سوى أصوات الغثيان الجافّ من رائحة العفن، لكن لم يجرؤ أحد أن يفتح فاه بكلمة حتى بلغوا باب الدير.
وللوصول إلى الدير في أعلى الجرف، كان عليهم سلوك طريق الغابة الممتدّ من القرية.
وأولئك الذين ظلّوا يسيرون مع الجيش يتسوّلون الطعام حتى حافة الغابة، تخلّفوا واحداً بعد الآخر مع بداية الطريق الوعر.
فهم لم يكونوا سوى جلود على عظام، فكيف لهم أن يتسلّقوا جبلاً شديد الانحدار؟
وحين وصلوا إلى القمّة، خرج رئيس الدير ومعه بعض الكهنة لاستقبالهم بأنفسهم.
“مولاي الدوق الأكبر… لقد أعيتنا الكلمات عن شكر زيارتكم بنفسكم لديرنا.”
تقدّم رجل في أواسط العمر، يتوسّط رأسه صلع، وعلى وجهه ابتسامة ودود.
ومن حُمرة ردائه الكهنوتيّ عُرف أنّه رئيس هذا الموضع.
فأكثر من وُجد في لوبويل منفيّون بجرائمهم، أو من أُرسلوا كرهاً بأمر الإمبراطور لحقارتهم. والكهنة المقيمون في الدير لم يكونوا استثناءً.
إذ هو مكان اجتمع فيه من شذّ عن العقيدة أو وُلد وضيعاً. فلا عجب أن تُشدّ الأنظار إلى الرجل الملقّب “بـبطل الأمّة” حين قدم إلى مثل هذا الموضع.
“لقد عانيتم من ويلات الطريق. أعددنا طعاماً بسيطاً لجنودكم.”
قال الرئيس بلطف. ثم نظر إلى الدوق وأضاف:
“هو دون ما يُقدّم في العاصمة طبعاً. غير أنّنا نعيش هنا أبداً بانتظار يوم نعود فيه إلى جوار مولانا الإمبراطور.”
ولمّا حمل كلامه إشارة خفيّة لرغبته في الرجوع إلى العاصمة، تغيّر وجه الكونت ، غير أنّ الدوق ابتسم على غير توقّع.
“يبدو أنّك غير راضٍ كثيراً عن عيشك هنا، أيّها الأب.”
“بالتأكيد، فلا دير أبهى من أن يكون المرء في جوار جلالته الإمبراطور.”
أجاب الرئيس بابتسامة متزلّفة وهو ينحني.
ابتسم الدوق، ثم تمتم مع نفسه:
“لعلّك على حق.”
واستخرج من ذاكرته صورةً بعيدة… صورة امرأةٍ كانت غريبة في بؤس لوبويل.
لم تكن حالها أحسن من سواها.
فإن كان في حياتها مرّة أبدت فيها مذلّة، هي التي لا نظير لكبريائها، فقد كانت تلك المرّة وحدها.
[لن ينقذني سواك، مولاي…]
كان صوتها البائس، المستغيث بآخر قشّة للنجاة، لا يزال يرنّ في أذنه.
لقد كانت كحيوان صغير يتوسّل الحياة عند الزاوية الأخيرة.
ارتسمت على وجه ديكلان ابتسامة ساخرة.
واستعاد ذكريات علاقة ابتدأت وانتهت بالشقاء، عائدةً به إلى تلك اللحظة حين فتح عينيه ثانيةً عند الحدود الشمالية منذ عهد قريب.
—
انتهت الحرب التي دامت ثلاث سنين بما عُدّ إنجازاً.
لقد توسّعت أراضي الإمبراطوريّة، ونالوا ميناءً في الشمال، فكانت حرباً راجحة الغنائم.
على الأقلّ في نظر إمبراطورها الجديد، الذي لم يظفر بنتيجة تُذكر منذ تولّيه العرش.
أما أولئك الذين خاضوا الحرب وقادوها إلى الظفر، فلم يروا فيها سوى واحدة من حروب كثيرة.
وما أحسّوه لم يكن سوى:«نجونا هذه المرّة أيضاً.»
ذلك كلّ ما في الأمر.
وفيما العاصمة تعدّ العُدّة لاستقبال الجيش استقبال الفاتحين، كانت الفرق المرابطة على الحدود منشغلة بتنظيف آثار الحرب.
ولم يكن الكونت ريو مونشيس، أحد ضبّاط الأركان، استثناءً.
وبعد أن فرغ من مهمّة جمع الجثث، وقد استغرقت شهراً، مضى إلى الخيمة ليقدّم تقريره.
لكن خطواته توقّفت فجأة أمامها.
فقد بلغه أنفُه رائحة مألوفة على نحوٍ غريب.
‘أفيون؟’
قطّب جبينه بغير شعور.
—
أحااا لا يكون الأخ ادمن الأفيون؟!
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "7"