6
أجاب تيودور بنبرةٍ تكاد تفيض بالشفقة:
“لا بد أنّك سمعتِ أمسِ أنّ الدوق الأكبر قد تقدّم إلى سيروجان، ولا شك أنّك أُخبِرتِ بأن جلالة الملك قد أمر جميع كنائس الإمبراطورية أن ترفع الدعاء بالنصر في هذه الحرب…”
“أهو حيّ؟”
فجأةً رفعت الأميرة رأسها. وعيناها الزرقاوان، اللتان كانتا ترتجفان باضطراب، تموّجتا الآن بعاطفةٍ يعجز اللسان عن وصفها، فأجفل تيودور وتصلّبت كتفاه على غير إرادة.
ولمّا لم يأتِ الجواب سريعًا، انقضّت على الرجل، وهو أطول منها وأضخم، فأمسكت بتلابيبه.
“أجبني! أهو حيّ؟!”
كان صوتها حادًّا حتى ليكاد يمزّق الأذن. ارتعشت نظرة تيودور نحو يديها الضعيفتين القابضتين على طوقه، ثم أطلق ضحكةً فيها شيء من السخرية:
“أوه، كفاكِ.”
“نعم، نعم. حيٌّ هو، بلا ريب. أفتدرين من يكون؟ إنه بطل الإمبراطورية العظيم، أليس كذلك؟ إنّه بخير، لا ريب. الإمبراطورية بأسرها تضجّ لأن الجيش الذي يقوده قد بلغ أخيرًا حدود سيروجان.”
كان يتكلم بنبرةٍ تنمّ عن الضيق. فمنذ أن كان فتىً متدرّبًا وهو إلى جانب الأميرة، حتى غدا أعرف الناس بطباعها ونزواتها.
ولم يكن ثمّة أحدٌ غيره يستطيع احتمالها، ولا أحدٌ سواه لم يمقتها.
ولقد أدرك أنّه قد تفوّه بكلمةٍ فيها قلة أدب، وأنّ سيدته لم تكن ممّن يغضّون الطرف عن التجرؤ.
كان على يقينٍ أنّ الأميرة إمّا ستلطمه على وجهه في الحين، أو أنّ تلك المرآة القائمة في زاوية الحجرة ستتحطم كليًّا.
غير أنّ سِيينا لم تُبدِ ردّ فعلٍ زمانًا طويلاً. لم تثُر كما كانت تفعل من قبل، ولم ترفع يدها لتعاقبه على جُرأته كعادتها، بل أرخَت يدها ووجهها خاوٍ من كل تعبير.
“إنّه حيّ…”
عند هذا الهمس الشارد، رمقها تيودور بنظرةٍ حائرة.
“سموكِ…؟”
وإذا بوجه الأميرة ينقبض على هيئةٍ غريبة.
حاولت أن تتقبّل هذا الوضع العجيب بعقلٍ راجح، غير أنّ شيئًا لم يكن معقولًا في ما هي فيه.
المشهد المألوف للحجرة. جسدها، كأن العظم واللحم قد نبتا فيه من جديد. وأنفاس اثنين، بل ثلاثة ممّن كان ينبغي لهم أن يكونوا في عداد الأموات.
كلّ شيء كان يدل على حقيقةٍ واحدة: أنّ أمرًا محالاً قد وقع لها.
وآنذاك فقط تذكّرت ما قاله تيودور: لقد صرّح بأن الجيش الذي يقوده الدوق الأكبر قد تقدّم إلى سيروجان.
وكان ذاك النصر العظيم في معركة سيروجان آخر حروب زوجها قبل أن يتخلّى عن ألقابه كلها بزواجه منها.
فذلك يعني…
‘أتراني حقًّا قد عدتُ إلى الماضي؟’
ارتجفت يداها وهي تمسكان بطرف ثوبها. وأسئلةٌ كـ ‘لماذا؟’ و’كيف؟’ تلاطمت في رأسها.
غمرتها رغبةٌ جامحة في أن تمسك بأحدٍ وتصرخ.
ما كانت قد تمنّت مثل هذا المعجز يومًا. لم تشأ سوى أن تمضي إلى حيث ابنتها… أن تعود إلى أحضان من أحبّت…
نظر تيودور إلى الأميرة بقلقٍ، إذ شحب لونها حتى غدا مائلًا إلى الزرقة.
“سموكِ، أأنتِ بخير؟”
التفتت عينان زرقاوان مجمّدتان بالخوف إليه، ثم راحتا تمسحانه ببطءٍ من رأسه إلى قدميه.
شعرٌ كستنائيّ لين وعينان زيتونيتان، وجسدٌ ضخم على نحوٍ غير مألوف، ونظرةٌ فيها استخفاف لا يليق بخادم لا ريب أنّه تيودور مونشِس بعينه.
وبدل أن تجيب، مدّت يدها على عجلٍ تمسّ تفاحة حلقه. فارتجف تيودور قليلًا، لكنه لم يقاوم. وكان خفقان قلبه الدافئ يصل إلى راحتها بوضوح.
‘هذا ليس حُلُمًا.’
فارسها الوقح، وحيدها الذي كان في صفّها دائمًا، تيودور مونشِس حيّ يُرزق بين يديها. كان ذلك برهانًا قاطعًا على ما يجري.
وآنذاك فقط قبلت سِيينا بما حدث: لم تمت، بل عادت إلى زمنٍ غابر.
وانسلّت ضحكةٌ خاوية من بين شفتيها. يا لشدّة ما كابدت حتى لحظة موتها… والآن عليها أن تحيا كل ذلك من جديد؟
سحبت يدها من عنق تيودور وقالت:
“…لا سببَ يدعوني إلى ذلك.”
ردّت بهدوء، وهي تكتم في داخلها زوبعة الغضب والذهول.
نعم، لعلّه لا سبب يدعو إلى التشاؤم. فلعلّها فرصة لتغيير المصير.
فإن كانت قد عادت حقًّا إلى الماضي، فما سيكون من أمرها بعد اليوم فهو بيدها.
ذاك الزواج الذي كان جحيمًا، وموت ذاك الرجل… كل شيء قابل للتبديل.
لكن…
‘تلك الطفلة لن تكون إلا ذكرى في رأسي وحدي.’
غامت ملامحها بالحزن.
حتى ذاك الأب الذي أحبّ الطفلة حبًّا جمًّا سينساها. سبع سنين من العشق الأعمى التي غمر بها تلك الصغيرة قد تلاشت. والآن لم يبقَ من يذكر حياة سولييت القصيرة إلا هي.
ضحكةُ الطفلة التي تبعثرت في الريح دوت في أذنها كطَيفٍ خافت. فقبضت على يدها حتى انغرست أظفارها في لحمها.
‘لعلّه خيرٌ كذلك. فخيرٌ للطفل ألّا يوجد من أن يولد لأمٍّ مثلي ويذوق الشقاء من جديد.’
ستحمل الطفل في قلبها وحدها، وسيكون في ذلك وفاءٌ لرغبة ذاك الرجل الأخيرة. فحياتهما، وقد أفسدها الزواج، ستنحو الآن سُبلها الصحيحة.
عاهدت سِيينا نفسها: إن كانت هذه فرصةً أُعطيت لها، فلن تعيش كالحمقاء التي كانتها.
لن تطمح إلى منصبِ دوقةٍ عظمى لم تستحقّه. لن تحلم بالانتقام ممّن أهانها. ولن تبغض الرجل الذي لم يحبّها.
لن تُعيد أخطاء الماضي أبدًا.
—
“ثمّة بشرى سارّة.”
كانت قد تناولت أوّل لقمةٍ من عصيدة القمح التي وزّعها الكهنة للفطور.
ومع أنّها خبرتها من قبل، فإن سوءَ الحال فاجأها ثانيةً. حدّقت سِيينا في العصيدة الممزوجة بالرمل بامتعاضٍ، ثم تنفّست بعمقٍ وألقت الملعقة.
“أترانا نظفر بطعامٍ كريمٍ على العشاء؟”
“بل قد يأتي ما هو أطيب من ذلك.”
كان ثيو في مزاجٍ أفضل من عادته. فالتفتت إليه سِيينا ببرود، تراقب مظهره النادر المفعم بالنشاط.
“الجيش العائد من الحدود سيمرّ من هنا.”
لكنّ ذلك لم يكن خبرًا يبعث على كل هذا الزهو، فردّت بفتور:
“وأيّ شأنٍ لنا بذلك؟”
“بل شأنٌ عظيم. فالجوّ خارجًا كأنهم يوشكون على إقامة وليمة استقبال.”
وما إن سمعت لفظ ‘وليمة’ حتى ضحكت سِيينا ضحكةً يابسة:
“وليمة، تقول؟ لعلّهم سيقدّمون هذا الحساء الرملي للجنود الذين بذلوا أرواحهم لأجل الإمبراطورية.”
“أستبعد ذلك. ووجه الرئيس يتحسّن يومًا بعد يوم، ولا ريب أنّ لهم مؤونةً خفيّة يخبّئونها.”
كان كلاهما على يقينٍ بأنّ رئيس الدير يخفي طعامًا جانبًا.
وقد شهدا أناسًا يموتون جوعًا، فكان تغيّره يومًا بعد يوم دليلًا واضحًا على امتلاكه ما لا يملكه غيره.
“وعلى أيّ حال، فمرور الجيش من هنا قد يكون نافعًا لنا أيضًا، يا مولاتي.”
“لا شكّ أنّك تفرح بلقاء أخيك الأكبر بعد طول غياب.”
في حياتها الماضية، كان شقيق تيودور، الكونت مونشِس، يبغضها.
جزءٌ من السبب أنّه كان يأسى على الدوق الأكبر الذي وهب قوّته ثم اعتزل القصور بسببها. وجزءٌ آخر أنّها لوّثت شرف الدوق مرارًا بعد أن ضحّى بكل شيء لأجلها.
ثم إن تيودور، بعد زواجها، لمّا عاد إلى فرسان الإمبراطورية ومات في الحرب، لم يُخفِ الكونت سخطه.
فلم يكن عسيرًا على سِيينا أن تفهم سبب نظرته السوداء نحوها، رغم أنّها لم تكن تُكنّ له مودة.
فلو لم تكن هي، لما تحمّل الدوق ذلًّا لا ضرورة له، ولما مات ثيو ميتةً باطلة.
وإذ رأى تيودور لا مبالاتها حكّ خدّه بحرج، ثم قال بعزم:
“ليس أخي وحده، بل الدوق الأكبر نفسه سيجيء إلى هنا. أليس هذا أعظم الأنباء؟”
لكن سِيينا لم تُبدِ حراكًا تجاه قوله، فتابع يشرح بتوسّع:
“إنّه في هذه القارّة وحده الذي لا يستطيع الإمبراطور ذاته أن يستخفّ به. وقد وسّع حدود الشمال في هذه الحرب، فحين يعود إلى العاصمة سيزداد مقامه مهابة.”
“ونحن نكاد نموت جوعًا، أترى ذلك مهمًّا الآن؟”
ورغم حدّة ردّها، رفع تيودور كتفيه بلا اكتراث:
“ولذلك فهو خبرٌ جيّد لنا، أليس كذلك؟ فالإمبراطور لن يردّ للدوق الأكبر طلبًا، وهذه المرّة لعلنا…”
“ثيو.”
رمقته سِيينا بنظرةٍ جادّة.
“أقولها لك من الآن، لا تُقْدِم على فعلٍ أحمق. أعلم أنّك وأخاك قريبان من الدوق، ولكن لا نيّة لي أن أختلط به.”
“أختلاط؟ بل إن تجاهل الدوق لمقامكِ هو المخالف للفروسيّة.”
“أيًّا يكن…”
وإذ كان من العبث أن تذكّره أنّه ليس بفارسٍ أصلًا، زفرت سِيينا زفرةً عميقة وأنهت الحديث.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"