5
لم تكن المسافة بعيدة جدًّا، غير أنّها لم تكن هيّنة بالنسبة لي، وقد كنتُ حبيسة الفراش.
واستغرق الأمر أيّامًا ولياليَ عدّة حتى بدا لي مشهد مونفيراتو المألوف، والأشجار من نوع الميتاسيكوا تصطف على جانبي الطريق.
كنتُ قد زرتُ مقبرة أسرة الدوق مرّة واحدة، غير بعيد عن زمن زواجي به. وكانت حينها على ما هي عليه الآن.
التماثيل كانت منصوبة هنا وهناك، وفي المكان منحوتات كثيرة تحاكي مشاهد من الحكايات القديمة.
غير أنّ هذا المقام، بما فيه من رهبة، ألقى على تلك التحف الفنية الجميلة جوًّا من الوحشة والغرابة.
وعند مدخل المقبرة لوح رخامي قد نُقش عليه دعاء نقشًا دقيقًا محكمًا.
[اللهم الرحمة.]
تلوت الدعاء همسًا، فإذا بخاطرة تخطر في قلبي فجأة:
‘يقولون إنّ من يختار الانتحار قد يهوي في الجحيم، فهل يا ترى بلغ به المطاف هنالك؟’
‘وأنا نفسي قد تلطّخت نفسيّتي حتى ما عدتُ أهلاً للحديث.’
مسترجعةً هذه الحقيقة، شرعتُ في طلب قبر الطفل. أخذتُ أخطو بخطًى بطىئة وأنظر حواليّ.
كنتُ أفتّش بعينيّ الدائبتين عن موضع متميّز، لكنّ الأمر لم يكن هيّنًا، فشواهد القبور لأفراد أسرة الدوق تتشابه جميعًا.
وقد قال إنّه دفن الطفلة في الموضع الأكثر إشراقًا بالشمس، غير أنّ إيجاد مكان مشمس في مقبرة كئيبة أمر عسير.
‘الشمس توشك أن تغرب.’
والشواهد متشابهة في الشكل، أخشى إن أظلم الجو أن أضلّ طريقي.
وإذ بالشمس تميل نحو المغيب، لمحتُ عند طرف بصري شجرة برتقال.
توقّفتُ لا إراديًّا عند رؤية هذا المشهد الغريب، فقد بدا انتصاب تلك الشجرة النضرة في مقبرة موحشة أمرًا شاذًّا.
رغم أنّ جذورها مغروسة في أرض الموتى، كانت الشجرة مفعمة بالحياة. أغصانها الصلبة وأوراقها الكثيفة تشهد أنّ الشمس تسطع عليها بسخاء.
وما إن شعرتُ بهذه المفارقة حتى تذكّرتُ على نحو باهت أنّ البرتقال كان الفاكهة التي لا تقاومها الطفلة.
وكأنّما سحورت، دنوتُ من الشجرة. ولم ألحظ من بعيد أنّ قربها شاهدًا من الرخام قد نُصب حديثًا.
شهقتُ نفسًا عميقًا.
على الرخام الأبيض نُقش اسم الطفلة وعمرها القصير، وقد حُفّت الكتابات بأدعية الرحمة بعد موتها.
فاضت بي مشاعر لا توصف، وجثوتُ أمام القبر ببطء.
“سولييت.”
مسحتُ الحجر البارد كما لو كنتُ ألمس الطفلة ذاتها، لكن ما بين يديّ لم يكن سوى صخرة جامدة. فاضت دموعي إذ لامست يدي تلك الصلابة والبرودة.
لا يزال شعور دفء الطفل بين ذراعيّ حيًّا في وجداني، لكنّي لن أذوقه أبدًا.
وإن مضت الأعوام، ستظلّ سولييت في مخيّلتي طفلة في السابعة من عمرها، صغيرة الجسد، لم تبلغ خصري طولًا، تثرثر بمرحٍ بكلمات غير مفهومة. تلك الصورة ستبقى في ذاكرتي حتى آخر العمر، ثابتة لا تتبدّل.
والموت الذي كنتُ بالكاد قد تقبّلته عاد فأحاطني كالموجة العاتية، فانهرتُ أمامه بلا حيلة.
“عالمٌ يخلو منك لا معنى له.”
لكن…
رفعتُ وجهي المبلّل بالدمع، فإذا بالقبر المجاور بسيطٌ إذا قورن بقبر الطفل الذي بدا أنّه حظي بعناية خاصّة، لكنّه رغم بساطته كان ذا مهابة، كصاحبه في حياته.
لم تكن لديّ الجرأة أن أحدّق في قبره مباشرة، ولا كنتُ أملك الحقّ أن أنطق اسمه وأشتاق إليه.
لقد كنّا دائمًا مشغولين بالإعراض عن بعضنا، فها نحن نلتقي وجهًا لوجه بعد الموت.
في ذلك اليوم، الذي كان ليكون آخر أيّامه بغيري، ارتدّت إليّ كالسّهام الكلمات التي قذفته بها غضبًا.
لكنّ أشدّ ما ينهش قلبي هي كلماته الأخيرة لي:
[إن كان ثمّة حياة أخرى، فليت طرقنا لا تلتقي.]
انسابت دموعي على وجنتَيّ، حيث لا تزال آثارها واضحة، وتمتمتُ باعتذار متأخّر:
“…آسفة.”
لأنّي جعلتك هكذا. لأنّي أفسدتُ حتى موتك.
لكن، أقسم أنّ هذا ليس استهانة بك.
لقد بلغتُ أقصى حدودي. بل تجاوزتها منذ رحيلك.
وأنا شاردة الفكر أمام القبرين حتى المغيب، أخرجتُ قارورة الدواء التي أحضرتها.
والشمس تهوي نحو الأفق، ولونها القاني يلوّن العشب الأزرق بأشعّته. قبضتُ القارورة بيديّ قبضًا وثيقًا وأنا أتأمّل المشهد للمرّة الأخيرة.
ظننتُ أنّي لن أراه ثانية.
وكان الغروب هذا اليوم أشدّ حُمرة، يكاد يشبه الدم. وكأنّه يبتلع جسدي كلّه، فرفعتُ القارورة من غير تردّد، وأفرغتُها في فمي.
قالوا إنّ البالغ الصحيح البدن إن تجاوز حدًّا معيّنًا من هذا السُمّ هلك في الحال. وما صببتُه في فمي كان ضعف هذا الحدّ.
فكنت إذًا ميتة لا محالة.
عضَضتُ التوت بفمي، فانسابت عصارة مُرّة كادت تجعلني أتقيّأ، وسالت في حلقي كالنار المحرقة، وكأنّ المريء يتمزّق.
سال الدم من بين شفتيّ، واشتدّ الألم حتى كاد يخنقني.
لكن الألم سرعان ما تبدّل إلى نشوة غريبة، فبين شهقات وسعال ضحكتُ.
فحين ينقضي هذا العذاب، ينقضي كل شيء.
وإذ بدأ وعيي يخبو، خطر لي فجأة: بمَ فكّر هو في آخر أنفاسه؟
أكان يمقتني حين لفظ النفس الأخير؟ أكان يندم أنّه أمسك بيدي في لوبويل؟
والحقل قد احمرّ بلون المغيب أمام بصري، فأطبقتُ أجفاني رويدًا.
لو أنّ بدايتنا كانت غير ما كانت، هل كان ختامنا سيغدو غير هذا؟
الآن لن أعلم الجواب أبدًا.
—
عاد النفس الذي انقطع. وسعلت سيينا سعالًا شديدًا، كمن أُنتشل قبل الاختناق بلحظة. وبينما كانت تلتقط أنفاسها، راحت عيناها الزرقاوان تجولان حائرتين.
“كُح…!”
ولمّا تتابع السعال مرّات عدّة، استطاعت أن تلتقط أنفاسها، وكان كل نفس يخرج كأنّ حديدًا يخُدّ حلقها.
تشبّثت سيينا بحلقها وهي بالكاد تتنفّس، ثم طافت بعينيها في المكان. فإذا بها غرفة صغيرة بالية.
وكان صرير الفئران فوقها ينخر أعصابها، وعلى مقربة منها مرآة مشروخة تكاد تتحطّم، في مشهد بدا لها مألوفًا على نحو غريب.
وكانت المرآة العتيقة تعكس صورتها مُجزّأة في قطع زجاجها المكسور. لكنّ تلك الصورة، وإن تشظّت، كانت واضحة: شعر وافر البشرة بلون الزيتون حيّ.
رفرفت جفون سيينا ببطء. تلك صورتها حقًّا، لكنّها لم تكن كذلك.
فبعد أن فقدت طفلها الثاني، كان وجه سيينا موسومًا بالمرض، يخلو من الدماء والحياة.
وقد أجمع الأطباء البارعون أنّها لن تستعيد عافيتها يومًا، وهي أعلم الناس بذلك.
غير أنّها في المرآة بدت صحيّة، غضّة كالثمر في أوان الصيف. وتحوّل وجهها من التحديق الخاوي إلى انقباض الدهشة.
“…هذا محال.”
“أأفقتِ؟”
ارتجفت كتفا سيينا للنداء، فالتفتت خلفها، والتقت عيناها الزيتونيّتان بنظرة مألوفة، فانفرجت شفتاها ببطء.
شَعرٌ ذهبيّ مائل إلى البنيّ، وبشرة مسفوعة بقدر. وابتسامة كالضحى على شاطئ صيفي. كان ذاك وجهًا ألفته طويلًا، ووجهًا كانت تظن أنّها لن تراه أبدًا في الحياة.
وانفلت الاسم الذي طال نسيانه من بين أسنانها:
“ثيودور…”
ابتسم الرجل ابتسامة ضعيفة، غير أنّ وجه سيينا شحب كأنّها رأت شبحًا.
“ما… ما الذي يحدث؟ لم أنا…”
“ماذا تعنين ما الذي يحدث؟”
“لقد متُّ يقينًا، فكيف أنا هنا؟ ثم أنت…”
ولم تستطع سيينا أن تُتمّ قولها.
ثيودور مونشيس.
الشقيق الوحيد للكونت مونشيس الحالي، كان في الأصل فارسًا في فرسان الإمبراطورية، وكان فارسها الخاصّ منذ كانت في العاصمة.
لكنّه قُتل منذ أعوام.
وكان ذلك أقلّ من عام بعد أن عادت سيينا إلى العاصمة.
وهي تذكر صوت الكونت مونشيس، وهو يبكي على غير عادته، يقول إنّه لم يُسترجع من الجسد إلا النصف الأعلى، إذ أنّ الأسفل قد تناثر بانفجارٍ في الحرب.
فكان المشهد أمامها لا يُصدّق. أن تكون هي حيّة بعد جرعة ضعف الجرعة القاتلة من السُمّ، وأن ترى هذا الرجل أمامها بكل بساطة…
وأخذت سيينا تجول بعينيها مضطربة:
“أهذا ما بعد الموت؟”
فانقبض وجه الرجل، وحدّق فيها كأنّه سمع هذيانًا، ثم تمتم مُتنفّسًا:
“لا غرو إن اختلطت الأحلام بالواقع وقد لزمتِ غرفتك طَوال اليوم.”
فعقدت سيينا حاجبيها أشدّ عقد، لكن ثيودور، كما عرفته، لم يكن ممّن يأبه لذلك.
“ها أنتِ تنعمين بحياةٍ هادئة، والبلاد قد أكلتها الحرب منذ سنين.”
قالها ثيودور ساخرًا وهو يضع فطورها على المنضدة قرب سريرها بوجه لا حراك فيه. غير أنّ سيينا لم تُلقِ نظرة عليه.
“حرب؟ أيّ حرب؟”
“أما زلتِ نائمة؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"