بهذا المعنى، كان جليّاً سبب إعلانه وصيّته على الملأ. فلو وقعت خفيةً بين يدي الإمبراطور أولاً، لذهب الرهان الذي بذل حياته في سبيله سُدى.
وبالنظر إلى دناءة طبع أخي الحقيرة، فذلك وحده سبب كافٍ.
تردّد جوزيف إلى ما قبل جنازة زوجي بقليل، ثم أطلق سراحي يومها فقط. ولم يكن ذلك عفواً كاملاً، بل كان مشروطاً بنفيي خارج العاصمة فور انقضاء جنازة الدوق الأكبر.
وكان عليّ أن أكون ممتنّة حتى لذلك، إذ لم يُسمح لي بحضور جنازة طفلتي.
وحين صدر الأمر بإطلاقي، نُقلت إلى دار الدوق الأكبر تحت حراسة الجنود. وقد أوصى الإمبراطور بمراقبتي مراقبة دقيقة إلى أن تُجرى مراسم الجنازة على أكمل وجه، فكانوا يتبعونني كظلي.
وكانت دار الدوق الأكبر في فوضى بسبب موته المفاجئ. وبرغم انشغال الجميع بالتحضيرات، فقد كان الجوّ قاتماً. ولعلّ ذلك ما جعل أنظار الخدم الموجّهة إليّ أشدّ حدّة من ذي قبل.
‘لابد أنهم يظنّون أنّ السبب منّي.’
فمع أنّ زوجي قد أنهى حياته بيده، إلا أنّني أنا من دفعتُه إلى ذلك المصير، فلا مناص من تحمّلي وزر موته.
‘ بل وأكثر، إذ مات ميتة غير مشرّفة وهو يتحمّل عنّي تبعات جرائري.’
وبالطبع، لم يكن ثمّة شك أنّني قد خرّبت حياته تخريباً تاماً.
فأبقيتُ نظري منخفضاً ومضيتُ حيث ساقني الجنود.
ولم يكن الزمان الممنوح طويلاً. فإذا بزغ الفجر ابتدأت الجنازة. وحين كان الإمبراطور يداول في أمري، كانت الاستعدادات قد اكتملت كلها، ولم يبقَ إلا المراجعة الأخيرة من قِبَل أهل الفقيد.
وإذ لم يكن له قريبٌ سواي، كان لا بد أن تمرّ جميع الإجراءات بعرضي. وتلك عادة لا مفر منها.
وقد فرغ الطبيب من فحص الجثمان، واستُكملت الإجراءات لنقل مقتنياته إلى العرش وفق وصيّته. وكان المكلّف بهذا العمل هو الكونت مونشيس، أوثق خلصاء زوجي في حياته.
وبعد أن بيّن الطبيب ــ الذي جاء باكراً وظلّ منتظراً ــ سبب وفاة زوجي وانصرف، تقدّم إليّ الكونت مونشيس، وكان واقفاً إلى الجدار، ثم ناولني ظرفاً أبيض وأنا غارقة في ذهولي.
وقال: “هذا ما خلّفه سموّه.”
فارتدّ بصري إلى الظرف ارتداد الصاعقة، واشتدّ خفقان قلبي.
‘ أترى يكون كتاباً بعث به إليّ؟’
فبادرت بفتحه ونشرت ما فيه.
لكن لم يكن فيه كتاب، بل صكّ واحد. وقد طُبعت عليه جملة عظيمة من المال، بيد أنّها لم تكن ما رجوته.
فلعلّ الكونت ـ وقد أساء فهم وجهي المتحطّم بؤساً ـ تكلّم بلهجة متصلّبة:
“آخر ما أوصاني به سموّه أن أبيع خاتمه لجواهرجيّ. وإذ قد تبرّع بجميع ممتلكات داره للأسرة الإمبراطورية، فقد أراد فيما أحسب أن يُعدّ شيئاً من المال لسموّك.”
وبينما كان يلفظ كلماته بدا كأنّه يلفظها بأسى وحرج، وأظلّت وجهه كآبة عميقة، غير أنها ما لبثت أن زالت.
ثم قال بخشونة: “ونظراً للعجلة في التصريف، لم نظفر بكامل قيمته، لكنه كافٍ لتعيشي وحدك بغير عناء.”
ثم نزع يده كأنّه قد أتمّ ما لزمه أداؤه، بغير ذرة من تعاطف.
فقد كان على الدوام مبغضاً لي.
وهو الذي اجتهد في إقناع زوجي بالعدول عن الزواج إلى ما قبل المراسم، بل قالها لي صراحة: إنّ الارتباط بامرأة يراها الإمبراطور شوكة في خاصرته لن تكون عاقبته بخير.
ولم أكن أحبه بدوري، غير أنّي كنت أعلم ـ أكثر من أي أحد ـ مقدار وفائه الخالص لزوجي.
ثم قال، بخلاف ما عهده من رباطة جأش:
“لقد كان الجميع يتوقّع أن تنتهي الحال هكذا يوماً ما. أليس كان معلوماً أن ختام علاقتكما لن يكون بخير؟”
“……”
“لقد كان سموّه أرفع قدراً من أن يُقرن بمثلكِ.”
وبعد تلك الكلمات الأخيرة، ولّى الكونت ظهره لي. أما أنا فبقيت واقفة أحدّق في الظرف طويلاً بغير وعي.
وأنا أيضاً كنت أعلم أنّه كان أرفع من أن يقترن بي.
لكن، وما جدوى ذلك الآن؟
—
أُقيمت جنازة الدوق الأكبر بعظمة تكاد تضاهي جنازة الإمبراطور الراحل. فتوافد الناس في ثياب السواد إلى الكنيسة لتكريمه. ولم يقتصر الأمر على كبار النبلاء، بل اجتمع العامّة أيضاً أمام الكنيسة حيث أقيمت المراسم ليحزنوا عليه.
وأرسل كاتدرائية العاصمة خصيصاً رئيس أساقفة ليرفع الصلوات لراحة نفسه، وأمر الإمبراطور الفرقة الموسيقية الإمبراطورية أن تعزف ترتيلة الموتى.
فكان ذلك تكريماً يليق برجل جلب إلى الإمبراطورية مجداً لم يُسبق إليه. وعلى الرغم من أن خاتمته لم تكن مشرّفة، فقد كان بطلاً على الدوام.
“… لقد جلب لنا الدوق الأكبر النصر في حروب لا تُحصى… ولم يكن بطلاً للإمبراطورية وحسب، بل كان أباً رائعاً أيضاً…”
وبسبب سعة الكنيسة، دوّى خطاب رئيس الأساقفة في أرجائها. وبرغم أنه كان لا يعدو رواية سيرته، فقد أذرف كثير من الناس دموعهم. وكان على وجوه الجميع سيماء الحزن.
وأما أنا، فكنت بينهم كضيفة غير مرحّب بها. على الرغم من جلوسي أقرب الناس إلى التابوت، فقد كنت جسداً غريباً بينهم.
كان شعري الأسود مبعثراً أشعث، ووجهي، الذي لم يُغسل منذ أيام، في حال يُرثى لها.
وبحسب أعراف الإمبراطورية، ينبغي لأرملةٍ فقدت زوجها أن تلبس السواد وأن تغطّي رأسها بغطاء أسود، غير أنني كنت خارجة لتوي من السجن قبل أن أكون أرملة.
وحيث اجتمع جميع من أحبّوا الدوق الأكبر ليذرفوا الدموع، بقيت أرملته وحيدة لا تجد في أحدهم عزاءً. بل كانوا يكشفون أحياناً عن بغضهم واحتقارهم لي علانية.
– ‘لو لم تكن تلك المرأة، لما مات الدوق الأكبر.’
– ‘صه! قد تسمع.’
– ‘وماذا في ذلك؟ الطفلة كوالدتها… ألا ترونها لا تذرف دمعة واحدة؟ إنّها تبعث القشعريرة.’
– ‘على الأقل لم تحاول الإمبراطورة قتل ابنتها بيدها.’
وقد انسابت هذه الهمسات القريبة إلى مسامعي بغير حائل، لكن لم يبقَ لي قوّة لأُبدي ردّ فعل. كل ما فعلته أن أحدّق في وجه الرجل الراقد في التابوت بنظرات فارغة.
وبرغم أنه قضى بانتحار بالرصاص، كان جسده نظيفاً. قالوا إن براعته في إصابة الهدف جعلت الرصاصة تنفذ في رأسه دون إحداث فوضى.
فالانتحار بالسلاح عادةً ما يُخلّف منظراً مروّعاً، لكن الطبيب قال إنني كنت محظوظة. ولم أعلم أأعتبره حظّاً، أم مأساة أخرى.
لكن، حقّاً… لم يكن الرجل في التابوت يبدو ميتاً.
كان يُخيّل إليّ أنه سيفتح عينيه متى خاطبته. فمددت يدي المرتجفة أُلامس وجهه الراقد في سلام.
وكان برد ملامحه قارصاً، حتى ليبدو أن الحرارة التي مستني قبل أيام محض كذبة…
“ديكلان.”
همست باسمه، لكنه لم يجب. فناديت ثانية بصوت أعلى قليلاً:
“يا حبيبي.”
فقال رئيس الأساقفة بحدّة وقد ضاق ذرعاً: “اصمتي.”
وانكمشت عضلات وجهي كأنها ستنفجر بالبكاء، ثم انقلبت إلى ضحك. ثم بكيت ثانية، ثم ضحكت كما المجانين. حتى قُطع خطاب رئيس الأساقفة بسبب ضحكي المتزايد.
فحدّجتني ماريان، التي جلست غير بعيدة ممثّلةً عن الإمبراطور، بنظرات مملوءة قرفاً، وأشارت إلى الجنود الواقفين بالكنيسة.
فأقبلوا عليّ في بزّاتهم السوداء، ورفعوني قسراً وجرّوني خارج قاعة الجنازة.
وكان قبضهم عليّ قبضةً كأنهم يقبضون على أراذل. ومع ذلك لم يشفق أحد عليّ. ولم تكن أنظار الناس وهم يرونني أُسحب مقيدة الأذرع إلا أنظار احتقار.
– ‘بعد أن تسبّبت في موت الدوق الأكبر، ها هي الآن تفقد عقلها في راحة.’
ولم يكونوا بحاجة إلى التفوّه بها، فقد كان كل وجه يقول ذلك. فأطبقت أسناني وأنا أُسحب بغير حول.
‘لم أقتل ديكلان.’
لكن ما إن حاولت هذا التأكيد لنفسي، حتى انبثق سؤال في صدري:
‘أحقّاً لم أقتله؟’
‘لولا وجودي، لما مات. وما قاله الكونت مونشيس لم يكن باطلاً.’
فبدأ الذنب الذي طالما تهرّبت منه يلتهمني من جديد. وانحنى عنقي، الذي كان مشدوداً مرفوعاً، إلى الأسفل.
نعم… في النهاية، إنما هو بسببي أنا.
وانفلت من بين شفتي صوت ملتبس بين البكاء والضحك. وعند سماع ذلك الصوت، أشبه بأصوات البهائم، رمقني الناس بنظرات كأني امرأة مجنونة. احتقار واشمئزاز. تلك هي النظرات التي لازمتني طول حياتي.
ولئن كان كل من اجتمع هنا قد فقد الشخص نفسه، وكان شعورهم مشتركاً، فإن شعوري أنا كان لي وحدي. ولم يتعاطف معي أحد.
وسحبني الجنود إلى خارج الكنيسة، ثم طرحوني بلا مبالاة في الطريق. فهويت على وجهي فوق حجارة الرصيف الصلبة. وحين حاولت تلقّي الصدمة بكفّي، انتاب معصمي ألم شديد، لعلّه من شدّة الضغط.
وقبل أن أصرخ، سمعت فوق رأسي صوت جندي غليظ:
“إن جلالة الإمبراطور يأمرك ألا تطئي عتبة العاصمة ثانية. وقد قال إنه لن يكون هنالك عفو ثانٍ.”
“……”
“وقد عرف جميع الجنود الحارسون أبواب العاصمة وجهك، فإن خالفت أمر جلالته، قُطع رأسك في الحال. أفهمتِ؟”
ولم أجب.
ولم يبدُ أنهم ينتظرون مني جواباً، إذ ولّوا بظهورهم ودخلوا الكنيسة فعادت المراسم. وسرعان ما عاد صوت رئيس الأساقفة يدوّي من جديد.
وأصغيت إليه شاردةً قبل أن أنهض مترنّحة. فما عاد لي سبب للبقاء في العاصمة.
وما كان مني إلا أن غادرت العاصمة على الفور، وسرت جنوباً. إذ كان مدفن أسرة الدوق الأكبر في مونفيراتو، تلك الأرض التابعة للدوقية والمتصلة مباشرة بجنوب العاصمة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات