“خيرٌ لك ألا تحاولي حماقةً تُذهب بوقارك. و احمدي ربّك أنك تُساقين إلى موتٍ كريم يليقُ بأبناء الملوك.”
زمجر بغيظٍ وتفل نحوي، فهبط اللعاب اللزج غير بعيدٍ عن موطئ قدمي. وإذ قد اعتدتُ مثل هذا الصنيع، لم يُبدُ وجهي أثراً للانزعاج.
أكانوا يظنونني في هذه الساعة أجدّ في الهرب؟ إن كان الأمر كذلك، فذلك وَهمٌ لا حاجة له.
لقد كانوا ضعف حجمي، وأنا أهون من عهدي، إذ لم يذق فمي طعامًا صحيحًا منذ أُودعت السجن. ولو شاءوا أن يبطشوا بي بأيديهم، لما وجدتُ قوّةً أذود بها عن نفسي.
فلم أرَ من الحكمة أن أُثير القلاقل، فحطّ بصري أرضًا وصبرتُ ريثما تدقّ ساعة الظهر.
وكان موضع الإعدام ساحة العاصمة الكبرى، حيث يلتئم الناس من كل حدب، من الأشراف الذين لم يروني يومًا إلا بعين الاحتقار، إلى باعة الأسواق الذين صوّروني في أحاديثهم شياطين مجسّدة.
‘ما أبهى هذا المشهد سيكون.’
تبسّمتُ تبسّم الأسى. من ابنة خائنة إلى قاتلة تصعد إلى المشانق.
وعند التأمّل، لعل حياتي لم تكن لتؤول إلا إلى هذا.
أولى خطاياي أني وُلدتُ من امرأة صارت إمبراطورة بدحر الضُرّة الأولى. وأخرى أني تزوّجتُ رجلاً أسمى من قدري وأصررتُ على إبقائه قربي.
كنتُ شوكةً في عين الإمبراطور، يتلمّس الفرص كي يقتلعني. وجاء موت ابنتي صيدًا ثمينًا لا يُفوّت. كان الموقف آنذاك بعيدًا كل البعد عن الأمل.
أما التوتة التي ازدردتها سوليهت قبيل موتها فكانت دواءً ممنوعاً في الإمبراطورية، وإن استخدمه في السرّ بعض الأثرياء لشدّة نفعه في جلب النوم. وكنتُ أنا من بين هؤلاء.
فمنذ وضعي الأخير، أصابني من العِلَل ما لا يُداوى، وقد نزعت رحمًا متأذيًا بعد ولادة عسيرة، فصار الليل جحيمًا ووجعي في البطن يمزّقني.
ولم يكن البلاء في الجسد وحده؛ ذاك الوليد الذي لم يُطلق صرخة، وكلمة الطبيب أن لا ولد بعده لي، كانت تنهش عقلي ببطء.
أدويتي المسكّنة لم تُجدِ، فاحتجتُ إلى ما هو أمضى، وهناك وجدته.
اعتدتُ أخذه؛ لا يبعث العجائب، لكنه يحجب عني سهر الليالي.
بيد أنه سُمّ محرّم، وأهل قصر الدوق لم يكن لهم وُدّ لي، فما كان ليُحمد لو وقف عليه أحد.
لذا خبّأته في صندوق يضم تذكارات أمي، بعيدًا عن أيدي الخدم. ولكن يبدو أن طفلتي، حين كانت تلعب وحدها، وجدته.
وكعادة السموم القاتلة، كان التوت جميل الشكل، مما ربما أثار فضول الصغيرة.
وأنا أوّل من رأها، والتوت مبعثر على سريري، وطفلتي مستلقية كالنائمة في وسطه.
‘وأيّ أمّ تُبقي عقلها بعد هذا؟’
في تلك اللحظة لم أكن أميرةً ولا دوقة؛ كنت أمًّا تفقد فلذة كبدها.
كتبتُ إلى جوزيف، أستحلفه أن يُرسل الطبيب الإمبراطوري، وهو ما لم أصنعه يومًا. لكن الطبيب لم يبلغ الدار حتى فارقت صغيري الحياة.
ومنذ ذلك اليوم لم أعُد صاحبة عقل، وقبل أن أفيق، كان الإمبراطور، جوزيف، يُشهِر إصبعه نحوي:
“إننا نلقي القبض على الأميرة سيينا بجُرم قتل وليدها. ولشناعة الجريمة تُحبس ويُقطع عنها كل صلة بالخارج.”
وكان الدليل أن التوت سُمّي، وأنا صاحبة اليد عليه، وأنني أعاني وهن الأعصاب والكآبة، وأن علاقتي بوالد الطفلة كانت في الحضيض.
وما أن أُلصق بي الاتهام حتى هبّ الأشراف المتنفّذون يدفعونني إلى الزاوية، وكأنما كانوا يترقبون تلك الساعة.
وانهمرت سهامهم كأن ولاءهم يُقاس بمدى أذاهم لي.
كان المشهد مسرحًا متقن الإخراج: البطل إمبراطور يتجاوز المحنة ويرث العرش، وأنا شرٌّ يهدده.
وكان نصّهم مقبولاً للسامعين؛ فقد صُوّرتُ امرأةً حمقاء، تتشبّث بزوجها مرضًا، وتبغضه حتى قتلت ابنتها.
ولما كان حديث الناس قد سبق عن انهيار علاقتي بالدوق، صدّقوا رواية الإمبراطور بلا عناء.
“لعل الموت خيرٌ لي.”
هكذا همستُ لنفسي.
لقد أعياني الطريق؛ مطاردة ظلّ رجل لا يُحبني، والنجاة بين قوم يتمنّون موتي.
وفي عالمي الذي ضاق بي حتى التنفس، لم يكن لي من نعيم سوى سولييت. فما جدوى الدنيا من دونها؟
تحلّقتُ في زاوية الزنزانة الضيّقة، أنتظر قرع الجرس من القلعة. فإذا جاء الوقت، نلتُ حريتي.
لكن حين دقّ جرس الظهر، لم يحضر الجند. حسبتُها مهلة يسيرة، غير أن غيابهم إلى أن غاب قرص الشمس خلف الجبال أشعرني أن الأمر غير مألوف.
طالما تمنّى أخي أن يشنقني، وهذه لحظته الكبرى.
لقد بذل جوزيف نفسه في الإعداد لليوم، وأمس رأيتُ بعيني بروفات المشنقة وأنا في القفص الحديدي.
جنود مدرّعون بخُوذ الحرب يسيرون صفوفًا، ومن خلفهم نَفَخَة بوقٍ أو ثلاث.
كان الحشد مبالغًا فيه لقتل نفس واحدة؛ أقرب إلى موكبٍ من أن يكون إعدامًا.
لكن الآن، وقد حان ذروة المشهد، كان الصمت سيّد المكان.
ولم أكن وحدي التي ارتابت؛ فالحارس أمام القضبان بدا قلقًا، يجول بعينيه.
فإذا بحارسٍ آخر يقتحم، وجهه شاحب كالقماش، يهتف:
“لقد وقع خطب ما، الفوضى تعمّ الخارج!”
فانقضّ عليه الحارس الحانق:
“ألم يُؤمر بمجيئك عند الظهر؟ وما بال الجنود؟ أين هم؟ وما بالك وحدك؟”
قال الآخر بصوت متهدّج:
“ليس هذا وقت العتاب، العاصمة انقلبت رأسًا على عقب!”
فتجمّد وجه الحارس، وقال:
“العاصمة؟ ما الذي جرى؟”
أجابه اللاهث:
“ألم تطالع الصحيفة اليوم؟ وصيّة الدوق الأكبر تصدّرت الصفحات!”
رفعتُ رأسي عند هذه الكلمات. فلم يكن في الإمبراطورية من يملك هذا اللقب إلا ذاك الرجل الذي حضر نصف يوم مضى يثير غيظي ثم غادر.
لكن وصيّة؟! عقدتُ حاجبيّ، أعدّ ما قيل هُراء.
“ألم يكن الدوق هنا بالأمس؟”
قال:
“سمعتُ عن هرجٍ في قصره فجر اليوم، طلقات نار دوّت حتى أيقظت الحرس في الطرقات.”
وعند ذكر الطلقات، شعرتُ بوجهي يتجمّد.
قال:
“لقد شهد جمعٌ رفع الجثمان، والوصية بخط يده تصدّرت الصحف، والناس تضجّ!”
أطرقتُ بجفنيّ، لم تدخل كلماته عقلي.
“…من الميت؟”
وحين أدرك الحرس وجودي، كمموا أفواههم نادمين.
—
وكانت الوصية موجزة واضحة:
بيّنت أن المال الذي ابتاع السم جاء من مال الدوق، وأن الحادثة وقعت في داره، فهو المسؤول.
وأقرّ أنه أذنب ذنبًا لا يُمحى حتى بالموت، فسلّم ثروة الدوقيّة كلّها للدولة، ملتمسًا العفو عن الأميرة، وموضحًا أنها فقدت صوابها بعد موت صغيرها.
أي أنّ زوجي افتدى اسمي ودمي بحياته ولقبه.
وإنْ كان الجميع يعلم أن ذلك محضُ عبث، إلا أن الوصية المنشورة كانت اعترافًا صريحًا، وقد مضى الرجل إلى حتفه، فجعلت الإمبراطور في موقف حرج؛ أراد موتي، فإذا به يخسر بطل الأمة.
ولو شاء الإمبراطور أن يتجاهل الوصية وينهي حياتي، لكان يسيرًا، لكن الثمن باهظ.
ومهما كرِهني الناس، أليس الدوق الأكبر عندهم سيد الرجالات وأشرفهم؟
ومهما بلغت سطوة العرش، فلا حكمة في مسّ من افتداه أشرف رجل في القارة بروحه.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات