2
أكثر من فرح الآخرين بوفاتي، كان وقع كلمات هذا الرجل العابرة على قلبي أثقل من كل شيء. ومع ذلك ظل وجهه ساكنًا لا أثر فيه للانفعال.
“إنّه لمؤسف أن آل الأمر إلى هذا المصير في النهاية.”
“…”
“وإذ أذكُر كم كنت تُكثرين الإلحاح رجاء العودة إلى العاصمة، فما لي إلا أن أعتذر عن قصور عوني لك.”
ثم ازدراني الرجل بابتسامة خالية من البِشر. لم يكن حديثنا هذا يختلف كثيرًا عن جدالاتنا المعتادة.
لكن، أليس من المفترض أن تُنفَّذ بي العقوبة غدًا؟ لقد كنّا يومًا زوجين، نتقاسم الحياة والجسد، فإذا بهذه الكلمات القاسية هي آخر ما يُلقيه إليّ قبيل موتي.
كنتُ أعلم منذ زمن أنّه لم يكن يرحّب بي، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ قسوة المعاملة لا تجرحني. حتى أرذل رجال السوق ما كانوا ليقسون هكذا على امرأة حملت لهم طفلاً.
اشتعل حلقي بمرارة لا توصف.
“…أتراني أُحبّ الموت؟”
فاضت العواطف المكبوتة تحت ستار الاستسلام فجأة.
‘أحقًا تراني بغيضة إلى هذا الحد؟ أن تزدريني حتى في لحظاتي الأخيرة؟ ما أردتُ قط هذا المصير…’
“ما كان علي أن ألقاك قط.”
تفلتت الكلمات من لساني ثم أسندتُ إليها خلاصة أمري.
أجل، إن تأملتُ الأمر، فهذا هو أصل كل بلاء.
لو لم أتبعه إلى العاصمة لنسيَني الإمبراطور إلى الأبد. لم يكن ليبالي أكنت حيّة أم جائعة حتى الموت في تلك الأرض الموحشة.
“لما اضطررتُ إذًا أن أفقد طفتلي أمام عيني.”
“…”
“ولو متُّ جوعًا هناك، لكنتُ متُّ بكرامة، لا هكذا.”
كنت أعلم أنّ قولي هذا عبثٌ لا سند له. فأنا التي تعلّقتُ بردائه في تلك الأرض القاحلة حيث لا يكاد المرء يحيا.
لكنّ الموت على هذه الصورة بدى لي جائرًا أيّما جور.
حياتي كانت فوضى من أولها إلى آخرها. كلما نظرتُ إلى الوراء، بدا لي أنّي كنت أختار أسوأ الطرق بين ما أتيح لي. أو لعلّ الخيارات نفسها ما كانت صالحة أصلًا.
وكلما رددتُ الأمر إلى جذوره، وجدتُه يقف عند هذا الرجل الواقف أمامي.
“ما كان لي أن أتبعك. إنّي لآسفة غاية الأسف.”
ولأوّل مرة ظهر شرخ في وجهه الهادئ.
“وما نفع الأسف الآن؟ ابنتنا قد سبقتنا إلى الموت، وأنتِ على وشك أن تفقدي حياتك بيد الإمبراطور.”
لم يكن في صوته أي شعور، إنما قالها كمن يورد حقيقة.
“لا تغضبي. هذا الزواج الذي ضاق به صدرك سينتهي قريبًا.”
تكلّم ساخرًا وهو ينحني ببطء. وإذا بالمسافة بيننا تتلاشى، حتى صرتُ أرى صورتي تنعكس في عينيه البنفسجيتين.
كان نظره باردًا كعادته، لكن كان ثمّة شعور آخر يضطرب في الأعماق، غير مألوف.
وربما لأني قضيت عمري أقرأ وجوه الناس، فقد كنتُ سريعة التبيّن لمن يُبغضني. ولهذا سهل عليّ أن ألتقط الشوائب الممزوجة بالاحتقار والكراهية.
فمثلًا، كانت ماريان تمقتني لكنها تحسدني أيضًا. أما داليا فكانت تخافني وفي الوقت نفسه ترحمني. لكن مشاعره هو كانت أعمق وأعقد؛ غضب، نعم، وفيه شيء من الضغينة.
وقبل أن أستوضح حقيقة شعوره، التوى وجهه بأسى مفاجئ.
“أنتِ ما أحببتِني قط.”
كان صوته يحمل لوْمًا خفيًا، فقهقهتُ ضاحكةً بسخرية مرّة.
“أوليس الأمر سواءً بيننا؟”
“…”
“أأنا مخطئة؟ أعلم أنّك لم ترفض طلاقي إلا لأجل طفلتنا. ألا تصارحني الآن؟ فلن نلتقي ثانية.”
حين كانت طفلتنا حيّة، أيّ أبٍ رائع كان!
منذ ولادتها، رغم استئجاره المرضعة، تكفّل بمعظم أمرها بنفسه. إلا إذا اضطرّ إلى مغادرة البيت، كان لا يفارقها، حاضنًا لها الليل والنهار.
كان يقرأ لها الحكايات وإن كانت لا تفهم الكلمات بعد، فإذا بدت عليها أمارات النعاس، غنّى لها التهويدات حتى تنام.
وبينما ينطق الأطفال عادة بـ “ماما” أولًا، كانت كلمة سوليت الأولى “بابا”. وكان ذلك طبيعيًّا، فقد قضت جلّ وقتها بين ذراعيه.
لهذا كان بَيّنًا لي لِمَ لم يستطع أن ينبذني. فالحقيقة المؤسفة أني كنت المرأة التي حملت الوليد الذي أحبّه أكثر من حياته. ولو أنكرني لأنكرها معي، وذلك ما لم يكن ليقبله.
كان رجلًا يولي عناية حتى لثوب الطفلة الذي تلبسه. مهما كرهني، ما كان ليؤذي مكانة ابنته.
لم ينبس ببنت شفة جوابًا على ردّي البارد. غير أنّه مدّ يده من بين القضبان بصمت. حاولتُ غريزيًا أن أتجنّب لمسته، فلم يأبه.
“حبيبتي الحمقاء.”
كفّه الخشنة احتوت وجنتي كلّها. وكان وقع اللمس حيًّا حتى إنّي لم أستوعب ما همس به.
خلافًا لوجهه الخالي من العاطفة، كان لمسه على خدي حنونًا، فتجمّدتُ كغلام صغير. وأدركتُ متأخرة أنّه مضى زمن طويل منذ أن مسّ أحدنا الآخر.
وبينما أحدّق فيه بدهشة، إذا بشفتيه تنفرجان عن ابتسامة خفيفة.
“إن كان ثمّة حياة أخرى، فليت طرقنا لا تلتقي أبدًا.”
“…”
“خطأ واحد يكفينا.”
انسكب صوته الرقيق إليّ ببطء، يخترق قلبي كالسكين.
كان اللمس دافئًا، غير أنّ الكلمات كانت كالزمهرير.
وفهمتُ بوضوح أنّ الخطأ الذي يقصده هو إدخالي إلى حياته.
وقد كنت أعلم هذا جيّدًا، لكن سماعه منه مباشرة أفرغ الدم من عروقي.
حبستُ دموعي المتفجرة بالكاد، وحدّقتُ فيه شزرًا.
“…إنّي لأمقتك.”
كان صوتي المرتجف بائسًا، خاليًا من كل شفقة. ورغم محاولتي حبسها، انسابت الدموع على وجنتي.
“إنّي أمقتك. مللتُ هذا كلّه!”
صرختُ كما يصرخ المرء قبيل أنفاسه الأخيرة. ومع ذلك، في أعماقي، تمنيّتُ لو أنّه لا يهجرني. وإن لم يكن حبًّا، فحسب أن أكون إلى جانبه.
طالما هزئ بي قائلاً إنّي أريد لقبه، لكن ذلك لم يكن صدقًا. ما كنتُ أطلب إلا هو نفسه.
لكن كبريائي العاند ما سمح لي أن أصدع بالحق حتى في هذه الساعة.
ما عدتُ أميرة، والطفلة التي جمعتنا قد ماتت. فما بقي سبب لبقائه معي. وأعلم ذلك أكثر من أيّ أحد.
كنت أخشى رفضه أشدّ من أي شيء في العالم. وإن لم يحببني زوجي، فقد كان الوحيد الذي قبلني، فكان بذلك كلّ حياتي.
فكان مجرّد تصوّر هجره لي بائسًا. لكن ما دام الهجر حاصلًا لا محالة، أردتُ أن أترك فيه ندبة.
علّه يومًا، بعد موتي، وإن نسي كل شيء، يتذكّرني إذا لمح أثري.
أعلم أنّها مشاعر وضيعة. ومع ذلك أردتُه أن لا ينساني ولا ينسى طفلتنا ما عاش، وإن كان ذلك في ثوب البغض.
“أتدري؟ إنّي أجنّ ندمًا على كل عام قضيتُه زوجةً لك. لولاك ما كانت حياتي خرابًا!”
صرختُ بيأس، فانحنت شفتاه بسخرية، ولم يجب. بل نهض في تؤدة، ووضع يده اليمنى على صدره، وانحنى برأسه.
وكان ذلك هو الأدب الذي يؤديه النبلاء للملوك. كان يسخر بوضوح من مكانتي التي سُلبت.
أطال النظر إليّ وهو يغلي في داخله، كأنّه يريد أن يطبع صورتي في ذاكرته آخر مرة.
“لترفقك السلامة.”
وبهذه الكلمات، أدار ظهره. وما التفت إليّ بعدها.
صرختُ بأعلى صوتي خلفه وهو يبتعد أكثر فأكثر:
“حتى في موتي، لن أغفر لك أبدًا!”
كانت تلك الصرخات، القريبة من اللعنات، آخر مقاومة ولّدها الخوف من الوحدة.
كنتُ آمل، ولو أملًا ضعيفًا، أن يرثي زوجي لوفاتي. فمهما كثر الشقاء في زواجنا، لم تخلُ حياتنا من لحظات بهجة.
لكن كل ذلك ذهب هباءً.
لقد تخلّى عنّي في النهاية.
—
ولمّا طلع الصباح، استقبلتُ يومي الأخير بسكينة لم أتوقعها. لعلّي كنتُ قد بكيتُ عينيّ طوال الليل. ولم يكن ذلك من حبّ للحياة…
تطلّعتُ مشدوهة إلى شعاع الشمس يتسلّل من شقوق الجدار الحجري. وكان عجيبًا أن أتفكّر أنّه آخر شعاع أراه. أليس طلوع الشمس وغروبها من سنن الكون؟
سيطلع غدًا شمس أخرى، لكنني لن أراها. فهذا يومي الأخير.
وعند الظهيرة، سيقتحم الحرّاس السجن، ويُوثق جسدي بالحبال الغليظة، ويُقاد إلى خارج الزنزانة.
ولعِظَم الشأن، كان الحارس الذي يراقب السجن يروح ويجيء بنشاط أكثر من المعتاد.
وبينما كنتُ أرقب هذا المشهد في هدوء، إذا به يظنّ أني أحدّق فيه، فدنا مني ملوّحًا بإصبعه مهدّدًا.
—
جماعة ما تتهوروش وتشتموا البطل لو الروايه توكسيك من ناحية البطل عمري ما كنت همسكها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"