الفصل الرابع عشر
كان ثيو يشعر بانفصالٍ غريبٍ بين الصورة التي يحفظها للأميرة في ذاكرته، وتلك التي يراها الآن جالسةً عند النافذة، تحدّق في الفراغ طوال النهار، رافضةً مغادرة حجرات الكاهنات.
في البداية، ظنّ أنّ ذلك من أثر وهن الجسد بعد المرض، غير أنّ مراقبته لها زمناً جعله يوقن أن العلّة ليست في البدن.
وبينما كان واقفاً إلى جوار العربة، قال فجأةً:
“في الحقيقة، جلالتُها تتصرّف بغرابةٍ في الآونة الأخيرة.”
سأله الكونت:
“وكيف ذاك؟”
“كأنّها غدت شخصاً آخر تماماً. في الماضي…”
وتوقّف الكلام في حلقه حين كاد يقول: كانت تتلهّف للعودة إلى العاصمة، حتى لو اضطُرّت لعقد صفقةٍ مع الشيطان، أمّا الآن فقد فقدت الاهتمام بكل شيء.
لكنّه أدرك متأخّراً أنّ من غير الحكمة أن يعلم الكونت بأنّه هو من اقترح على الأميرة فكرة العودة إلى العاصمة، لا سيما وأنّ الكونت نفسه كان أشدّ المتحمّسين لتلك العودة.
فتدارك قائلاً:
“في الماضي، كانت تبدو متعجّلةً للرجوع إلى العاصمة بأسرع ما يمكن، أمّا اليوم فكأنّها أدركت حكمةَ الكون وأسرار الوجود…”
قال الكونت وهو لا يبدي شكّاً:
“أليس ذلك أمراً محموداً؟ لعلّها أخيراً واجهت الواقع بعد أن جاءت إلى هنا، وفهمت أنّ كلّ شيء قد تغيّر.”
كانت إجابة الكونت عاديةً لا تثير الريبة، غير أنّ التبدّل في طبع الأميرة أدهشه في الباطن، فقد عُرفت دوماً بتهوّرها، تتصرّف كأن الغدَ لا وجود له، وكان ذلك سبب تعثّرها الدائم.
مهما يكن، يبدو أنّ صاحبة السمو قد بلغت رشدها أخيراً.
لقد لا بدّ أنّها عانت كثيراً هنا، فحسبما يرى من تصرّفات رئيس الكهنة، يمكنه أن يتخيّل أنّ حياتها لم تكن يسيرة.
نظر الكونت إلى وجه أخيه المتجهّم وقال:
“لا داعي للقلق يا ثيودور. فالتصالح مع الواقع هو الحكمة بعينها. أنت وحدك من يجهل ما قد فهمته جلالتُها مسبقاً.”
أجابه ثيو بازدراء:
“انسَ الأمر، ما زلت عاجزاً عن الحديث معك يا أخي.”
هزّ رأسه بنفور، وقبل أن ينبس الكونت الذي شعر بالإهانة ببنت شفة، تنفّس ثيو الصعداء وتجاوزَه ماشياً.
وربّما سمع شيئاً من التبرّم أو الانتقاد خلفه، لكنه لم يُعره اهتماماً، بل مضى إلى ديكلان.
“صاحب السمو، هل ثمّة ما يمكنني مساعدتكم به؟”
أجابه ديكلان بصوتٍ خافتٍ بارد:
“تقديرُك محلُّ شكر.”
كان يشدّ لجام فرسه، وعلى الرغم من بُكر الصباح، لم يكن في وجهه أثرٌ للتعب.
لمح ديكلان وجه ثيو للحظة، ثم صرف بصره.
لقد كانت الأسئلة عن ثيو والأميرة لا تنقطع في ذهنه طوال الليل، لكن رؤيته لثيو الآن جعلته يتساءل عن جدوى تلك الظنون.
فهذا الشابّ على النقيض من أخيه المتحذلق؛ لا يُجيد الشكّ في الناس، ولا يجيد الكذب كذلك.
وقد بدا من نشاطه الصباحي المرح أنّه لا يحمل في قلبه ما يدلّ على الريبة أو التآمر.
إن لم يكن ثيو هو من أراد ذلك، فلماذا قالت الأميرة ما قالت إذن؟
—
على الرغم من أنّها لم تذق النوم، كان الضوء قد عمّ السماء.
حدّقت سيينا بخمولٍ في زرقة الصبح المتجلّية وراء النافذة، ثم نهضت ببطء.
لم يعد في الفرار معنى. فقد التقيا بالفعل، ومهما حاولت التهرّب، فلن يغيّر ذلك شيئاً.
‘هذه ستكون المرة الأخيرة على أية حال.’
نهضت على مضض، وفتحت باب الخزانة. كان بداخلها بعض الثياب البسيطة المرتّبة بعناية.
مرّةً كانت عاجزةً عن ارتداء ثوبها من دون مساعدةٍ، أمّا الآن فليس لديها سوى ما يمكن أن تلبسه وحدها. إذ لم يكن في وسعها أن تحتفظ بخادمة في وضعها هذا.
اختارت أنظف ما لديها من ثيابٍ، ومع ذلك فإنّ من يراها لن يظنّها سوى امرأةٍ عاديّةٍ من عامة الناس. على الأقل كانت أبهى من حالها بالأمس.
وحين خرجت، رأت الجنود منهمكين في التحضير للرحيل، يتحرّكون على عجلٍ دون أن يلقوا بالاً لها.
وكان ذلك طبيعياً، إذ لم يكن في حسبان أحدٍ أن تلك المرأة السائرة وحدها بثوبٍ بسيطٍ يمكن أن تكون هي الأميرة ذاتها.
غير أنّ هذا لم يُحدث في قلب سيينا وجعاً جديداً.
نظرت حولها بوجهٍ خالٍ من التعبير، تبحث عن أحدٍ بعينه.
ولم يطل بها الأمر حتى رأت الكونت مونشيس والدوق الأكبر.
وكان ثيو أول من لمحها، وبدت على وجهه الدهشة، كأنّه لم يتوقّع ظهورها قبل يوم الرحيل.
عندها التفت الكونت هو الآخر، فأسرع إلى الانحناء قائلاً:
“لشرفٌ لنا حضور جلالتِكم.”
ثم تبعه ديكلان بانحناءةٍ خفيفة. فأومأت سيينا برأسها بهدوء وقالت:
“أشعر بالخجل لأنّي لم أظهر إلا في يوم الرحيل.”
حاولت أن تحافظ على أرفع قدرٍ من الوقار، فاعتدلت في جلستها ورفعت ذقنها بشموخٍ مصطنع.
كان ذلك من جهةٍ تعويضاً لما أصابها من حرجٍ أمامه بالأمس، ومن جهةٍ أخرى محاولةً متأخرةً لاستعادة كبريائها الملكيّ أمام الجنود.
لكنّها في النهاية لم تكن سوى بقايا كبرياءٍ باهتةٍ، لا وزن لها أمام هذا الرجل.
قالت بصوتٍ متماسك:
“سمعت أنكم سترحلون دون إفطار. هل لدى الجنود ما يكفيهم من الزاد؟”
أجاب الكونت بدلاً من الدوق:
“نعم يا صاحبة السمو، لدينا ما يكفي حتى نصل إلى العاصمة.”
أومأت بصمت، ثم رفعت بصرها إلى ديكلان، فوجدته يطيل النظر إلى وجهها دون أن يتكلّم.
وحين لم تحتمل ثبات عينيه، خفّضت بصرها أولاً.
كان حتى الصمت بينهما ثقيلاً عسير الاحتمال.
في تلك اللحظة، اقترب جنديّ ذو شعرٍ أحمر وقال:
“يا صاحب السمو، جميع الاستعدادات أُنجزت.”
ابتسم ديكلان قائلاً:
“أشكرك على إعلامي، أيها السير غايوس. فلننطلق فوراً.”
ومع أوامره العالية، اصطفّت الجنود في نظامٍ مهيب.
كانت سيينا تعبث بأصابعها المتشابكة، ثم مدّت يدها في تردّدٍ واضح.
اتّجه بصر ديكلان إلى تلك اليد الشاحبة الممدودة نحوه.
قالت بصوتٍ واهنٍ لكنه واضح:
“أتمنّى لكم السلامة.”
تأمّل يدها لحظةً في صمت، ثم مدّ يده وقبض عليها. كانت يدها أصغر كثيراً من يده، وخشنتها لا تليق بسيدةٍ من سلالتها.
وكان ذلك الإحساس مألوفاً لديه إلى حدٍّ مؤلم. فشدّ قبضته عليها من غير وعي.
وحين هزّت سيينا يده برفقٍ كمن يصافح مصافحةً رسمية، ارتدّ نظره إلى وجهها.
وبينما هي ترفع عينيها إليه، فوجئت بأنّه رفع يدها وقبّل ظهرها.
تجمّد جسدها في مكانه، وتهاوى كل ما كانت تحاول الحفاظ عليه من مظهرِ الوقار في لحظةٍ واحدة.
ضحك ديكلان بصوتٍ خافتٍ غير مقصود، فازدادت دهشتها اتساعاً.
كان ذلك الصوت ذاته الذي سمعته يوماً في الحلم… نغمةً رخيمةً لم تنسها. وشعرت بوضوحٍ بحرارة شفتيه على بشرتها الباردة.
في تلك اللحظة، خرج رئيس الكهنة ومعه المعالجون من بوابة الدير.
فشدّ ديكلان قبضته للحظةٍ أخرى ثم أفلتها، تاركاً يدها معلّقة في الهواء.
وقفت سيينا واجمةً، ثم سحبت يدها بخجلٍ حين ابتعد عنها تماماً.
عاد إلى حاله الرصين كأن شيئاً لم يكن، وشكر الأب الرئيس ومن معه على حسن ضيافتهم، بينما ظلّت هي واقفةً بوجهٍ شاحبٍ حائر.
أنهى ديكلان استعداداته، وامتطى جواده.
ورفعت رايةٌ تحمل شعار الإمبراطورية، لتعلن انطلاق الجيش.
تابعت سيينا نظرها نحوه حتى غاب عن ناظريها وهو يهبط المنحدر مع الجنود.
لكنّ الإحساس الدافئ على ظهر يدها بقي طويلاً لا يفارقها.
—
عند استرجاع الماضي، بدت حياة سيينا روزاموند ميل مالوني كالثوب الذي أُغلق زِرّه الأوّل خطأً، فاختلّ بعده النظام، مع أنّ بدايتها لم تكن مضطربة.
فحتى وقوع “ذلك الحدث”، كانت نظرات الناس نحوها تحمل شيئاً من الودّ، بل إنّ من كانوا يحوطون جوزيف وماريان بالحماية لم يعاملوها بقلّة اكتراث.
فهي الأميرة الوحيدة للإمبراطورية العظمى التي بسطت سلطانها على قارة كرالتو.
وكانت أسرتها من الأمّ، آل ريكاتا، من أعرق بيوت النبلاء في الإمبراطورية، وأمّها هي الإمبراطورة الوحيدة “المعترف بها رسمياً” من قِبل الإمبراطور.
ولذلك، من حيث الميلاد، لم يكن في شرفها ما يُدانيه أحد، فهي بحقّ أرفع كائنٍ وُجد على تلك القارّة.
ولم يكن الناس يتحدثون عن مكانتها فحسب، بل عن محبّة الإمبراطور لها أيضاً.
فهي ثمرةُ المرأة التي عشقها منذ صباه، ومن ثَمَّ كان حنانُه عليها عميقاً لا يُجارى.
وهبها أجمل قاعات القصر، وجعلها مطلّةً على شمس الصباح، وكان يزورها كلّما واتته الفرصة.
على مدى ستّ سنوات، نشأت سيينا في نعمةٍ لم يذق مثلها طفلٌ في العالم.
نَسَبٌ عريق يعلو الجميع، وأبوان يحيطانها برعايةٍ لا حدّ لها، وعالمٌ من حولها جميلٌ وهادئ.
كانت تظنّ أنّ تلك الأيام ستدوم أبداً.
غير أنّ الحياة لا تسير على هوى التمنّي.
فما خُلق ناعماً مصقولاً إلا وتكسره موجةُ البلاء حين تهجم.
وحياة سيينا لم تكن استثناءً؛ إذ لم تحتج سوى لحظةٍ واحدة لتغوص من علياء المجد إلى وحل المهانة.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "14"