الفصل الثالث عشر
كان الأمر أشبه بلقائها شخصًا ما لم يكن ينبغي أن تراه.
وكان ذلك طبيعيًّا، فالشخص الذي كانت سيينا تنتظره لم يكن هو، بل ثيودور مونشيس.
وبعد أن استوعب ديكلان الموقف متأخرًا، انحنى برأسه.
“لقد أسأتُ الأدب. بدا وكأنك في مأزقٍ…”
بخلاف طبيعته، مدّ ديكلان كلامه إطالةً، إذ لم تتحرّك شفتاه كما أراد عند لقائها بغتةً.
تجمّدت سيينا في صدمة، فتحت فمها كأنها ستقول شيئًا، ثم أطبقت شفتيها في الحال. أما عيناها الزرقاوان، الدائرتان باضطراب، فقد كشفتا بجلاءٍ عن ارتباكها. ولم يكن ديكلان في الباطن بأحسن حال، وإن اجتهد في إخفاء ذلك.
وبعد صمتٍ خانق، كان هو من صرف بصره أولًا.
“سأكون بالخارج. نادي إن احتجتِ إلى شيء.”
—
حتى بعدما خرج من الحمّام، بقيت سيينا واقفة كالمسحورة، رأسها مرفوع، ثم ألقت نظرها متأخرة إلى الثياب والمنشفة التي تركها لها. حينئذٍ فقط استوعبت أنها عاريةٌ تمامًا.
صحيحٌ أنّه لم يكن في موضعٍ يسمح له برؤية كل شيء، لكنّه بلا شك قد أبصر كتفها. فدفنت وجهها بين كفيها، وقد تلوّن بالخجل القاني.
كانت تدرك أنّها لن تستطيع تجنّبه إلى الأبد. ولكن…
‘أن يكون اللقاء على هذه الصورة… هذا ما لا يُحتمل…’
انفجر الخجل في صدرها متأخرًا، فكان أثقل من أن يُحتمل. أسرعت بارتداء ثيابها بحركات متعثّرة، وغادرت الحمّام.
كان ديكلان متكئًا على الجدار المقابل، فما إن خرجت حتى خطا خطوة نحوها. وفي الرواق الضيّق، كانت تلك الخطوة كافية لتقريب المسافة بينهما على نحوٍ ملحوظ.
وما إن التقت عيناهما، حتى أسرعت سيينا تخفض بصرها.
“لقد سببتُ لك مشقّة بغير قصد، يا صاحب السموّ.”
“لا تذكري ذلك.”
أجابها بأدب، كما يليق بخلق فارسٍ نبيل.
“إن كنتِ عائدةً إلى جناحك، فسأرافقك.”
“لا حاجة لذلك، فأنا أحفظ الطريق.”
“أستسمحكِ، لكن معرفة الطريق لا تعني الأمان. ولا سيّما…”
أطرق بنظره إلى أسفل وهو يقطع كلامه.
فلقد التصق ثوبها الرقيق بجسدها تمامًا من أثر رطوبة الحمّام. وكان قطرات الماء المتدلّية من شعرها الملتفّ تنحدر على بشرتها الشاحبة، فبانت واضحة من وراء القماش المبتلّ.
تبعت سيينا بصره مذعورة، فأسرعت تشدّ رداءها عليها. ثم قالت بحدّة:
“أليس الدوق الأكبر أجلَّ من أن يضيّع وقته في مرافقتي؟”
والحق أنّ جميع أبناء الإمبراطورية عبيدٌ للإمبراطور وللعائلة الإمبراطورية، فمرافقة أميرةٍ ملكية ليست شأنًا يخصّ المكانة الاجتماعية أصلًا.
لكن ديكلان لم يرَ داعيًا أن يدخل في جدالٍ، بل ركّز جهده على كسر عنادها.
“إن كنتِ تضايقين من وجودي، فإني أنادي السير مونشيس.”
قالها بصرامة لا تلين. وإذ أبصرت سيينا موقفه الذي لا يتراجع، قطّبت جبينها.
وفي تلك اللحظة هبّت ريحٌ باردة، فارتعشت غريزيًا. عندها خلع معطفه وحاول أن يُلقيه على كتفيها. لكنها صدّته بيدها الممسكة بردائها.
“أنا بخير.”
“بلغني أنّ صحتك قد تدهورت كثيرًا.”
لم يُجبرها ديكلان على ارتداء المعطف، غير أنّه لم يتراجع أيضًا.
“ثم إنكِ لو صادفتِ أحدًا على تلك الحال، لكان في ذلك حرجٌ بيّن.”
عضّت سيينا على شفتيها في صمت.
ثم، إذ أسقطت يدها استسلامًا، اقترب منها وألقى المعطف على كتفيها. فأرسلت عيناها الزرقاوان نظرةً خاطفة نحو الرجل الذي بات قريبًا منها.
كان ثوبه الخفيف لا يختلف عن ثوبها، غير أنّ الجسد الممشوق البادي من ورائه كان أصلب وأشدّ من جسدها بكثير.
سارت سيينا أمامه، ناظرةً إلى الأرض، مطبقةً على المعطف بكلتا يديها.
سمعت خطاه خلفها، ولم تنطق. فلم تشأ أن تُثير جلبةً أخرى في جوف الليل. وهو كان يتبعها بضع خطوات من ورائها، دون أن يتبادل معها أي كلمة.
وكان الطريق طويلاً من الحمّام إلى حجرات الرهبان.
وفي كل نسمةٍ عابرة، كان عبيرها يلامس أنفه. وفي الظلمة، فوق هيئتها التي تسير بهدوء، كانت صورتها عندما برزت قليلا من باب الحمام تطفو في ذهنة.
‘أيها الأحمق المخبول…’
كتم ديكلان شتيمة، وقد غمره قرفٌ من نفسه.
مع أنّ المسافة بينهما ثابتة، إلا أنّ وعيه بها كان طاغيًا، حاضرًا في كل لحظة.
لم يمضِ سوى أيامٍ منذ أقسم أن لا يتدخّل في حياتها ثانيةً، فإذا به يضطرب اضطرابًا لا يُقاس لمجرّد مصادفتها. وكره نفسه لذلك.
أما سيينا، فلم تكن بارتياحٍ أكبر. فعلى الرغم من أنّها تتقدّمه، إلا أنّ كل تفكيرها منصبٌّ على الرجل السائر خلفها.
لماذا كان واقفًا عند باب الحمّام بالذات؟ ولماذا يصرّ الآن على مرافقتها؟
وفي فوضى خواطرها، كان ثمّة شعورٌ خفيّ بالسرور لم تدرِ به نفسها.
غير أنّها أطفأت خواطرها كلها في النهاية، وأيقنت أنّ ما يفعله ليس سوى صونٍ للياقة الموجبة على أميرةٍ إمبراطورية.
وبتلك الفكرة، برد قلبها الذي كان يرفّ مذ أن لاقته. وأطبقت يدها على المعطف أشدّ. فقد ألفت إخلاصه الآن.
ولما بلغت غرفتها، نزعت المعطف في الحال وردّته إليه.
“يكفي هذا الآن. لقد تأخر الوقت، فارجع إلى حجرتك، يا صاحب السموّ.”
وكان بصرها لا يزال مثبتًا على الأرض.
“أرى أنّي مدينٌ لكِ بمراتٍ عديدة.”
“لم أفعل إلا ما هو طبيعي.”
“كذلك أظن.”
زاد انحدار وجهها حزنًا.
“وعلى كل حال، أشكرك. أرجو أن تكون ثمة فرصة أردّ لك هذا الجميل يومًا.”
كان سيرحل عن المكان قريبًا، ولن تكون تلك “الفرصة” موجودة في الغالب. دارت سيينا عنه بعدما أنهت ما أرادت قوله.
أما هو، فتبع بصره حركاتها في صمت.
لقد كانت فيما مضى متلهفةً إلى العاصمة، وأما الآن فالشخص الذي أمامه بدا غريبًا عنه. لا تذكر العاصمة ولا تُبدي رغبةً فيها.
وأثار ذلك في صدره شعورًا غامضًا.
فقد انهارت عزيمته التي طالما تمسّك بها، وصارت عزيمته الماضية أشبه بالهزل.
“يا أميرة.”
أدارت سيينا رأسها قليلًا لترفع نظرها إليه. ملامحها الدقيقة المنحوتة على وجهها الشاحب لم تزد على البرود.
“سأعود إلى العاصمة غدًا. فالغالب أن هذه آخر مرة أرى فيها سموّك هنا.”
وقد بدا على وجهه مسحة يأسٍ، جعلت سيينا تطرف بعينيها ببطء.
“أهناك أمرٌ آخر ترجوه مني؟”
حدّقت سيينا في ديكلان بحيرة، ثم تنفّست شهقةً قصيرة. وحينئذٍ فقط عاد إلى خاطرها الحوار الذي كانت قد سمعته من قبل بينه وبين ثيو من غير قصد.
“ثيودور مونشيس.”
كانت كأنّها تهمس لنفسها. التفتت بعينيها الزرقاوين، فارغتين من الروح، نحوه ببرود.
“خذه معك إلى العاصمة. أمّا أنا… فلا يعنيني الأمر أصلًا.”
انعقد حاجباه قليلًا، كأنّه لم يدرك مرادها.
لكن سيينا لم تكن تنتظر جوابًا، فاستدارت عنه من غير تردّد. أما بصر ديكلان، فظلّ متشبّثًا بذيول رداءها المترجرج في ارتباكٍ لم يعتده.
وأغلقت الباب دون أن تلتفت. كان صرير الخشب العتيق في أذنه كالقسوة.
—
وقبل أن يكتمل شروق الشمس، غصّ مدخل الدير بحركة الاستعداد للرحلة الطويلة. والجنود منهمكون في شدّ العربات بالخيول أو تعديل اللجم.
“ما أنشطكم من أوّل الصبح.”
اقترب ثيودور من الكونت، الذي كان يحمل الأمتعة إلى عربة، متثاقلًا في تثاؤبه.
فردّ الكونت بخشونة، دون أن يلتفت إليه:
“ومع تحرك الدوق الأكبر منذ الفجر، أيعقل أن أبقى مكتوف اليدين؟”
وبرغم كلماته، كان التعب ظاهرًا على وجهه
“بالمناسبة، كيف حال سموّ الأميرة؟”
“منذ متى بدأتَ تسأل عن صحتها…؟”
“لا، إنما استغربتُ أن تكون من السقم بحيث تمكث شهرًا كاملًا في حجرتها.”
وعند هذه السخرية المبطّنة، صمت ثيودور مذهولًا، ولم يجد ما يقول.
فعادةً في مثل هذه الأحوال، يُنتظر من الأسرة الإمبراطورية أن تُثني بنفسها على بسالة الجنود وتضحيتهم في سبيل رعايا الإمبراطور.
ومهما كانت سيينا منفيّة، فما دامت تُدعى ‘سموّ الأميرة’، فالأمر لا يُستثنى. فكان بُغض الكونت للأمر مفهومًا، لكونه من خلّصاء الدوق الأكبر.
وبينما كان ثيودور يعبث بقطعة قماشٍ لتفادي الحرج، انقلبت عليه نظرة الكونت الحادّة ثانية.
“وبالمناسبة، ما الذي جعلك تبكر اليوم؟ حسبتُك منشغلًا بالقيام مقام الخادم لسموّ الأميرة.”
“ما الذي تعنيه؟”
ومن نبرة سخرية الكونت من أوّل النهار، بدا جليًّا أنّه لا يزال يحمل ضغينة على ثيودور لعدم عودته إلى العاصمة معهم. فألقى عليه أخوه نظرةً ضجرة، ثم تنفّس بعمق.
وكان مدركًا لسبب ذلك، فقد كان هو نفسه قد سعى لإقناع الأميرة أن تستغل زيارة الدوق الأكبر لتعود إلى العاصمة معهم.
لكنّه، مع ذلك، لم يكن ساخطًا على قرارها أن تبقى.
فقد اقترح ذلك فقط لأنه يعلم شوقها القديم للعودة إلى العاصمة، ولم يخطر له أن ترفض.
غير أنّ الأميرة، في الآونة الأخيرة، كانت مختلفة على نحوٍ ما عمّا كانت عليه من قبل.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "13"