الفصل الثاني عشر
ما كان يومًا عاديًّا في حياة سيينا قد غدا الآن ماضيًا ومستقبلًا لا سبيل لها إلى الرجوع إليه، مهما صنعت.
كلا، بل لا يسوغ لها أن تزعم أنّ تلك السعادة كانت لها أصلًا. فقد عاش في قلبه امرأةً أخرى طوال الوقت.
اشتعل حلقها بحرارة من فوران العاطفة المفاجئ.
كانت تفتقد سولييت افتقادًا يائسًا.
كل ما أرادته أن تكون بقربها، أفكان ذلك طلبًا عظيمًا؟ لم تفهم لمَ تُعاد عليها حياةٌ لا معنى لها.
بعد أن التقطت أنفاسها برهة، نهضت سيينا بحركات واهنة. أحسّت بجسدها ثقيلًا على نحو غير معهود، ولعلّ ذلك مردّه إلى سقمها.
تذكّرت أنّ المعالج قد ناولها الدواء وهي بين يقظة ونوم، ويبدو أنّها مذ ذاك في سباتٍ متواصل. وبفضل ذلك خفّت حُمّاها بعض الشيء، غير أنّ جسدها بأسره كان غارقًا في عرقٍ مُرهق.
جلست على الفراش بوجه شارد، ثم عزمت أن تتخلّص أولًا من هذا الإحساس الكريه، فوضعت قدميها على الأرض.
وهي تفتح الباب في هدوء، حاملةً ثيابًا نظيفة ومنشفة أخرجتها من الخزانة، التقت عيناها بعيني كاهنةٍ كانت تُرتّب كرسيًّا.
“سموّك، إلى أين تذهبين؟”
“إلى الخلاء لحظةً وحسب.”
خرج صوتها متشققًا كالمعدن، فارتسمت على وجه الكاهنة مسحةُ قلق، فيما سارعت سيينا إلى تنقية حلقها.
“وا أسفاه… عليّ أن أمضي قليلًا إلى المصلّى لأهيّئ قدّاس صباح الغد.”
“وما الضير؟ الحمّام أمامي مباشرة. لا داعي للانشغال بما لا حاجة له.”
“لكن…”
قدّرت سيينا سبب تردّدها، فتنفّست تنهيدة خفيفة وقالت:
“ما اسمك، أيتها الكاهنة؟”
“جين، يا سيدتي.”
“جين، إنّي أستطيع الاغتسال وحدي، فلا تنشغلي وامضي لشأنك.”
أجابت بوضوح، ومع ذلك ظلّ القلق مرسومًا على ملامح جين.
فالعادة أنّ الأميرة اعتادت الاغتسال منفردة هنا، إذ لم يكن معها من يقوم على خدمتها سوى فارس حراستها، ثيودور مونشيس.
لكنّ المسألة لم تكن مجرد حمّام، بل قضية نجاة أيضًا. فما من حزمٍ أن تخرج امرأةٌ ذات أصلٍ نبيل وحدها في مكانٍ مهجورٍ آخر الليل.
ثم إنّ هذا الدير كان مأوىً لرهبانٍ عُزلوا عن مراتبهم بعد خطايا اقترفوها، فلا يُقال عن أخلاقهم خير حتى مزاحًا.
“أفأستدعي إذًا السير مونشيس؟”
“أتريدين من رجل يحضر اغتسالي؟”
ذاك لَعمر الحقّ أسوأ من ألا يكون معها أحد.
تمتمت سيينا بوجهٍ مرهق ولوّحت بيدها لتأمرها أن تمضي، ثم هبطت الدرج. فلم تجد جين حيلةً أن تمنعها، فتبعتها زافرةً.
كان الحمّام في أقصى الجناح، على طرف الرواق الموصل إلى المركز.
وبما أنّ الوقت كان متأخرًا من الليل، لم تبدُ أيّة أنفاس بشر. وحتى بعدما بلغتا المكان، ظلّت جين غير مطمئنة إلى أن سلّمت بالأمر وانصرفت.
وضعت سيينا ثيابها مؤقتًا على رفٍّ بجانب الباب، وملأت حوضًا خشبيًّا بالماء الساخن بحركاتٍ خبيرة.
لو كان ثيودور حاضرًا لاعترض، ولكن بالنسبة لها لم يكن التحرّك بلا خدَم شيئًا ذا بال، فهي قد تجرّعت الأسوأ من قبل. أما وقد ذاقت السجن واحتملت أصابع الاتهام من جميع الناس، فما عاد يضيرها مثل ذلك.
ما كان في يومٍ من عادتها صار بعد هذا المكان ترفًا: غرفة لا يتسرّب منها الهواء البارد، طعامٌ نفيس، وعطورٌ راقية تُسرف فيها عند اغتسالها.
أمّا هنا في لوبويل، فقد وجدت في مجرّد غمس جسدها في ماء ساخن نعمةً تكفيها.
وحين امتلأ الحوض، نزعت ثيابها ودخلت فيه.
تخفّف بدنها الواهن قليلًا في الدفء، غير أنّ خاطرها لم يشفَ.
بقايا أحلامها كانت تنغص عليها في صمت، لكنّها ما عادت تبالي بتحويل فكرها عمدًا. لقد أضناها التعب والوجع حتى سئمت كل شيء.
ضامّت ركبتيها إلى صدرها، وطفَت في تيار أفكارٍ لا نهاية له، تستعيد صورة سولييت: ما حجم جسدها، وما الإحساس في حضنها.
لم تنتبه إلا بعدما برد الماء تقريبًا. وحين همّت بالخروج، تذكّرت أنّها تركت منشفتها وثيابها الجديدة على الرف خارج الباب.
اكتسى وجهها غمامُ حيرة. مالت برأسها تنظر من فرجة الباب، فلم تجد أحدًا.
‘ما العمل الآن؟’
فكّرت أن تسرع وتتناولها ما دام المكان خاليًا. لكن في تلك اللحظة وقع ما لم يخطر.
فجأة، انسدل ظلّ طويل أمامها. انبسطت في وجهها سكينة، إذ لم يكن الرهبان بهذا الطول، والجنود مقيمون في مبنى آخر.
‘أترى الكاهنة استدعته؟’
ومن مجرّد الظلّ عرفت هويته. فنادت باسمه على عجل:
“ثيو!”
توقّف الظلّ الراجع. خافت أن يكون لم يسمعها جيّدًا، فهتفت:
“ثيودور، أأنت هنا؟”
—
مضى شهرٌ سريعًا. وكان كافيًا ليتعالج الجند الجرحى ويتعافوا قليلًا.
وعلى خلاف ما أقسم ديكلان على نفسه يوم وطئت قدماه المكان، لم يلقها أبدًا.
وكان ذلك ممّا يُحمد، غير أنّه لم يورثه الرضا كما توهّم.
فمنذ جاء إلى الدير، كانت عيناه تبحثان بلا وعي عن وجه مألوف. غير نادر أن يتوقّف فجأة حين يلمح راهبة سوداء الشعر.
حتى في اليوم الأخير لم يتغيّر الأمر. مع أنهم سيغادرون غدًا هذا الموضع المُمِلّ، لم يذق النوم.
في سكون الليل، ما سمع غير وقع خطواته على التراب، يتردّد فارغًا في أذنه.
كان ليلًا صحوًا، على نقيض أمطار النهار. رفع بصره إلى قمرٍ مضيء، ثم مضى بلا وجهة، غارقًا في أفكار عبثيّة أكثرها عن ماضٍ لا رجعة له.
وهو يدور بين أروقة مقبّبة، لمح ضوءًا أحمر خافتًا يتسرّب من شقّ بابٍ في الظلام. فتوقّف.
رفع رأسه قليلًا، فإذا براية حمراء منصوبة بين أحجار الجدار، علامة أنّ هذا جناح الراهبـات. وهكذا وجد نفسه عند الطرف المقابل من حيث يسكن.
‘أأنا فاقد لرشدي؟’
هزّ رأسه متأفّفًا من نفسه، وهمّ بالعودة، فإذا بصوتٍ يوقفه:
“ثيو.”
تجمّد لوهلة، فقد كان الصوت الأنثويّ مألوفًا جدًّا.
عاد يُسمع ثانية:
“ثيودور، أأنت هنا؟”
كان صوتًا يعرفه، ينادي ثيودور مونشيس من جناح النساء. وما إن أدرك، حتى خلت نفسه من كل خاطر.
كان الأجدر أن يمضي، لكنه وقف كالصنم.
“لقد نسيتُ ثيابي النظيفة على الرفّ بالخارج. إن كنت هناك، فهلاّ تناولتها لي؟”
لمّا أبصر بخار الماء يتسرّب من فرجة الباب، علم أنّه حمّام. نظر إلى الرفّ بجانبه، فإذا بالثياب والمنشفة مرتّبة. ثم سمعها تسعل سُعالًا مقلقًا.
تذكّر عندها أنّها كانت حبيسة الحُمّى منذ قريب. فتمتم بشتيمة خافتة، والتقط الثياب والمنشفة.
فتح الباب، فلفحته سُخونة البخار. وأول ما وقعت عيناه عليه ظلّها خلف الساتر.
كان مجرد هيئة، ومع ذلك تجمّد.
اختنق صدره، مدّت ذراع رفيعة من جانب الساتر وقالت:
“ما أبطأك! قلت لك أسرع.”
حركت أصابعها بضجر. فمدّ يده بالثياب في بطء.
لكن ظلّه لم يقترب، بل بقي بعيدًا.
قطّبت سيينا جبينها وأطلت برأسها من وراء الساتر:
“لِمَ تأخّر…”
هنالك التقت عينان زرقاوان بعينيه. ارتعشت، وحبست أنفاسها لحظة، ثم أخذ الشحوب يسري في وجهها حتى غدا كالرماد.
———-
لعيون chrollo الفصول لين لقاء الأبطال
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "12"