الفصل الحادي عشر
في الإمبراطوريّة، كان مألوفًا أن يُقام حفلُ بلوغٍ عند سنّ الثامنة عشرة، ثم يُقضى الموسم الاجتماعي في البحث عن شريكٍ للخطبة، ويُعقد الزواج في مطلع العشرينات على أبعد تقدير.
غير أنّ الدوق الأكبر قد أمضى ذلك العمر الذي كان ينبغي أن يقضيه في التماس القرين، في ساحات الوغى. وحتى حين كان يشارك بين الحين والآخر في بعض المَحافل، لم يكن إلا حضورًا عابرًا لا يلبث أن يختفي. ولهذا السبب، فما زال إلى يومه ذاك، وهو في منتصف العشرينات، بلا زواج ولا خطبة.
كان ثمّة نساءٌ كثيرات يفتتنّ بجماله الأخّاذ، غير أنّ المعضلة كانت في موقف الدوق الأكبر منهنّ.
ديكلان مونفيراتو كان سيّدًا كاملاً بأتمّ معنى الكلمة، إلا أنّه ما تعدّى قطّ ذلك الحدّ. ولئن كان المرء يتوقّع أن يُبدي اهتمامًا بالنساء في وقتٍ ما، فإنّ ذلك لم يحدث أبدًا.
وفيما كان أقرانه يعثرون على شركاء مناسبين، وينجبون الورثة ويُربّونهم، لم يكن هو يلتفت إلى النساء ولا بمقدار لمحة، بل ينتقل من ميدان حربٍ إلى آخر. فنال المراتب الرفيعة، غير أنّ ذلك كان كلَّ ما حاز.
هنالك بدأ الكونت يساوره القلق. فإنّ النُّبلاء يرون إنجاب الوارث الذي يرث الألقاب والثروات أمرًا لا يقلّ شأنًا عن النجاح في الحياة. وكان الأمر أهم بالنسبة لبيت الدوق الأكبر، إذ كان الورثة فيه قلّما يُوجدون.
“في حين أنّ النبلاء من أتراب سِنّك قد شرعوا واحدًا إثر آخر في تدريب أبنائهم على وراثة المنصب، ما يزال سموّك يردّ المقترحات بالزواج. وإنّ رعاياك في غاية القلق. ولو كان في بالك شخصٌ واحدٌ على الأقل، لما بلغنا هذا الحدّ من الاضطراب.”
انتهز الكونت الفرصة، وكأنّ الحرب قد وضعت أوزارها أخيرًا. أما ديكلان، الذي كان يتجاهل كلامه في صمت، فقد أسند ذقنه إلى الخريطة وأجاب ببرود:
“لعلّه ثمّة شخص لا أستطيع نسيانه.”
عندها انقطع صوت الكونت فجأة. وحتى بعدما سمع العبارة بأذنيه، ظلّ يحدّق بالدوق الأكبر فارغ النظرات، حتى أخذت الصدمة تتسلّل إلى ملامحه شيئًا فشيئًا.
“مـ-ماذا قلتَ الآن…”
نسي الكونت آدابه، وبقي فمه فاغرًا لا يقوى على متابعة الكلام. فأخذ ثيودور الكلام بدلًا من أخيه الذي لم يزد على تحريك شفتيه بلا نطق:
“شخص لا تستطيع نسيانه؟ أنتَ، يا صاحب السمو؟”
“وهل لذلك من بالٍ الآن؟”
على الرغم من برود ردّ ديكلان، فقد ظلّ الكونت مبهوتًا لا يفعل سوى الفتح والإغلاق بفمه، بينما ثيودور – على الأقل – أومأ موافقًا.
ولمّا فكّر في الأمر، بدا له أعجب أن يكون صاحب ذلك الوجه غير مهتمٍّ بالنساء.
هزّ ثيودور رأسه راضيًا بما وصل إليه من استنتاج. وقد فهم إلى حدٍّ ما لمَ لم يبح الدوق الأكبر باسم تلك المرأة. إذ ما إن يُعرَف ذلك حتى تصير تلك المرأة أرفع سيّدة في المجتمع الراقي، وفي الوقت نفسه هدفًا لحسد النبلاء وبغضهم.
وعلى الرغم من أنّ العقل يقبل هذا، فقد غلبت الفضول نفسَه شيئًا فشيئًا. والتفت ينظر إلى الكونت، فإذا هو في الحال نفسه. حتى لقد بدا أنّه نسي أمر عودة ثيودور إلى العاصمة.
وبوجهٍ لم يزل تحت وطأة الصدمة، أجاب مولاه فيما كان يراجع الخريطة، غير أنّ نظراته الجانبية نحو الدوق الأكبر كانت تحمل الفضول نفسه الذي امتلأ به قلب ثيودور. وقد بدا الأمر جليًّا لكلّ من حضر أنّه ليس حاضر الذهن في المجلس.
‘مَن كانت تلك، فستغدو – لا محالة – محلّ الحسد حين يُكشف النقاب عن الأمر.’
وبينما ثيودور جالسٌ يراقب الاثنين، التفت لاشعوريًّا نحو النافذة حين سمع خرير المطر يطرق الزجاج. لقد بدأ المطر يهطل منذ برهة.
“…مطر، في هذا الحين.”
هَمْهَم ثيودور مع نفسه.
ومع مرور الوقت أخذت القطرات التي تضرب النافذة تشتدّ أكثر فأكثر.
لقد كان بدء مطرٍ غزيرٍ مفاجئ.
—
حين عادت سيينا إلى مهجعها، كانت مبلّلة من ذلك الهطول الفجائي. وقد صار وجهها – الذي كان أبيض كالقرطاس – متشحًا بزرقة، دليلًا على سوء حالها.
وحتى بعدما وصلت بخطى متعثّرة، لم تخلع ثيابها المبتلّة، بل جلست شاخصةً ببصرها إلى المطر المنهمر خارج النافذة. وكانت القطرات التي تتساقط عنها تجتمع على الأرض.
[لعلّه ثمّة شخص لا أستطيع نسيانه.]
طرف جفنُها ببطء وهي تحدّق عبر الزجاج. قطرة عالقة برموشها الطويلة انسابت على خدّها الشاحب. عندها انفرج وجهها الجامد بابتسامة مريرة.
لماذا لم تُدرك ذلك حتى الآن؟ يا لها من حمقاء.
لقد كان له امرأة أخرى.
ولم يكن ذلك بالمدهش. طالما كان ثمّة نساءٌ معجبات به، وفيهنّ جمالاتٌ مشهورات في الإمبراطوريّة. وفي مثل هذا المقام، كان الأغرب أن يظلّ غير مكترث بالنساء.
ورغم أنّ عقلها يدرك هذا، فقد ارتجفت أناملها وهي تحلّ رداءها.
لِمَ لم يذكر ذلك قط؟ ربّما كان في الأمر ولد، فرأى أنّه أمرٌ مفروغٌ منه وكتمه في صدره. وهو من شأنه أن يفعل ذلك.
إنّه أمرٌ لا جواب له مهما أجهدت نفسها تفكيرًا، ولم يعد ثمّة من تواجهه به.
ما كانت تدري ما الذي دفعه لأن يُبقي على زواجهما، غير أنّ ما اتّضح اليوم أنّ سيينا لم تملك قلبه ولو لحظة.
لقد كانا دومًا غريبين. حتى في أقرب لحظات الألفة، لم يكن ثمّة إخلاص. وما ظنّته لحظةً أنّها ملكت قلب إنسانٍ لم يكن سوى وهمٍ اختلقته لنفسها.
م. الله يجلطك قولي آمين!
ارتجف جسدها واقفًا ارتجافًا خفيًّا. أتراه من البرد وحده؟ أم لعلّ ثمّة سبب آخر؟ لا سبيل إلى العلم.
وقد تحوّل المطر الذي بدأ في الليلة الماضية إلى هطولٍ منهمرٍ شديد. وظلّ يهطل بجنون حتى الصباح، لكن الجو الكئيب لم يزل سائدًا طوال النهار.
أتُراه من المطر المفاجئ الذي بلّلها البارحة؟ لقد سقطت سيينا طريحة الفراش أيّامًا متوالية من بعد ذلك.
—
وإذ كان جميع المعالجين في الدير منهمكين في معالجة الجند، استقدم ثيودور مؤقّتًا كاهنًا ملمًّا بالطب.
الكاهن الذي فحص حال سيينا وصنع دواءً يُخفّض حرارتها بدا خبيرًا بالأمر. لكنّ الأميرة لم تزل تستعيد وعيها ثم تفقده سريعًا.
“لعلّ من الأفضل أن يُستقدَم معالج. فهذا يبدو أدهى من زكامٍ عابر.”
هكذا خلص الكاهن. فأومأ ثيودور صامتًا. وعلى جهله بالطبّ، فقد كان يفهم من حمّى الأميرة وعجزها عن البقاء واعية أنّ حالها ليست بالهيّنة.
“ليس بداءٍ خطير، أليس كذلك؟”
“على الأرجح لا.”
ثم أشار الكاهن بذقنه إلى ناحيةٍ ما. فالتفت ثيودور متحيّرًا، فإذا بثيابٍ ما تزال تُقطر ماءً معلّقة عند النافذة.
“لقد نامت وهي ترتدي هذه.”
قطّب ثيودور جبينه في حيرة، متفحّصًا الأميرة والثياب المبتلّة.
“ما معنى هذا…”
“يبدو أنّها ابتُلّت بمطر البارحة. ومع برودة الليل هذه الأيّام، فليس غريبًا أن تُصاب بالحمّى وقد نامت هكذا.”
كلّما واصل الكاهن حديثه، ازداد وجه ثيودور التباسًا.
لقد بدأ المطر في ساعةٍ متأخّرة من الليل. والعجيب أنّ الأميرة خرجت وحدها في تلك الساعة، والأعجب أنّها نامت بثياب مبتلّة.
والأميرة – إن لم يكن في شيء – فهي من أشدّ الناس حساسيّة. فلا يُعقَل أن تنام على تلك الحال.
“سأظلّ إلى جوار سموّها. فالأحرى أن تذهب أنت يا سيّدي، إذ إنّ لك معرفة بالدوق الأكبر، فيسهل عليك أن تأتي بالمعالج.”
قاطع صوت الكاهن خواطره. فعاد ثيودور إلى وعيه وأومأ.
“سأفعل ذلك.”
—
كانت ظهيرة هادئة.
جلست سيينا أمام البحيرة الاصطناعيّة الضخمة في قصر الدوق الأكبر. ومع كلّ نسمةٍ كان عبيرُ أزهار الليلك – المزروعة بكثافة في أرجاء الضيعة – يغمر المكان.
وإذا بطفلةٍ صغيرة، لا تكاد تصل إلى خصرها، تركض نحوها من بعيد، فستانها الأصفر يتمايل. وما إن فتحت ذراعيها حتى ارتمت الطفلة في حضنها كما لو أنّ ذلك أَمْرٌ مألوف.
كان جسدها الصغير يفوح منه عبق الحلوى.
– ‘أمّاه، أبي اصطاد لي فراشة! فراشة زرقاء، بلون عينيك تمامًا.’
كانت الطفلة تعبث في حضنها، ثمّ جمعت كفّيها الصغيرتين ورفعتهما نحو وجه سيينا. وما إن فتحت يديها ببطء، حتى رفرفت الفراشة بأجنحتها البهيّة وطارت في الجو.
وعلى الرغم من أنّها لم تكن سوى فراشة عاديّة كثيرًا ما تُرى في الربيع، فقد سحرت الطفلة على نحوٍ غريب. وبينما كانت الأجنحة ترفرف وتبتعد، أطلقت الصغيرة صيحة إعجابٍ مبهورة، وعيناها البنفسجيّتان تتلألآن.
رأت سيينا ذلك فأحاطتها بذراعيها وقبّلت خدّيها الطريّين مرارًا. وبرغم دغدغة طفيفة، انفجر ضحك الطفلة بلا كبح.
وقد غمر ضحكها، مع دلالها في أحضان أمّها، أرجاء قصر الدوق الأكبر.
أحبّت سيينا كلّ شيءٍ فيها.
وبينما تضمّها إلى صدرها، كرّرت في نفسها مرارًا لا تُحصى عهدًا أن تذود عن هذه الطفلة فلا تذوق من أحزان الدنيا ولا من قهرها ما ذاقته هي.
وبينما سولييت تتدلّل بين ذراعيها، نظرت فجأةً في اتّجاهٍ ما وأشرقت ابتسامة على وجهها.
– ‘أبي!’
فالتفتت سيينا حيث تشير الصغيرة، فإذا شعرٌ ذهبيّ يتمايل مع الريح في البعيد. ولم تلبث عينان بنفسجيّتان كالتي للطفلة أن وقعتا عليها بابتسامة دافئة.
– ‘سيينا.’
وما إن سمعَت ذلك الصوت العذب – كالهمس – ينادي اسمها، حتى انفتحت عيناها.
فلم تستقبلها روعة قصر الدوق الأكبر، بل حجرة مظلمة. وأطبقت فمها وقد كادت تدعو باسم ابنتها. إذ عندها فقط تبيّنت الفرق بين الحُلم والواقع.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "11"