الفصل العاشر
الدير، المحاط بجدران حجرية، كان يلزم المرء أن يعبر ممرّاتٍ مفتوحة الجوانب لينتقل بين أجزائه المختلفة. ورغم أنّ هذا البناء كان يُعدّ عادةً ذا طابع آسرٍ أخّاذ، إلّا أنّه في مثل هذا الطقس العاصف بالرياح، بدا شرَّ البنيان وأسوَأه.
الريح التي عصفت بين الأعمدة لم تكن نسيمًا عاديًا. رفعت سيينا بصرها، فإذا بالغيوم الداكنة قد ابتلعت السماء الليلية.
لقد كان ذلك نذيرًا بمطرٍ غزيرٍ وشيك الانهمار.
ندمت إذ لم تحمل معها معطفها، فانكمشت كتفاها من البرد. ومع ذلك، فقد بدا لها أنّ الرجوع إلى غرفتها بعد أن بلغت هذه المسافة أمرٌ متعب لا طائل منه.
‘الأجدر بي أن أُسرع وأفرغ من الأمر ما دام قاعة الطعام قريبة بعد اجتياز هذا الممر.’
بهذا الخاطر، أسرعت في خطاها.
ولمّا اجتازت الممر وبلغت المبنى الأوسط، لم يرحّب بها سوى شموعٍ تتراقص ألسنتها بصمتٍ على الجدران، أمّا البهو فكان ساكنًا.
خيالها الذي خشِي وجود أُناسٍ هنا تبيّن أنّه كان وهمًا، ورؤية الممر الخالي قد أزاحت عنها ثِقَل القلق.
وكان ذلك إذ ولجت إلى المدخل بقلبٍ أخفّ وزنًا.
“أتظنّون أنّ جلالة الإمبراطور سيستدعي حقًّا الأميرة الإمبراطورية إلى العاصمة؟”
تجمّدت حركتها على وقع الصوت المتسرّب من الداخل.
—
ورغم أنّ قاطني الدير لم يكونوا كُثُرًا، إلّا أنّ البنيان كان فسيحًا واسعًا.
ذلك أنّه شُيّد أصلًا ليؤوي جميع الناس حين أودعهم الإمبراطور القديم – الذي حكم الإمبراطورية بغير رأفة – في هذا الموضع بلا تمييز. فنصفهم قضى نحبه إذ عجز عن احتمال قسوة المكان.
ولهذا السبب، كان في الدير مبنيان مهجوران غير المستعملين، يصلحان تمامًا لإيواء الجرحى وتطبيبهم.
“أغلب المعالجات ستُستكمل في غضون أسبوع”، قال المعالج مخاطبًا ديكلان وقد جاء ليتفقد المصابين.
“ومتى يقدرون على الحركة؟”
“سيحتاجون إلى شهرين من الراحة التامة ليعودوا إلى العافية. لكن، عوضًا عن انتظار شفائهم الكامل هنا، الأنسب أن نكتفي بالإسعاف الأوّلي، ثم نعود بهم إلى العاصمة حيث العلاج الأمثل.”
فمع أنّ في الدير بعض المعالجين، إلّا أنّ عددهم قليل، وظروفهم بالغة الضيق، والعلاج الذي يقدّمونه محدود جدًّا إذا قُورن بما في العاصمة.
“مع ذلك، إن ارتحلوا فورًا في حالهم هذه، فقد تتمزق جروحهم المخيطة. فالأولى أن يُقيموا ثلاثة أسابيع على الأقل لنراقب تقدّم شفاءهم.”
أومأ ديكلان بصمت.
كان في نيّته المقام شهرًا على كلّ حال، فلا تناقض بين قوله وقول المعالج. بل إنّ ثلاثة أسابيع تكفيه تمامًا ليتقصّى المسالك ويستطلع الطرق الآمنة المؤدية من لوبويل إلى العاصمة. لم يبقَ سوى تحديد السبيل للعودة.
ومن أجل ذلك، احتاجوا موضعًا للمداولة، غير أنّ أروقة الدير قد غصّت بالجنود. كانت هناك بعض الغرف الفارغة، لكنّها مهملة منذ زمن بعيد لا تصلح لجلوس أحد.
فأشار الكونت باستعارة قاعة الطعام كلّها من بعد العشاء إلى مطلع الفجر لتيسير الاجتماعات، وقَبِل الرئيس الكنسي دون اعتراض.
ولعلّ قبوله كان أقرب إلى الاستسلام منه إلى الرضا، بعد ما بدا عليه من خيبةٍ إثر الوليمة.
وبكل حال، كانت فكرة الكونت صائبة؛ فالمائدة الواسعة تكفي لبسط الخرائط المتعددة، وفضاء القاعة خالٍ من المارّة في الليل البعيد عن أوقات الطعام.
“يبدو أنّا نبلغ العاصمة في أسبوع لو سلكنا أسرع المسالك.”
“لكنّا أَولى بتجنّب المسالك الوعرة ما أمكن، فالمعالج قال: إن لم يُمنحوا قسطًا من الراحة الكافية، فالجروح المخيطة قد تنفتح.”
“صدقت. سأُعلم السير غايوس عند انبلاج النهار.”
كان الكونت يهزّ رأسه بوجه متجهمٍ جاد، ثم حوّل بصره إلى ثيو الجالس أمامه. وما إن أبصر وجهه الفارغ كأنّ الأمر لا يعنيه، حتى قطّب حاجبيه وقال:
“على ذكر ذلك، هل تنوي البقاء هنا إلى غير أجل؟”
“طبعًا، ما دامت صاحبة السمو مقيمة هنا.”
فما كان من الكونت إلّا أن ازداد وجهه تعقيدًا وهمًّا.
“أنت ما زلت من فرسان الإمبراطورية. أما ترى أنّ عودتك إلى العاصمة وانضمامك إلى حرس جلالته الشخصي أنفع لمستقبلك؟”
فعقد ثيو حاجبيه وقال:
“تكلّم بعقل. أيجوز أن أعود وحدي وأدع صاحبة السمو ها هنا؟”
“ولا يبدو أنّها تحتاج إلى مرافِق ما دامت مقيمة في هذا المكان. فلو جُلب فارس مبتدئ لكان كافيًا.”
فضحك ثيو ساخرًا، ثم التفت نحو ديكلان كمن يشتكي:
“مولاي، أترى كلامه ذا معنى؟”
“هممم…”
لكن حتى ديكلان خيّب أمله؛ إذ جاء صوته البطيء الممتد خاليًا من الاكتراث:
“لستُ أدري إن كان تمضية العمر هنا ستجديك خيرًا لمستقبلك، كما يقول الكونت. إنما هو تبذير لعُمرك في موضعٍ كهذا.”
“تبذير؟! حين تعود صاحبة السمو إلى العاصمة، سأعود أنا كذلك إلى الفرسان. ما عليّ إلا أن أصبر حتى يحين ذلك.”
ابتسم ديكلان وهو يتأمل الخريطة.
“أتظن حقًّا أنّ جلالته سيعيد الأميرة إلى العاصمة؟”
عندها بهت ثيو عن الكلام.
هل سيعيدها الإمبراطور؟ أمّا الواقع…
‘…كلّا.’
بيد أنّه لم يجرؤ أن يلفظ ما خطر بباله، فابتلعه في جوفه. فالكلّ يعلم كُره الإمبراطور للأميرة. وحتى لو استُدعيت إلى العاصمة، فلن يكون خبرًا سعيدًا.
رأى ديكلان صمته جوابًا بحدّ ذاته، فقال بصوت خافت:
“إن كنت تصبو إلى مقامٍ في الفرسان، فعودتك إلى العاصمة خير لك من كل وجه. فما تصنعه هنا لا يعدو خدمة صاحبة السمو، وذلك دون ما يليق بابن أسرةٍ كبرى كآل الكونت.”
لم يكن في منطقه خلل، إذ صاغه بلسانٍ رفيع، والكونت لم يفتأ يومئ برأسه موافقًا.
فغاظ ذلك ثيو، وألقى عليهما نظرةً حانقة قبل أن يوجّه كلامه إلى الدوق:
“لا أفهم لمَ تقولان هذا. أوَلم يذكّر الأسقف قُبيلًا أنّ كون صاحبة السمو منفية عن العاصمة ليس سببًا لاحتقارها؟”
عندها، رفعت العيون البنفسجية عن الخريطة ونظر إليه.
“قد تكون مولاتك الأميرة، لكن الذي يُمسك بخيط حياتك إنما هو الإمبراطور.”
ولو لم يعلمها غيره، فقد كان ديكلان أعرف الناس بهذه الحقيقة.
حتى وإن كانت وفاة طفله في حياته السابقة محضَ حادث، فقد كان الإمبراطور نفسُه من دمّر أسرة الدوق عن بكرة أبيها.
ولمّا اتُّهمت زوجته ظلمًا وأُعدمت بغير محاكمة عادلة، انهار ديكلان الذي كان قد تنحّى عن دهاليز السلطة. ولم يبقَ بين يديه يومها إلّا حياته نفسها.
“ولا أُغنيك بذكر الكونت، حتى صاحبة السمو ليست في مأمن من هذا الواقع. فجلالته ما زال يروم لها أن تُعزل عن الناس، وتُطوى في النسيان ها هنا، وما خطر بباله قطّ أن يظهر متغيّرٌ مثلك.”
فعقد ثيو جبينه متأبيًا:
“مولاي الذي عرفته لم يكن ليُسخّف معنى الوفاء.”
“الوفاء؟”
ضحك ديكلان ضحكةً قصيرة، وهو يدفع بيده شعره إلى الوراء. والبَسمة اليابسة التي علت وجهه الجامد، كانت كأنّه قد سمع دعابة في غير أوانها.
“لفظة رنّانة، غير أنّها لا تحميك.”
حتى الكونت بدا مصدوما من هذا الجواب غير المتوقع، فألقى عليه نظرةً متحيّرة. أمّا ثيو، فلم يشأ أن يسمع المزيد، فقال بلهجة حادّة:
“ما دامت صاحبة السمو هنا، فلستُ عائدًا إلى العاصمة.”
فعاد الدوق إلى خريطته وأجاب باقتضاب:
“إن كان ذلك رأيك، فلا أملك أن أُجبرك.”
فلم يجد الكونت بدًّا من الصمت بعد أن تراجع الدوق. لكنّه لم يُخفِ نظرته الحادّة التي رماها نحو ثيو. بيد أنّ هذا الأخير تلقّاها بوجهٍ منتصر وأعرض عنه، قبل أن يغيّر مجرى الحديث:
“على أي حال، حين يحلّ مولاي في العاصمة، سيكون موسم الحفلات في ذروته.”
إنّه زمن تفتّح ورود مايو، حين تبلغ حفلات المجتمع قمتها، من رقصاتٍ وولائمَ في البساتين، وهي الفرصة الكبرى للشبّان والفتيات البالغين كي يلتمسوا شركاء الزواج.
“سيُخيّب ظنّ رجال العاصمة، فحين تعود، ستخطف كلّ الأنظار.”
ذلك أنّ الدوق – كما تُذكر مآثره في ساح الوغى – تُذكر محاسنه في الهيئة.
فشَعره الذهبيّ المتموّج كأنّما صُبغ بماء الذهب، ووجهه البهيّ كتمثالٍ من كاتدرائية، كان بعيدًا عن صورة المحارب. بيد أنّ سَمتَه الزاهد البارد كان أنسب لهذا الدير منه لساحة القتال.
وحقًا، حين كان ثيو غلامًا، خطر له مرارًا أن يتساءل إن كان وريث أسرة الدوق فتاةً مُتنكّرة.
ومهما يكن، فما كان بين الناس منازع أنّ دوق مونفيراتو أبهى رجال الإمبراطورية وجهًا، لكنّه مع ذلك لم يبدُ يومًا مُكترثًا بالنساء.
“مولاي، لعلّك في هذه المرّة تعثر على شريكة تلائمك.”
قالها الكونت وقد كسر الصمت، وعلت وجه سيده مسحة امتعاض.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل "10"