1
أين كانت البداية؟
أعند تلك اللحظة التي أمسكتُ فيها على يد ذلك الرجل في دير الشمال؟ أم حين عدتُ إلى العاصمة، وقد أعمَت بصيرتي نارُ الانتقام من لحمي ودمي؟
أم لعلّ أصل الحكاية كلّه يكمن في حقيقة وجودي في هذا العالم منذ البدء، كأنما قد كُتب عليّ الشؤم كتابة؟
كما يفعل المحكومون بالموت ساعة يواجهون حتفهم، حاولت أن أتتبع خيوط حياتي الملتبسة إلى بدايتها، لكن جوابًا بيّنًا لم أظفر به.
فالناس ما أحبّوني مذ كنت أذكر، وما جنيتُ من تتبع أصل المصائب إلا شعورًا بالعجز.
ضيّقت عيني بضيقٍ من شعاع الشمس المتسلل من شقوق الجدار الحجري، ثم صرفت وجهي عنه سريعًا.
دفعتُ بجسدي إلى الركن لئلا يلسع النور عيني، فشعرت ببرودة الحجر الرطب تلامس مؤخرة رأسي.
كانت الزنزانة مبنيّةً بالحجارة، تعجّ برائحة الرطوبة، بلا نافذة صغيرة تُدخل ضوءًا صريحًا، ولا منفذٍ لهواء، فظلّ العفن يسكن هواءها.
هذا الموضع الكريه سينتهي غدًا.
كان في هذا الخاطر شيء من الراحة… فالموت الكامل غدًا أهون من حياةٍ تُداس فيها الكرامة وتُسحق الأنفاس. غدًا، سأنعتق من هذا الأسر البائس وأظفر بالراحة التي طالما حُرمتها.
رغم كل ما بذلت من جهدٍ لأتمسك بالحياة، انهار تعلقي بالعالم في ليلة واحدة، حين ماتت الطفلة… تلك التي كان وجودها وحده سببًا لاحتمالي حياةً كلّها أوجاع.
إذ ما من أحدٍ أحبني في هذه الدنيا سواها، ولستُ أجد في عالمٍ خالٍ منه ما يستحق التشبث به.
لا شيء يملأ فراغ الوقت في السجن. والتهم التي ألصقت بي كانت باطلة ظالمة، لكن بعد يومٍ أو يومين، حتى الغضب منها صار عبثًا.
لقد وجد جوزيف الفرصة الذهبية ليمحوني من الوجود، ولن يفرّط بها. فوجودي لطخة في شرعية عرشه، ومع غيابي سيصير إمبراطورًا بلا شائبة.
في مكانٍ لا يُصغي فيه أحد لصراخك، يأتي الاستسلام سريعًا. وفي اليوم الثالث من سجني، بدلًا من أن أصدح ببراءتي، سلّمت أمري للموت في صمت.
ولم أجد في ذلك بأسًا… فمع أنه موتٌ مُهين، فإن طفلتي تنتظرني في مكان آخر، وربما كان ذاك خيرًا من هذه الدنيا.
وحين يُحبس المرء في موضعٍ ضيّق بلا شاغل، تتفتح في ذهنه خيالاتٌ عاطلة. والسجين ليس بدعًا من ذلك.
انكمشت في الركن، وأخذتُ أتصور ما سيجري حين يُعلَّق عنقي غدًا في ساحة المدينة.
كان حديث الحرس المتقطع خارج الباب، وكأنهم يتعمدون أن أسمع، يغذّي خيالاتي: أخبار عن النساء اللواتي تُنسج الشائعات حولهن مع الدوق الأكبر، زوجي، وقصص عن “أدلة” جديدة تثبت جرائمي، وأحاديث فارغة من المعنى.
قالوا إن أهل المدينة خارج الأسوار يحتفلون قُبيل سقوط رأس “تلك المرأة الشريرة”، وأن البلاط الإمبراطوري لا يختلف عنهم في ذلك.
لا شك أن ماريان وجوزيف الآن يرفعان كؤوسهما ابتهاجًا… أليس موتي غاية ما تمنياه في حياتهما؟
سهُل عليّ أن أتخيل وجهيهما تلمع فيهما ابتسامة النصر وهما يشهدان عنقي معلّقًا في الساحة.
لكن… ما شأن ذلك بي؟
سواءً شمتوا أم أشفَقوا، فلن يبدل من الأمر شيئًا. لم أنل رحمةً ولا رأفةً في حياتي، فلن أجدها بعد مماتي.
إلا أن وجهه خطر في خاطري… ذاك الرجل النبيل، الذي ما اهتزّ قلبه أمام أي نازلة.
هل سيفرح؟
لا، ليس هو من طينة الرجال الذين يضحكون لموت أحد. لكنني أنا التي جلبت العار الأكبر إلى حياته المكلّلة بالشرف والمجد، وأنا السبب في موت ابنته الأثيرة. فحتى إن لم يضحك، لعلّ صدره ينشرح سرًّا.
غامت عيناي وأنا أحدّق في بقعة الضوء على الأرض. كان هذا الخاطر أوجع من فكرة الموت نفسه… أن أرى ردّ فعله بعد موتي.
هل سيبتسم؟ أم سيشعر بذرةٍ من الشفقة؟
غصت في هذه الهواجس، وعانقت ركبتيّ، ودفنت وجهي فيهما.
ليت النهار يفرغ سريعًا… فالروح إذا فارقت العالم لن تعرف مثل هذه الأحاسيس.
لا أدري كم مضى من الوقت، حتى سمعت صرير بابٍ حديدي يئن صدأه.
الحراس لا يأتون إلى زنزانتي إلا بالطعام، فلابد أن وقتًا طويلًا قد مضى.
أدرت رأسي بفتور، ووجهي ما زال غائصًا في ركبتي. ومن خلال شعري الأسود المبعثر رأيتُ ظلًّا يقترب. لكن ثمة شيء غريب…
فبدل الزي العسكري الرث المعتاد، كان يرتدي ثيابًا فاخرة، وبَدَا جسده النحيل مختلفًا عن قامة الحرس القصيرة البدينة.
وحين وقعت عيناي على الخاتم في يده، اتسعت عيناي فجأة، ورفعت رأسي بحدة.
وفي اللحظة التي التقت فيها نظراتنا، نسيت كيف أتنفس… لم يكن الداخل حارسًا، بل زوجي.
ظننتُ أنه لن يأتي…
هو الذي كان محطمًا مثلي حين فقدنا ابنتنا، عاد اليوم بطلّته الكاملة، لا نقص فيها.
وحين مسّت عيناه البنفسجيتان وجهي، أدرت بصري سريعًا، وأدركت متأخرةً كم أبدو في هيئة بائسة.
أما هو، فبقي كامل الأناقة، جميل الطلعة، يتقدم نحوي بخطوات واثقة كما عهدته دومًا.
كان هادئًا إلى حدٍ أثار بقايا كبريائي الجريحة: أيليق برجل زوجته تُعدم غدًا أن يبدو بهذه البرود؟
“لِمَ أتيت؟”
انفلتت مني العبارة ببرود، وإن لم أعنِها تمامًا. لكنه، وقد ألف جفائي، لم يرد، بل ثبت نظره في وجهي.
تلاقت نظراتنا على نحو مائل، حتى قال أخيرًا:
“لقد انتهى دفن سولييت. ووريَت في مقبرة العائلة بالدوقية، في أكثر بقعةٍ تنال الشمس. لعل هذا يرضيك.”
أطلقت ضحكةً يائسة من كلماته الجافة… ما جدوى هذا الخبر وأنا لا أستطيع أن أضع زهرة أقحوان واحدة على قبر طفلتي؟ ولا حتى أن أُدفن إلى جوارها بعد موتي.
لقد عشتُ ما لا ينبغي لأمّ أن تعيشه: أن أدفن ابنتي، وأن يُقال عني قاتلتها، ثم أن أُحرم حتى من جوارها في مثواها الأخير.
كانت سولييت تكره البرد… كيف أطيق أن أتصورها ترقد في التراب البارد؟ كان الأجدر أن أكون أنا في مكانها…
“أتسخر مني؟”
خرج صوتي ضعيفًا بعد أيام من الجوع.
“لقد جردني جوزيف من كل ألقابي.”
“…”
“ولم يكتفِ بخفضي إلى مرتبة ابنة غير شرعية، بل جعلني عشيقة لك.”
لم يكن محوي من شجرة العائلة الإمبراطورية يعني لي شيئًا، أما إسقاط اسمي من سجل عائلة الدوق، فذاك أمر آخر.
فإذا بطل زواجي منه، أفلا تصبح ابنتي الميتة ابنةً غير شرعية؟ لقد فقدت أنا كل شرف، لكن شرفها لا أحتمل أن يُدنّس.
“أحسب أن الجميع سيهنأون برحيلي… جوزيف، وماريان، وتلك الحشرات… وأنت أيضًا.”
رفعت بصري إليه. كان واقفًا كسارية شجر، يحدّق بي.
لقد خطّت السنون خطوطها في وجهه منذ لقائنا الأول، وبدا أنحف قليلًا مما في ذاكرتي. تحلّقت التجاعيد حول عينيه، وشاب ذهبه الشعري، لكنه بقي وسيمًا أخّاذًا.
ابتسمت في داخلي بسخرية… لطالما كان محطّ أنظار النساء، وحتى بعد موتي سيغرق في غزل المعجبات.
ولعل ذلك حقّ طبيعي لرجلٍ أوتي مالًا وشرفًا وجمالًا، لا سيما وهو بلا وريث ذكر يحمل اللقب.
كنت أعيش في قلق دائم لهذا السبب، خاصة بعد أن أنجبتُ طفلًا ميتًا وقيل لي إني لن أحمل ثانية. وما إن شاع هذا حتى ازدادت جرأة النساء في التودد إليه.
وإن كان امتنع عن اتخاذ عشيقة من أجل مكانة طفلتي، فما من داعٍ لذلك بعد الآن. فقد منح الإمبراطور بيده فسخ زواجنا، وبات سجله ناصعًا من اسمي. ولعله لن يطول حتى تتحول مخاوفي إلى واقع.
بمجرد اختفائي، سيتخذ زوجة أخرى، ويعيش وكأن شيئًا لم يكن.
فكرتُ في هذا، فغلت مرارتي.
“لطالما كانت هناك نساء يتمنين قربك، فلن تجد مشقة في الزواج ثانية. وستلد لك وريثًا ذكرًا على الأرجح. أبارك لك سلفًا.”
فقال من علٍ بصوتٍ بارد:
“لقد صار استغراقك في الشفقة على نفسك داءً عضالًا.”
كان نظره إليّ من مسافة قريبة، أشد برودةً من صوته.
“حتى لو لم تقولي ذلك، فالاحتفال على قدمٍ وساق في الخارج… وفي القصر أيضًا.”
فلويت شفتي وأنا أعض باطنها، تحت وقع صوته الخالي من كل انفعال.
꧁꧁꧁꧁꧁꧂꧂꧂꧂꧂
قناتي على التيليجرام
https://t.me/+UUp7ErDyHDw1NTZk
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"