6. كيفية التوقف عن كونك مثيرا للمتاعب (٧)

 

 

“إذاً؟ هل ستبقين هنا؟”

 

“نعم. لا بد من جمع البيانات.”

 

“وماذا عن ناهيون؟”

 

عند سماع ذلك، التقت نظراتها بعيني أخيرًا. ثم حدثتني بنبرة هادئة.

 

“ناهيون، أمكِ ستحمي الناس من خلال أبحاثها.”

 

تحمي الناس؟ أنتِ من كنتِ تبتسمين بوجه مشرق قائلة إن انفجار البوابة كان أمرًا جيدًا؟

 

“وأريد أن أترك اسمي في سجل التاريخ.”

 

شعرت بألم ينبض في رأسي.

 

“لذا أعتقد أن عليّ الابتعاد عنكِ قليلًا، ناهيون.”

 

هززت رأسي بالإيجاب، مطاوعة لها.

 

منذ أن وُلدت من جديد، عشت وأنا أعتبرها “أمي” دون كثير من التفكير.

 

كانت مجرد أم عزباء تهتم قليلًا بالبحث. صحيح أنها كانت تنشغل كثيرًا بعملها وتغفل عن تربيتي أحيانًا، لكنها في نظري ظلت أمًّا حنونة.

 

“هل ستأتين إلى المنطقة الوسطى بصفة شخصية إذًا؟”

 

“نعم. إن أتيت بصفتي باحثة، فسيعاملونني على أنني شخصية مهمة ولن يسمحوا لي بالتحرك بحرية هناك. لذا سأتردد إليها بصفتي الشخصية، وسأستعين بصيادي الوحوش على نفقتي الخاصة.”

 

“فهمتِ… هيا بنا، أيتها الصغيرة.”

 

كنت أتشبث بكتف تشوي غارام، وأراقب “أمي” وهي تبدأ محادثة جديدة مع شخص آخر.

 

كانت… وكأنها مسحورة بشيء ما.

 

في ذلك اليوم، ولأول مرة، واجهت حقيقة أن هناك ما هو أثمن مني في حياة “أمي”.

 

“….نعم.”

 

بالطبع، لم أكن طفلة حقيقية حديثة الولادة، لذا لم يؤلمني ذلك كثيرًا.

 

فقط، فقط…. بدا وكأنه اكتشاف جديد. لا أكثر. صدقًا.

 

“أمكِ، كما تعلمين، مهووسة بالبحث. لهذا تتصرف هكذا.”

 

قالت تشوي غارام، وهي تربت على رأسي.

 

ثم، وأنا متشبثة بها، غفوت بهدوء.

 

ربما بسبب الأحداث المفاجئة والخطرة التي مررنا بها، كان الإرهاق شديدًا، وغلبني النعاس سريعًا.

 

شعرت وكأن كل شيء سيكون أفضل بمجرد أن أستيقظ.

 

***

 

– تأكيد ظهور وحش متحول إلى هيئة إنسان (دوبلغانغر). توخّوا الحذر.

 

– يُمنع مرور أي مركبة عبر الحواجز باستثناء المركبات المخولة رسميًا.

 

– حتى المركبات المخوّلة رسميًا يجب أن تخضع لتفتيش دقيق.

 

 

“يبدو أن تلك هي التعليمات التي صدرت مؤخرًا. لقد اجتزنا الحاجز بصعوبة.”

 

“أها، يجب أن نُعلِم آهيون بذلك.”

 

قضيت الأيام الماضية في الملجأ الذي تقيم فيه تشوي غارام.

 

وقد بدا أنها قررت العمل مؤقتًا كصيادة في المنطقة الوسطى، فاستقرت قرب الحاجز.

 

ومع أن نظرات الآخرين كانت تلاحقني كلما تنقّلت في هذا المكان الأفضل من الملجأ العادي، فقد اعتدت على الأمر. 

 

واعتدت أيضًا على مشهد صفوف اللاجئين خلف النافذة.

 

“ألن تأتي أمي إلى هنا؟”

 

عندما سألتها، حكت تشوي غارام رأسها وقالت بنبرة عادية.

 

“لا بأس، سيكون الأمر على ما يرام. طالما تم القضاء على المتحولين الى البشر في وقت مبكر، فلا مشكلة.”

 

“لكن… إن فشلوا في القضاء عليهم مبكرًا، فستحدث كارثة حقيقية.”

 

“لا أحد سيفشل في ذلك إلا إن كان غبيًّا حقًا!”

 

“صحيح، معكِ حق!”

 

ضحكت تشوي غارام وصديقتها وهما تتحدثان بلا مبالاة، مسترخيتين تتابعان الأخبار.

 

“لكن ماذا عن أسعار البيوت هنا؟”

 

“في منطقة خطر كهذه؟ وهل هذا وقت التفكير في أسعار البيوت؟”

 

وبسبب هذه الأجواء، اطمأن قلبي. بدا وكأن الأمر ليس بخطير.

 

لكنني أدركت أنه لم يكن كذلك… بعد بضعة أيام فقط.

 

“أوقفوه!”

 

“أطلقوا النار!”

 

ساد الصخب في كل مكان.

 

حتى الغرفة التي أقيم فيها، القريبة من الحدود والبُعد الفاصل، لم تسلم من هذا الضجيج.

 

– زيز… زيز…

 

صدر صوت مشوش من جهاز الاتصال الاحتياطي الذي تركته تشوي غارام خلفها.

 

– زيزز… أكرر. تأكيد انتشار الدوبلغانغرز.

 

حبست أنفاسي بصمت.

 

– يجب إيقاف أي تحرّك عبر الحاجز، مهما كان.

 

إيقاف التحركات؟ لكن أمي لم تعبر بعد من المنطقة الوسطى!

 

– في حال محاولة عبور الحاجز بالقوة، سيتم إطلاق النار فورًا وبلا تردد.

 

لكنها قالت إنها ستعبر اليوم، أليس كذلك؟

 

نزلت بهدوء من السرير، وارتديت معطفي.

 

كان عليّ التأكد من الوضع في الخارج.

 

– ززز… نحتاج تعزيزات…

 

أمسكت بجهاز الاتصال في يدي، وخرجت من المنزل بخطى حذرة.

 

ما إن خرجت، حتى باتت الضوضاء أكثر وضوحًا.

 

بانغ! بانغ! بانغ!

 

“اقتلوه! إنه دوبلغانغر!”

 

“لا! لستُ كذلك!”

 

“أرجوكم… أنقذوني! إنه وحش!!”

 

اجتاحتني قشعريرة مرعبة تسلّلت على طول عمودي الفقري.

 

أمي… ماذا حدث لأمي؟

 

تقدمت ببطء، أتحسس زاوية الجدار بحذر. وعندما وجهت نظري أخيرًا نحو الحاجز، رأيت الجحيم.

 

خلف الأسلاك الشائكة، كانت الوحوش تختلط بالبشر.

 

الوحوش تمزق الناس وتدهسهم وهي تضحك، والناس يفرون منها زاحفين باتجاه السياج.

 

أما الواقفون أمام السياج، فقد سقطوا وتدافع عليهم الآخرون، فداسهم الجميع حتى ماتوا…

 

تناثر الدم، وبدا اللحم الأحمر جليًّا.

 

“ناهيون!”

 

ومن خلف الحاجز، رأيتُ أمي تمد يدها نحوي.

 

خلف أمي، كان هناك شخص، أو بالأحرى مخلوق اتخذ هيئة إنسان لكنّه يحمل ذراعَ وحش، يمد مخالبه نحوها.

 

بانفجار طلق ناري!

 

سُمع صوت الرصاصة، وسقط الوحش.

 

ورأيتُ أمي تقترب نحوي.

 

“أمي…!”

 

نزعت يدي عن زاوية الجدار، وتقدّمت بخطى مترددة نحو الحاجز.

 

ثم انطلقت رصاصة أخرى.

 

ورأيتُ أمي تنهار.

 

أمي…

 

…أه؟ غريب…

 

لماذا تنزف أمي من رأسها؟

 

لم تكن تتحرّك.

 

كان المشهد يبدو غير واقعيّ إلى درجة أنني أصبتُ بالذهول.

 

تكوّمت جثة أحدهم فوق جسد أمي المنهار. وبدأ الناس يصرخون.

 

“أنقذونا!”

 

“موتوا جميعًا!”

 

البشر يقتلون بعضهم، بالوحوش، وبالرصاص.

 

ذلك المنظر دفعني للتقيؤ.

 

“أووغ!”

 

تقيأتُ بشدة كل ما في جوفي.

 

خرج وحش فجأة من بين الناس الذين يبدون طبيعيين. خمّنتُ على الفور أنه هو الدوبلغينغر.

 

“لا نعرف من هو الدوبلغينغر! اقتلوهم جميعًا!”

 

“ادفعوا للأمام! على أية حال، سنموت كلنا هكذا!”

 

حينها أدركتُ أن الدوبلغينغر ما هو إلا وحش يرتدي قناعًا بشريًّا.

 

أردتُ أن أشيح بنظري عن ذلك المنظر، لكن لم أستطع.

 

ولم يكترث أحد لي. كان الجميع منشغلين بشؤونهم.

 

الجنود يحاولون الدفاع، والناس خلف الحاجز يقاتلون من أجل النجاة.

 

“اقتلهم!”

 

“أطلقوا النار!”

 

“ادفعوا!”

 

“أنقذونا!”

 

ومن خلف الناس، ظهرت موجة جديدة من الوحوش. فاشتدّت محاولات الناس لعبور الحاجز.

 

كانت معركة ضارية.

 

ولم ينتهِ كل شيء إلا بعد أن تراكمت الجثث، وانساب الدم على الأرض مشكلًا مجرى صغيرًا.

 

“أووغ.”

 

تمسّكت بمعدتي التي لم يعد فيها ما أتقيأه.

 

وبينما كان الليل يرحل، بدأت الشمس تطلّ من بعيد. وبعض الناس بدأوا يتحرّكون للتنظيف والتعامل مع ما بعد الكارثة.

 

“أيتها الصغيرة، ماذا تفعلين هنا؟”

 

سمعت صوت تشوي غارام. وما إن سمعته حتى انفجرتُ بالبكاء.

 

“أمي… أمي…”

 

“آه، ماخطبُ آهِيون؟”

 

“أمي ماتت…”

 

“….ماذا؟”

 

سألتني بصوت مرتجف، وكأنها لم تكن تعلم، لكن جوابي لم يتغير.

 

فركضت تشوي غارام نحو الحاجز، وصرخت بأعلى صوتها.

 

“كانغ آهِيُون! أين أنتِ يا كانغ آهِيُون؟!”

 

لكن الموتى لا يجيبون.

 

***

 

قيل إن كارثة الدوبلغينغر كانت نتيجة إهمال القائد المسؤول عن العملية، ما أدى إلى خسائر فادحة.

 

لكن لم يكن لذلك أي أهمية.

 

ما بدا جليًّا أمام أعيننا، لا، أمام عيني أنا، هو أن كل من كان خلف الأسلاك الشائكة قد مات.

 

الجنود كانوا يصيحون مبررين تصرفاتهم بأن كل أولئك ربما كانوا وحوشًا، وهم يتظاهرون بأنهم ينسون الحقيقة عبر الشراب.

 

لكنّ كثيرين لم يستطيعوا تصديق ذلك، وانتهى بهم الأمر إلى الجنون.

 

الناس الذين كانوا ينتظرون عائلاتهم خلف الأسلاك، أخذوا يقلبون الجثث، متمنين ألّا يكون أقاربهم من بين القتلى، ومع ذلك، يرجون أن يجدوا ولو جثثهم.

 

أما تشوي غارام، فقد عاشت لفترة وهي شاردة الذهن بعد موت أمي، ثم بدأت تركض يمينًا ويسارًا لإنهاء أعمال البحث والمشاريع التي كانت تديرها أمي.

 

وأما أنا…

 

فقد تُركت في أحد ملاجئ الناجين، في مكان يعتبر آمنًا نوعًا ما.

 

“ناهيون تعيش في ذلك المبنى الكبير، أليس كذلك؟ يا لحظّكِ!”

 

كان ذلك مكانًا مخصصًا لأشخاص مختلفين عن العامة، ممن يملكون شيئًا من النفوذ أو القوة.

 

يبدو أن تشوي غارام اعتقدت أنني ناضجة كفاية، وأنه لا بأس بتركي وحدي ما دام المكان آمنًا.

 

ربما لم يكن ذلك الخيار المثالي، لكن بين طفلة صديقتها ومسيرة حياتها المهنية التي بنتها مع صديقتها على مدار عمرٍ كامل، لم يكن من السهل الاختيار.

 

كان ذلك أقصى ما يمكن تسميته بـ”الحل الوسط”.

 

وأنا… لم أكن أملك سوى أن أُخفّف عنها.

 

“نعم، صحيح. أنا أعيش هناك.”

 

“يبدو أن والديكِ شخصيتان عظيمتان!”

 

“لقد مات كلا والديّ.”

 

“آه… آسفة…”

 

ومع ذلك، كنت أعلم أنني سأتعرّض للخطر لاحقًا.

 

كنت أعبث بجهاز الإشارة الذي تركته لي تشوي غارام، وأعتني بالأطفال الآخرين في المأوى.

 

“لا بأس.”

 

لستُ بطفلة صغيرة. ما دمتُ أعتني بنفسي، فلا بأس.

 

لكن سرعان ما تبيّن لي أن ذلك كان تفكيرًا ساذجًا.

 

لقد استهنتُ بالوضع الأمنيّ المُنهار من حولي.

 

في هذا العالم، طفلة تسير وحدها هي فريسة سهلة.

 

“…ماذا أفعل الآن؟”

 

نسيتُ تلك الحقيقة، وكانت النتيجة ما أنا فيه الآن.

 

ضغطتُ بشدة على زر الإشارة داخل جيبي.

 

كان رجال مخيفون يحيطون بي.

 

“يا لها من فتاة لطيفة.”

 

“ستُباع بسعر جيد، أليس كذلك؟”

 

ثم أمسكتني أيدي الرجال الضخام بقوة.

 

قاومتُ، لكن لم يكن لي طاقة لمواجهتهم.

 

شعرتُ بضربة قوية خلف رأسي، ثم غطّى الظلام كل شيء.

 

***

 

حين فتحتُ عيني من جديد، كنتُ داخل سيارة تهتزّ، مُكبّلة اليدين والقدمين.

 

كانت السيارة مظلمة وصامتة. لكنني استطعتُ سماع حديث واضح بين من في المقعد الأمامي.

 

“وماذا عن جهاز الإشارة؟”

 

“آه، ذاك؟ كان يرسل إشارة للجنود الأقرب إليه. لذلك، أعطيتُ بعض المال لمن جاء منهم، وطلبتُ منهم أن يلتزموا الصمت. لذا، لن يعرف أحد إلى أين ذهبنا.”

 

لكنها أخبرتني أنه يتصل بها بمباشرة…

 

كاذبة.

 

لكن على الأرجح، ما قالته تشوي غارام لم يكن كذبًا كاملًا. فربما كان الجهاز يتصل بالجنود الأقرب، الذين يبلغونها لاحقًا.

 

وربما قالت ذلك لتطمئنني فقط.

 

نعم، إذا تم التواصل مع جندي، فلا بد أنه سيخبرها، إذًا لم يكن الأمر كذبًا محضًا.

 

لكن…

 

‘إن ضغطتِ عليه، سأصل فورًا، لذا لا تقلقي!’

 

لكن…

 

…يا لي من حمقاء. لستُ طفلة صغيرة.

 

لا وقت للسماح بالحزن بالتغلب عليّ، يجب أن أفكّر بطريقة للهرب.

 

“أ…أنتِ هناك…”

 

وبينما كنتُ أُفكّر فيما يمكنني فعله، سمعتُ صوتًا رقيقًا يناديني من مكان قريب.