5. كيفية التعامل مع الحالات غير الطبيعية (٥)
حين تعيشين كيتيمة، يتكرر أن يعاملكِ الآخرون وكأنك أدنى منهم شأنًا.
الشفقة، السخرية… لقد سئمت تلك النظرات المتعالية.
“بصفتي طالبة في أكاديمية الحُماة، أطالب بأن نُعامَل بما يليق من احترام من قِبَل مسؤولة التدريب الميداني.”
أردت أن أطالب بما أستحق، بما أستطيع أن أطالب به.
قد لا يكون هذا هو سلوك الفتاة المهذبة التي كنت أُمثّلها حتى الآن، لكن يبدو أن غياب المحتال عن جانبي جعلني أخفّ توترًا.
سادت لحظة من الصمت بعد كلامي، ثم أجابتني شين بارِن:
“معكِ حق. يبدو أنني كنت مخطئة في حكمي.”
تلاقت نظراتنا، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، وقالت.
“أُعوّل عليكما، كانغ ناهيون، مين جاي يون.”
ثم استدارت وصاحت.
“سأقودكم إلى السكن! اتبعوني!”
سرنا خلفها بصمت، متجاهلين نظرات الصيّادين الآخرين المليئة بالتحفّظ.
“ما الذي تفكر فيه السيدة إغدراسيل؟”
“رغم أن حالتها أصبحت أكثر استقرارًا مؤخرًا، إلا أنها لا تزال… من نسل التنين الأسود…”
راح الصيادون المحيطون يتهامسون عن مين جاي يون، ولم تكن همساتهم بنبرة طيبة.
وفوق هذا كله، التقت عيناي مع ذلك الوجه المألوف جدًا، الذي كنت قد رأيته خلف شين بارن في وقت سابق.
لوّح لي بيده وكأن شيئًا لم يكن، لكنني تجاهلته تمامًا. لم يكن وداعنا جميلًا، فلا عجب أنني لا أرغب برؤيته مجددًا.
لا بد أن غضبي المفاجئ قبل قليل كان بسببه… بسبب ذكريات الماضي التي استيقظت فجأة في ذهني حين رأيته.
بينما كنت سارحة في هذه الأفكار، اقترب دمدم مني بهدوء وهمس.
“كنتِ رائعة. ويسعدني أنكِ أصبحتِ أكثر راحة مما كنتِ عليه في السابق.”
ثم ناولني حقيبة طويلة الشكل.
“هدية.”
“آه، شكرًا لكَ.”
ابتسمت له وأنا آخذ الحقيبة بامتنان، لكن كلماته المقتضبة لم تفارق بالي.
كنت أتوقع منه أن يقول إنني صرت غريبة، أو أن تصرفي لا يُشبهني.
“كفّي عن التلكؤ واتبعينا!”
بصراحة، ربما فعلاً خفّف غياب المحتال من توتري أكثر من اللازم. يجب أن أستعيد رباطة جأشي.
تخلّصت من أفكاري، وعلّقت الحقيبة على كتفي، ولحقت بالصيادين.
لم تمضِ فترة طويلة حتى وصلنا إلى السكن.
شين باران، التي بدت شاحبة طوال الطريق، تنفّست الصعداء أخيرًا حين غادرت شين بارن المكان.
لحسن حظي، كانت شين باران متوترة بما يكفي لتغفل عن تصرفاتي الغريبة.
كان من المقرر أن أشارك الغرفة مع مين جاي يون وشين باران.
وعندما ذهبت مين جاي يون إلى الحمّام، بدأت بترتيب أمتعتي، وسألت شين باران لأتأكد.
“بالمناسبة… القائدة هي أختكِ، أليس كذلك؟”
أجابت بابتسامة باهتة.
“نعم، إنها أختي.”
ثم بدأت تبرر كما لو كانت تحاول الدفاع عنها.
“هي فقط… شديدة بعض الشيء، لكنها قوية، وليست شخصًا سيئًا…”
فابتسمتُ لها وقلت:
“أجل، تبدو مذهلة. إنها هي، أليس كذلك؟ صيادة صاعدة! قائدة النور شين بارن! رأيتها في التلفاز!”
في الحقيقة، عرفت ذلك من الرواية.
أشرق وجه شين باران وقالت بحماسة.
“نعم! أختي رائعة جدًا!”
ثم انطلقت تمدح أختها بفخر وهي تضحك ملء وجهها.
“منذ أن كنّا صغيرتين، كانت دائمًا أفضل مني في كل شيء! كانت بارعة في أي شيء تفعله! ولهذا—”
وكان الحماس في كلامها شديدًا لدرجة أن مين جاي يون، التي كانت تعانقني على الفور في الأحوال العادية، قررت أن تبتعد بهدوء، وكأنها تخشى الاقتراب.
يا لها من لحظة نادرة. يبدو أن استقلاليتكِ بدأت تنمو، يا جاي يون. هذه الأخت فخورة بكِ…
كنت أبتسم بهدوء، أستمع إلى نصف كلامها وأترك النصف الآخر يمر من أذني دون توقف، حين سُمع صوت طرق خافت على الباب.
“كانغ ناهيون، هل أنتِ هنا؟”
ذلك الصوت… كان مألوفًا جدًا.
ربما لاحظ شين بارن أن ملامحي تجمّدت قليلًا دون قصد، فسألني “ما بكِ؟” فأجبتها بأنه لا شيء.
ثم استدرت نحو الصوت الذي كان يناديني.
تشوي غارام.
صديق أمي المتوفاة.
وأيضًا…
…لا، لا يجب أن أفكر في هذا الآن.
“أنا هنا، ما الأمر؟”
“قائدتنا تطلبكِ.”
“القائدة؟”
“أقصد الصيادة شين بارن.”
لماذا تطلبني شين بارِن؟ شعرت بالارتباك، لكنني خرجت من الغرفة.
غير أن الرجل لم يتحدث قط، بل ظل يسير بي بصمت لمسافة طويلة.
سادت بيننا أجواء محرجة إلى أن توقف فجأة، وقال.
“مرت فترة طويلة، أليس كذلك، أيتها الصغيرة؟”
“…نعم.”
ثم بعد لحظة صمت، سألته.
“هل انتهيت من كل ما كنتَ فيه؟”
“أجل. ولهذا أتيت إليكِ بلا خجل.”
“اعتقدت ذلك” قلت بهدوء.
“إذًا، تعالَ لزيارتي في أي وقت.”
ابتسم بخفة، ثم وضع قبعته ليخفي وجهه، وبدأ في السير مجددًا، وهمس بصوت بالكاد سُمع وسط الرياح.
“…حسنًا.”
شعرت أن قلبي أصبح أخف قليلًا.
لكنّه باغتني مجددًا بسؤال مباغت.
“لكن، تبدو تصرفاتكِ قد تغيّرت. أم أنكِ تتصنّعين هذا؟”
كأنه هاجمني نفسيًا! شعرت بالارتباك وسعلت على نحو متصنّع.
“…كح، كح. أرجوكَ تجاهل الأمر. لدي أسبابي الخاصة.”
ضحك ضحكة خفيفة وكأنما يسخر، ثم هزّ كتفيه قائلًا.
“حسنًا.”
لم يضف شيئًا بعد ذلك.
سرنا بصمت حتى توقف أمام باب ما، وأشار إليه قائلًا:”هنا”، ثم اختفى فجأة.
ترددت لثوانٍ، وحينها ظهرت أمامي نافذة النظام:
[تم رصد وجود أوراكل بالقرب من مستخدم النظام الميتا.]
[يبدأ تحليل العناصر لأجل التحديث.]
[يتم تحليل مسار البث اعتمادًا على شظايا القصة التي تم اكتسابها سابقًا.]
ظهرت أمامي نافذة غريبة تحمل هذه الكلمات.
أوراكل!
لم يكن موجودًا في اللعبة الأصلية، لكنه ظهر في رواية قائد من الفئة F في الأكاديمية بصفته أحد شركاء المحتال.
شعرت أنفاسي تُحبس.
وفي اللحظة ذاتها…
“ادخلي.”
جاءني صوت هادئ من خلف الباب.
ليس أمامي خيارات كثيرة. كنت مشدودة الأعصاب، لكنني مددت يدي وفتحت الباب.
داخل الغرفة،
“تشرفت بلقائكِ، أيتها الإستثنائية.”
كان هناك من يجلس مستخدمًا جسد شين بارن… أو بالأحرى، من تسلّل إلى جسد شين بارن.
“أنا أوراكل. حامي هذا العالم.”
كنت أقف ممسكةً بمقبض الباب، متحفّظة تجاه الأوراكل المتلبّس بجسد شين بارن.
عندها ابتسم الأوراكل بلطف وقال بنبرة هادئة.
“اجلسي، رجاءً. لا أنوي إيذاءكِ.”
تظاهرتُ بالجهل وسألت.
“من أنت؟ ولماذا جئت إليّ؟”
عندها ارتشف الأوراكل رشفة من الشاي بهدوء، ودوّر الفنجان بين كفيه.
“لقد أجبتُ سلفًا عن من أكون.”
عينان تشعّان بضوء غريب التمعتا وهما تتجهان إليّ.
“أما عن سبب مجيئي، فأنتِ تعرفينه تقريبًا، أليس كذلك؟ أيتها الروح القادمة من عالمٍ آخر.”
كما توقعت. كان يعلم.
بل وأكثر من ذلك، كان يعرف أنني على دراية بشيء ما.
لكني لم أتفاجأ. فالأوراكل يستطيع أن يرى ويسمع كل ما يجري في هذا العالم، باستثناء ما بداخل الأبراج والبوابات.
“أكرر مرة أخرى، لا أنوي إيذاءكِ. اجلسي.”
“……”
أنا الآن حليفة للمحتال، والمحتال يُبدي لي نوعًا من المودّة.
ولا شكّ أن الأوراكل على علم بذلك.
بما أنه يسعى للحفاظ على علاقة ودّية مع المحتال، فلن يؤذيني ما دام هو يُكنّ لي مشاعر طيبة.
سأعتمد على هذه الفرضية أولًا.
حدّقتُ بالأوراكل للحظة، ثم تركتُ مقبض الباب واقتربت لأجلس على الأريكة المقابلة له.
“ما الغرض من زيارتك؟”
اتّسعت عينا الأوراكل قليلًا، ثم ضحك بخفة.
“أنت مستعجلة.”
“نحن لسنا في موقع يسمح لنا بتبادل الأحاديث اليومية، أليس كذلك؟”
أجاب الأوراكل ببرود مدروس.
“لكن قد نصبح كذلك، إن واصلتِ التعاون مع لاعبنا.”
“…… تقصد بـ’اللاعب’ نا يوهان؟”
سألتها عن أمرٍ طالما راودني كاحتمال. فأجاب الأوراكل ببساطة.
“نعم. هو الشخص الذي استدعيناه من العالم الآخر من أجل تطهير هذا العالم. هو لاعبنا.”
صمتّ للحظة، ثم سألتها سؤالًا آخر.
“وماذا عني؟ تدعوني إستثنائية، فهل هذا يعني أنكم لم تستدعوني؟”
“أنتِ لم تُستدعيْ من أي طرف. بل وصلتِ إلى هذا العالم بالصدفة البحتة، كمتغيّرة غير محسوبة.”
“……آه، هكذا إذًا.”
كنت أظنّ أن الأوراكل قد بكون هو من استدعاني إلى هذا العالم لأجل غاية ما.
لكن يبدو أنني لم أكن استجابة لنداء قدري أو رسالة عظيمة…
بل مجرد شخص انزلقت قدمه ووصل إلى هذا العالم عن طريق الصدفة.
شعرت بخيبة أمل جديدة وهي تطفئ آخر بقايا الأمل الذي حملته بشأن سرّ ولادتي من جديد.
“هل تشربين الشاي؟”
ناولَني الأوراكل فنجانًا وسكب لي الشاي. تصاعد البخار الدافئ في الهواء.
حدّقت في صورتي المنعكسة على سطح الشاي.
هذا الوجه، الذي تغيّر كثيرًا عن حياتي السابقة…
أنا التي وُلدت هنا بالصدفة، وسرت حتى الآن وسط حياة فوضوية كأنها مستنقع…
ولذا، لا خيار لي سوى الاستمرار في السير.
عبثتُ بالفنجان قليلًا، ثم سألت عن أكثر ما أحتاج لمعرفته.
“أوراكل، هل تفكر بالتعاون معي؟”
سواء أكان الأوراكل من جلبني إلى هذا العالم أم لا، فهو، بما أنني روح من عالم آخر، لا بدّ وأنه كان ينوي الاقتراب مني عاجلًا أم آجلًا.
لكن المهم هو: ما النوايا وراء هذا الاقتراب؟
ساد الصمت للحظة، يخيّم على المكان.
“المتغيّرات لا يمكن التنبؤ بها.”
مزّقت كلمات الأوراكل الهادئة ذلك الصمت العميق.
رفعت نظري عن الشاي، ونظرت إليها.
“وبما أن المتغيّرات لا يمكن التنبؤ بها، فلا بدّ من السيطرة عليها. وإن اقتربت المتغيّرة من أكثر الأشياء أهمية، فإن السيطرة تصبح ضرورة حتمية.”
نظرات الأوراكل العميقة كانت مصوّبة نحوي.
“أنتِ الآن تتعاونين مع لاعبنا، لكن لا أحد يعلم ما قد يحدث لاحقًا.”
“صحيح. قد أغيّر موقفي تبعًا للظروف.”
بل في الماضي، سبق أن عقدتُ صفقة مع الميزان الأسود، أحد صانعي الأبراج.
لكن، رغم ذلك، لا أنوي أن أكون خصمًا للأوراكل.
بل أفكّر في علاقة متبادلة المنفعة—
“ولهذا، قرّرنا أنكِ بحاجة إلى طوق.”
“……طوق؟”
ما الذي يقصده الآن؟
“منذ لحظة استيقاظكِ وظهوركِ كمتغيّرة ذات أهمية، ونحن نراقبكِ.”
تابع الأوراكل حديثه بهدوء.
“ويبدو أنكِ تكنّين مشاعر عميقة للأطفال الذين نشؤوا معكِ في دار الأيتام. حتى لو كان بعضهم مجرّد بقايا ناتجة عن البرج.”
شعرت بقشعريرة باردة تتسلل إلى عمودي الفقري.
لا يُعقل… هل هو يقصد…؟
قبضتُ على يديّ بقوة، وصرّت أسناني لا إراديًا.
“لا داعي لتلك النظرات العدائية. ما دمتِ تتعاونين معنا بصدق، فإن من تحبينهم سيبقون في أمان.”
هذا الوغد…
إن لم أُطِعه، فهو يهدد بإيذاء عائلتي.
التعليقات لهذا الفصل " 56"