كان ليون قد اقترب منا، ممسكًا بباقةٍ من الورود الزرقاء، وقد بدا وكأنه كان يبكي، إذ كان يضع قبعته منخفضةً على وجهه.
“هل أعطيكم بعض الورود؟ لقد قمت بتهذيب الأشواك تقريبًا.”
ربما شعر ليون بتردّد في تقاسم الورود المعدّة لتقديمها على قبر أخته، فنظر إليّ بحذر. ابتسمتُ له.
“أعطني زهرةُ واحدة فقط، سأحتفظ بها جيدًا.”
قال لي المعلم إن التحلي باللطف مع الآخرين هو أساس اللباقة.
“يبدو من تعابير وجهكِ أنكِ سمعتِ بشأن ذلك. نعم، صحيح. في الحقيقة، اقترحتُ المجيء إلى هنا اليوم من أجل إليز . …أختي الصغرى المتوفاة، التي كانت تتمنى رؤية الورود الزرقاء ولو مرة واحدة. آه، لم أكن أنوِ الحديث عن شيءٍ محزنٍ كهذا …..”
استمع بيرسي وزيكس إلى كلامه في صمت.
“في الحقيقة، بينما كنت أرتب أغراضي أمس، عثرت على متعلقات أختي. كانت مليئةً بالأشياء الزرقاء، فقد كانت تحبّ اللون الأزرق.”
ظلّ بيرسي يستمع إلى ليون في صمت.
“أشكركم من كل قلبي. أنا ممتنٌ لأنكم تفكرون في إليز، وحتى أنك يا بيرسي لم تقبل خطبةً أخرى احترامًا لذكراها.”
“لا تقل ذلك. عائلتي ليست سوى أسرةٍ تملك المال فقط، لكن أن تكون إليز النبيلة حبي الأول، فهذا يعني لي الكثير.”
قال بيرسي ذلك ثم أغلق فمه، كما لو كان يحاول ضبط مشاعره.
“لا، أنا من يجب أن أكون ممتنًا. عائلتك لم تطالب برد الجواهر والأموال التي قدّمتموها لعائلتنا خلال حفل الخطوبة. بفضل تلك الأموال، تمكنت عائلتنا من النهوض مجددًا.”
أصبح الجو ثقيلًا. فتح زيكس فمه بعد أن لاحظ الأجواء.
“ما رأيكم أن نذهب جميعًا لزيارة إليز بعد هذا؟”
“سيكون ذلك رائعًا. لو أحضر بيرسي الورود، كم ستفرح إليز…”
شعر زيكس بحرجٍ لدرجة أن أنفه أصبح أحمر اللون، فمسح أنفه بيده.
‘لا بد أن الأمر محزنٌ جدًا لدرجةٍ تجعله يبكي أمام الآخرين. مسكين.’
من جهةٍ أخرى، بدت صداقتهم دافئةً ومؤثرة. حاول ليون تغيير الموضوع وهو يضبط مشاعره.
“فلنتحدث عن شيءٍ ممتعٍ آخر. يا آنسة، ألا يثير فضولكِ شيءٌ عن الحياة في العاصمة؟”
“في الحقيقة، لم أزر تقريبًا أيّ مكانٍ في العاصمة.”
أجبتُ بخجل.
“هناك أماكن رائعة كثيرة. نشأتُ في الريف، لذا كانت العاصمة بالنسبة لي عالمًا آخر. لا زلت أتذكر شعوري في أول يومٍ لي في الأكاديمية. البلاط المتراص تحت غروب الشمس المشتعل، والحماس حين نزلت من القطار في المحطة، وصوت جرس برج الساعة الأزرق في المحطة مع الحمام الطائر. قضاء سنوات الدراسة في العاصمة كان شرفًا عظيمًا.”
همم، لكن الزقاق الخلفي في العاصمة حيث نشأت لم يكن كذلك.
“لكنني أعتقد أن برج الساعة الأزرق في المحطة جميلٌ حقًا.”
“تتحدث يا ليون وكأنك تروي قصةً قديمة.”
ابتسمتُ بلطف.
بينما نهضت مجموعة بيرسي لتشرب الشمبانيا على ضفة النهر، غطيتُ ركبتيّ بشالٍ واستلقيت على العشب. كانت أشعة الشمس تتراقص على وجهي بلطف. شعرتُ براحةٍ عظيمة.
“أريد أن أغفو هكذا…”
خرجت هذه الكلمات مني دون قصد.
“هل أنتِ مستمتعة؟”
سألني جايد.
“أحب النزهات كثيرًا. أريد العودة إلى هنا مجددًا قريبًا.”
ضحك جايد بخفة.
“يبدو أن جهودي لإحضاركِ هنا لم تذهب سدى.”
ابتسمتُ بمرح. بدأ النعاس يتسلّل إليّ.
أريد أن أصبح مثل الخبز المحمص تحت الشمس .
….”هل ستنامين؟”
“يجب أن توقظني.”
وهذا أمرٌ طبيعي، فالجزيرة صغيرة لا يوجد فيها سوى خمسة أشخاص. ماذا لو تركوني وغادروا؟
ما زلت أشعر أن حياتي الحالية كالحلم، وأخشى أن تتلاشى بسبب أيّ خطأ صغير.
أن أفترق عن جايد وأعود للعيش في الشوارع مجددًا .
….”بالطبع.”
وضع جايد قبعتي فوق رأسي بعمق. غفوتُ للحظاتٍ قصيرة.
سمعتُ ضحكاتٍ خافتة ففتحتُ عينيّ مجددًا.
‘كم نمت؟’
فركتُ عينيّ ونهضتُ بسرعة لأرى قاربًا يقترب.
“أوه؟ إنهنّ نساء؟”
تمتم بيرسي وهو يقف مع أصدقائه على ضفة النهر وينظر إلى القارب. رأيتُ بين النساء اللواتي يرتدين فساتين ملونة وجهًا مألوفًا.
‘إنه كالين!’
نهضتُ من مكاني بسرعة.
“الدوق!”
“أبي؟”
بدا جايد مستغربًا. كنتُ قد بدأت أركض نحو ضفة النهر.
مظلاتٌ زرقاء وحمراء وبيضاء. وضحكات النساء اللواتي يرتدينّ فساتين فاخرة مزينة بالدانتيل ملأت جزيرة لينوكس الصغيرة.
توقف القارب أخيرًا، ونزل منه رجلٌ وسيم.
“شكرًا لكنّ لأخذي في هذه الرحلة. كانت تجربةً ممتعة.”
“يا سعادة الدوق، دعنا نلتقي مرة أخرى!”
“تعال بزيارةٍ إلى حفل عائلتي يومًا ما.”
لم يكن من الصعب تخمين من هو الرجل الوحيد على متن ذلك القارب.
إنه كالين، والدي بالتبنّي. من غيره يمكن أن يجعل هؤلاء الفتيات يلوحنّ بأيديهنّ ببهجةٍ وحماس؟
‘كما هو متوقع من البطل! شعبيته مذهلة.’
غادر القارب، واقترب كالين مني.
“يا صغيرتي، هل استمتعتي كثيرًا؟”
“نعم. لماذا أتيتَ إلى هنا؟”
“جئتُ لرؤيتكِ بالطبع. ألم تشعري بالحزن هذا الصباح؟”
رفعني كالين بسرعة.
لستُ صغيرة إلى هذا الحد، لكن هذا النوع من المزاح مرحّبٌ به دائمًا. ضحكتُ بصوتٍ عالٍ.
“أليست هذه مجرد ذريعة للتنزه مع هؤلاء السيّدات على القارب؟”
“لا، أنا لا أختلق الأعذار.”
قرص خدي. آه، لا أحبّ هذا النوع من المزاح.
“المرأة الوحيدة التي أحبّ التنزه معها هي ابنتي.”
سحبتُ ذراع كالين لأطلب منه إنزالي. عندما وضعني على الأرض، لاحظتُ ثلاثة أشخاص ينظرون إليّ بدهشة كما لو أنهم رأوا شبحًا.
“الدوق .
….”تمتم بيرسي. شعرتُ بابتسامة كالين تجاهي، ثم التفت إلى جايد مبتسمًا وسأل.
“جايد.”
“نعم، يا أبي.”
“من هؤلاء الذباب الذين تجرأوا على التسكع مع ابنتي دون إذن؟”
في لحظة، تحوّلت وجوه الثلاثة إلى اللون الأبيض كالجليد.
“وعلاوةً على ذلك، يشربون الكحول أمام ابنتي الصغيرة …..”
التعليقات لهذا الفصل " 23"