.:
الفصل 15
كانت العتمة تغمر المكان، ومن بين تلك الظلمة انبعث بريقٌ خافتٌ من عينَيْ كارون الحمراوين.
خطا نحوي بخطواتٍ ثابتة، وعيناه لا تفارقان وجهي. ثمّ حرّك شفتيه ببطءٍ قائلاً:
“إنْ أمسكتُ بك… ستموتين.”
‘ارتديتُ قناعًا ومع ذلك عرفني! كيف؟!’
“ابقَي مكانكِ.”
‘لا! هذا بالضبط ما لا يجب أنْ أفعله!’
رسمتُ بعصبيّةٍ علامة “X” بيديّ أمام صدري، محاوِلةً إيضاح أنّ عليه التوقّف. كما حرّكتُ شفتيّ بسرعةٍ وكأنّي أرسل له إشاراتٍ سريّة.
“شش… أراقب مشهدًا مريبًا. لا تقتربي.”
‘ما الذي يقوله بحقّ السماء؟’
كنتُ مظلومةً بحقّ! أنا أرى حركة فمه بوضوح، فلماذا لا يستطيع هو أن يفهمني؟
اتّسعت حركات يديّ من كتفيّ حتى تجاوزتْ رأسي، في محاولةٍ يائسةٍ لأُعبّر عن رجائي ألاّ يقترب أكثر.
لكنّ كمّ ثوبي المرفرف تعلّق بشجيرةٍ قريبة.
“من هناك!”
حاولتُ الانسحاب بسرعة، لكنّ الرجال الذين كانوا يرتدون أرديةً سوداءَ سحبوني بقوّةٍ من خلف الشجيرات.
وقبل أنْ أُطرح أرضًا، تلاقتْ عيناي بعينيْ كار للحظةٍ خاطفة.
“لقد قبضنا عليها. تبدو سيّدةً من عائلةٍ نبيلةٍ عاديّة، ما العمل؟”
“سنرى ذلك بعد أنْ نتحقّق. قد تكون جاسوسة. انزعوا قناعها.”
لكنّ القناع كان ملتصقًا تمامًا بوجهي بفضل تعويذةِ التثبيت التي استخدمتُها.
راح أحدُ الفرسان يشدّ القناع محاولًا نزعه بلا جدوى، حتى رفع وليّ العهد يده مُشيرًا له بالتوقّف.
استغللتُ تلك اللحظة وتكلّمتُ بسرعة:
“أنا فقط… تهتْ بي الطريق.”
“عذرٌ ركيك. من الذي أرسلكِ؟”
‘لو أنّه فقط يصدّق كلامي قليلاً…’
ثم خطر ببالي أنّ وجود “جاسوسة” يعني أنّ هناك فصيلًا معارضًا لهم. ربّما يمكنني استغلال ذلك لاحقًا.
فتظاهرتُ بالارتباك وأجبتُ بنبرةٍ خائفةٍ مصطنعة:
“أنا حقًّا لا أعلم شيئًا! أرجوكم أظهروا رحمتكم!”
“كلّما أنكرْتِ أكثر، زاد شكي بك.”
“لا أفهم ما تقولونه! هل هذا لأنّي أرتدي قناع أرنب؟!”
“هل أنتِ من عملاء ليفيرت؟ أم من مملكة فريكا؟ أم من الاتّحاد الشرقي؟”
حدّقْتُ به مذهولة. لقد فضح بنفسه قائمة الأعداء!
‘هل هو… أحمق؟’
على ما يبدو، فكّرتُ أنا والقدّيسة الشيءَ نفسه، إذ عبستْ ملامحها بغضبٍ وهي تنتزع سيفًا من يد أحد الفرسان وتهوي به نحو عنقي.
“آآه!”
لقد كانت تنوي قتلي حقًّا!
تدحرجتُ جانبًا بسرعةٍ، وشعرتُ بدقّاتِ قلبي تصطدم بأضلعي.
غرز سيفها الأزرق في الأرض بجانبي، فقبضتُ عليه بكلّ قوتي وانتزعْته.
ثمّ ألقيتُه بكلّ ما أملك من طاقة نحو الفارس الأقرب، فاصطدم مقبضُه بأنفِه مباشرةً.
“آخ!”
نزفَ أنفهُ دمًا وهو يحدّق بي بذهول.
“أمسكوها! اقتلوها!”
قالت القدّيسة ببرودٍ تام، وقد تلاشى من وجهها كلّ أثرٍ للرحمة التي يشتهر بها وجهُها.
قفزتُ مبتعدةً، متفاديةً أيديهم التي حاولتْ الإمساك بي من كلّ جانب.
‘لقد كنتُ أُلقّبُ بالأرنبِ من قبل لسبب!’
ركضتُ كالأرنب بين الشجيرات، وما إنْ رفعتُ نظري حتى رأيتُ كارون يركض نحوي من بعيد، يحمل مسدّسًا فضّيًا، لكنّه كان متردّدًا.
‘بهذا المعدّل سأموت قبل أنْ يصل إليّ!’
تردّدتُ للحظة.
هل أموتُ الآن على أيديهم، أم بعد قليلٍ على يدِ كارون؟
الجواب دائمًا واحد:
‘سأموتُ بعد بضع ثوانٍ إضافيةٍ على الأقل!’
صرختُ:
“سأقول الحقيقة!”
رفعتْ القدّيسة يدها، فتوقّف الجميع عن الحركة.
“تكلّمي.”
“كنتُ… في موعدٍ غرامي!”
“ماذا؟!”
“كنا نلعب لعبةَ الاختباءِ في الحب! الدوق ليفيرت هو حبيبي!”
ساد صمتٌ مطبق.
وسُمِعت خطواتُ كارون تقترب، تخترقُ السكون بثقلٍ واضح.
شقَّ طريقه عبر الشجيرات، ويدهُ المرتجفة ما تزال تُمسك بالمسدّس.
ابتسمتُ ابتسامةً واسعةً، بينما كنتُ أصرخ داخليًا من اليأس.
“أليس كذلك، حبيبي؟”
تجمّد وجه كارون. بدا عليه الاضطرابُ وكأنّه يقول: “ألهذا أتيتُ أُنقذك؟ لتقولي هذا الهراء؟”
سأل وليّ العهد متشكّكًا:
“هل ما قالته صحيح، يا دوق ليفيرت؟”
كنتُ أومئ برأسي بجنونٍ في إشارةٍ أنْ “نعم، قلْ نعم!”
أطلقَ كارون تنهيدةً خافتةً فيها شيءٌ من الارتياح، ثم قال بهدوء:
“نعم، هي حبيبتي.”
“الدوق… يقع في الحب؟!”
“هل ثمّة مشكلة؟”
رغم أنّه استخدم نبرةً رسمية، إلا أنّ انحناءة رأسه الطفيفة جعلتْه يبدو وكأنّه يُلقي بنظره من علوٍّ عليهم.
تجمّدتْ الأجواء، وصار صوته البارد يملأ المكان.
‘أهؤلاء الحمقى… يعقدون مؤامرتهم داخل القصر نفسِه؟’
ألقى نظرةً على العشب الملطّخ بالدماء.
‘هل أصبتِ؟’
كانت تلك دماءَ الفارس الذي أصيب بأنفهِ، لكنّه لم يكن يعلم ذلك.
قالت القدّيسة بصرامة:
“كذب! أليست جاسوسةً أرسلتَها بنفسك؟”
اقترب كارون بخطواتٍ بطيئةٍ، وتجمّعتْ طاقةٌ حمراءُ حول قبضته.
“جاسوسة؟ ولماذا أُرسل جاسوسةً إليكم؟”
لم تجب.
“أين ردّك؟”
تابع وهو يقترب أكثر:
“إنْ لم تُجيبي، فسأضطرّ لانتزاع الحقيقة بنفسي. ماذا تفعلون هنا؟ ولماذا آذيتمْ حبيبتي؟ ولماذا لا تزالين ترفعين سيفك عليها؟”
توتّرت ملامح وليّ العهد وقال مبتسمًا بتكلّف:
“يبدو أنّنا أخطأنا، يا دوق ليفيرت.”
تذكّر كلمات والده:
“إيّاكَ أنْ تمنحَ الدوق ذريعةً للإمساك برقبتك.”
ثم أشار بعينيه إلى القدّيسة، فخفضتْ سيفها.
تراجعتُ سريعًا، محاوِلةً استعادة أنفاسي.
قال وليّ العهد بابتسامةٍ مصطنعة:
“لم أكن أعلم أنّها حبيبةُ الدوق. أرجو المعذرة. ما اسمكِ يا آنسة؟”
“أنا مارباسا من عائلةِ بارونيةٍ صغيرةٍ في الأطراف، لعلّكم لم تسمعوا بنا من قبل.”
“حقًا؟ ليدي مارباسا، سعدتُ بمعرفتكِ. والحمد لله أنّكِ بخير.”
أومأتُ له، فيما كانوا جميعًا يجهلون أنّ الاسم من تأليفي في تلك اللحظة.
غادر وليّ العهد والقدّيسة المكان، تاركَين خلفهما سكونًا تامًّا.
أدار كارون مسدّسه بأصابعه بهدوءٍ ثم قال فجأة:
“حبيبتي، أليس كذلك؟”
“أيمكن أنْ نتظاهر بأنّك لم تسمع شيئًا، من فضلك…؟”
احمرّ وجهي من شدّة الإحراج، ولو كان للخزي مقياسٌ مرئي، لتجاوز المئة بالفعل.
بدأتُ أبتعد عنه بخطواتٍ حذرة، وعقلي يشتعل بالتساؤلات.
‘هل عليّ أنْ أتعامل معه كـ “كارون”؟ أم كـ “كار”؟’
فكّرتُ بعقلٍ بارد: أنا لا أحبّ كار بما يكفي لأخاطرَ بتغيير مصير القصة من أجله.
إذًا، لماذا أشعر بالضيق؟
لماذا يؤلمني صدري هكذا؟
ارتجفَتْ نظرتي نحوه، ورأيتُ على وجهه ملامحَ صلابةٍ غامضة، كأنّ شيئًا بداخله بدأ يتجمّد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"