“ماذا تفعل هناك؟”
لمح شبحٌ يستمتع بالتجوّل في أرجاء القصر الكئيب في منتصف الليل شخصًا غريبًا. حاول الاقتراب، لكن شبحًا قريبًا أوقفه بسرعة.
“تجاهلها. إنها الشبح الجديد، ويُقال إنها مجنونة.”
“لماذا؟ لا تبدو مميزة.”
“لقد ظلّت بالقرب من غراهام، وتلقّت توبيخًا لاذعًا، وهكذا انتهى بها الأمر هكذا.”
“إنها مجنونة.”
“لا تقترب. ستتسبب بالمشاكل.”
عادت الأشباح، التي كانت تتبادل الأحاديث على بُعد مسافةٍ قصيرة، أدراجها.
في هذه الأثناء، كانت آفري، الشبح الجديد التي لم يجرؤ الأشباح على الاقتراب منها، مُستلقيةً أمام باب كارل، منهكة.
“أنا في ورطة … أي ثقة؟ الثقة …”
كانت آفري متوتّرةً للغاية عندما تحدّثت إلى كارل أمام النافورة. لدرجة أنها لم تستطع رؤية شيءٍ أمامها.
لو كانت النتيجة جيدة، لما ندمت. مع ذلك، غادر كارل دون أن ينطق بكلمة.
كان من الأفضل لو كان عدائيًّا كعادته …
نظرت آفري من النافذة في الرّدهة. كانت ليلةً شتويةً قاتمة. كانت السماء أغمق مما كانت عليه عندما قابلته.
“…..”
لا تفكّري في الأمر. أرجوكِ، لا تفكّري في الأمر …
لكن حتى محاولتي منع نفسي من التفكير في الأمر كانت في حدّ ذاتها تفكيرًا. المحادثة التي حاولتُ نسيانها، أو بالأحرى، حاولتُ بجهدٍ مضنٍ نسيانها، عادت تلقائيًا إلى ذهني.
«لستَ ملزمًا بالثقة بي.»
«سأمنحكَ ثقتي الكاملة، دوق.»
«بهذا المعنى، أنا في صفّكَ تمامًا.»
آه!!
شعّثت أفيري شعرها المجعّد بلا رحمة. رأت خصلات شعرها البنفسجية تتدلّى على وجهها، وتخيّلت نظرة عينيه، التي كانت كالمجرّة، أمامها. مجرّد التفكير في الأمر جعل وجهها يحمر.
لو رآها أحد، لظنّ أنها اعترفت.
نهضت آفري أخيرًا وهي ترتجف. لو استمرّ الأمر على هذا المنوال، لما استطاعت حتى رفع رأسها في القصر.
كان عليها أن تحسم الأمور.
أخذت آفري نفسًا عميقًا أمام الباب، الذي بدا كبيرًا على غير العادة اليوم، ومرّت عبره لغرفة النوم.
“سعادتك. لا تهتمّ بما قلتُه سابقًا … هاه؟”
لكن كارل لم يكن في الغرفة. لم يكن هناك أيّ ضوءٍ مضاء. نظرت آفري إلى الساعة. كانت منتصف الليل.
كيف ينام في هذا الوقت؟
نظرت آفري ببطءٍ حول الغرفة. كان البراندي على طاولة الأريكة مفتوحًا. كان المكتب منظّمًا بدقّة، دليلًا على شخصيته المعهودة.
كادت أن تصرخ، لكن عندما وجدت كارل مستلقيًا على السرير، غطّت فمها. كان يُعاني بالفعل من أرقٍ شديد، وإذا أيقظَته، فلن يكون هناك أملٌ في إصلاح علاقتها به.
اقتربت بهدوءٍ لتتأكّد. لحسن الحظ، كانت عينا كارل مغمضتين. راقبت آفري المشهد بقوّةٍ متجدّدة. حتى وهو نائم، ظلّ كارل غراهام، الذي لا تشوبه شائبة، آخذًا للأنفاس تمامًا.
ارتسمت الدهشة على وجه آفري وهي تحدّق في جسده. تصبّب العرق على جبينه، وتصلّب جسده من التوتر.
كانت أوتار قبضتيه، على وجه الخصوص، متوتّرةً وبارزةً لدرجة أنها بدت وكأن الدم سيخرج منها إذا تُرِكت على هذا الحال
تأمّلت، ومدّت يدها.
* * *
شاااااه.
تدفّقت الماء من النافورة المزخرفة بغزارة، كما لو كانت تتباهى بعظمتها. ظلّ كارل جالسًا يحدّق في النافورة.
بدا أن النافورة، الهائلة مقارنةً بجسده النحيل، ستبتلعه تمامًا. وقبل أن يصل الماء إلى القاع، ناداه أحدهم.
“كارل.”
التفت فرأى امرأةً تقف في البعيد، وعلى وجهها ابتسامةً هادئة. تعرّف عليها فورًا.
“أمي.”
لم تكن روزيليا، والدة كارل، سريعة، لكنها استطاعت الوصول إلى كارل بسرعة.
“ماذا كنتَ تفعل؟”
“كنتُ أنظر إلى النافورة.”
“هل تحبّ النوافير؟”
تَبِعته روزيليا، تنظر إلى النافورة. أدار رأسه لينظر إلى والدته.
“لأن هذا ما تحبّينه أنتِ.”
ابتسمت روزيليا ابتسامةً مشرقةً لإجابته، وأمسكت بيد ابنها الصغير أثناء سيرهما. وبينما كانا يستمتعان بلحظةٍ من الهدوء، رفع يده وأشار إلى زاويةٍ من الحديقة.
“هناك شخصٌ ما هناك.”
لم يكن هناك أحدٌ حيث أشار كارل الصغير. تصلّب تعبير روزيليا قليلاً، وشدّت قبضتها على يده.
“… هذا.”
تغيّر المشهد فجأة.
كان كلّ شيءٍ مظلماً، وأمامه بابٌ كبيرٌ وحيد. فتحه بحركةٍ مألوفةٍ ودخل الغرفة. وبينما اعتادت عيناه على الظلام، ظهر شخصٌ ما في مجال رؤيته.
“كارل …”
كانت روزيليا ملقاةً على الأرض، تنزف.
“أمي.”
“كارل …”
منحته الأم ابتسامتها اللطيفة المعتادة. لكن تعبيرها تغيّر فجأةً وأمسكت بكتف كارل بعنف.
“هل ما زلتَ ترى الشبح؟ هاه؟ حقاً؟”
لطالما انتهت أحلامه هنا. استعاد لحظات والدته الأخيرة حتى اختفى تعبير روزيليا. في هذه المرحلة، لم يستطع حتى تذكّر ما إذا كانت والدته قد قالت تلك الكلمات فعلاً أم لا.
أمسك بيد روزيليا، التي كانت تمسك بكتفه بقوّة. حان وقت الاستيقاظ من الحلم.
“لا، لا أستطيع رؤيتكِ.”
* * *
عندما فتح عينيه مجدّدًا، كانت الساعة لا تزال منتصف الليل. قاده وعيه المتزايد إلى رؤية دخيلٍ غير مدعوٍّ في غرفته.
كان الشبح جالسًا على الأرض، مُستلقيًا عند جانب السرير، ولم يظهر منه سوى شعره المجعّد. شعر به وكأنه فرو حيوان، فمرّر يده خلاله.
ثم، عندما أحسّ الشبح بوجوده، استقام بسرعة. ربما مذعورة، كما لو أنها لم تُدرِك أنه قد يستيقظ، التقت نظراته بعينيها، وعيناها الأرجوانيتان العميقتان ترمشان بمفاجأة.
بدلًا من النهوض، نظر إلى يده، التي كانت تشعر بالبرودة منذ فترة. كانت يدها تتداخل مع يده.
اختلقت آفري، ربما لأنها أدركت أين ثبتت نظراته، عذرًا بسرعة.
“أوه، الأمر فقط أنكَ كنتَ تقبض عليها بقوّةٍ شديدة، لذا …”
“……”
“لا تُسيء الفهم. لم أكن أحاول تجميد يدكَ لاغتيالك.”
لم يخطر بباله حتى مثل سوء الفهم السخيف هذا.
لكنها لا بد أنها أخذت صمته كشكٍّ على محمل الجد، إذ سحبت يدها ووقفت. في اللحظة ذاتها، قبض كارل على يدعا التي كانت تبتعد عنه.
“…..”
ابتعدت يدها الشبحية عنه دون أن يستطيع لمسها. كان ذلك فعلًا غير مقصود. لم تُلاحظ آفري أفعاله، فسحب يده المتبقّية بسرعة. ونهض.
آفري جراند.
حاصر بنظراته هذه الشبح التي كانت تُطارده بلا كلل.
لم يثق بأحد. عندما توفٌي الدوق والدوقة السابقان، كان أوّل مَن نبذه وحاصره أقرباؤه المقرّبون وطبقة الأرستقراطيين في العاصمة.
كان هناك الكثيرون ممّن يدّعون وقوفهم إلى جانبه، يقتربون منه، منتظرين فرصةً لطعنه في ظهره. لكنه حافظ على مسافةٍ آمنةٍ وتخلّى عنهم. كان ذلك أسهل شيءٍ بالنسبة له.
لم يُفكّر قط في استخدام الأشباح. كانت الأشباح أكثر شراسةً لأنه لم يكن من الممكن التلاعب بها من خلال منصبه. لقد استمتعوا بإثارة حيرته ومعاناته.
كانت آفري جراند كذلك بالنسبة له. كانت الصفقة مجرّد واجهةٍ منذ البداية. كانت ورقةً رابحةً تُرمى بمجرّد اكتشافه مصدر المعلومات الذي لن تعرفه أبدًا.
سيلتقي بأمّه يومًا ما، حتى بدونها. إذا وجد قاتلها، فسيفعل.
لم يكن لديه سببٌ لاختيار آفري جراند.
«لستَ مُلزمًا بالثقة بي.»
«سأمنحكِ ثقتي الكاملة، دوق.»
لكن آفري جراند كانت مختلفة. كان دائمًا خيارها الوحيد، حتى لو لم يخترها. حتى الآن، كانت آفري جراند بجانبه، يراقب كلّ تحرّكاتها.
ما زال لا يثق بها. لن يثق بها أبدًا. لكن هذا ليس سببًا لعدم اختيارها. ما عرضته آفري كان كافيًا لإغرائه.
كان من الواضح جدًا حماقة التخلّي عن كلّ أوراقه والانتظار.
«بهذا المعنى، أنا في صف الدوق تمامًا.»
أقرّ الآن بأنه يواجه صفقةً حقيقيةً معها.
“آفري جراند.”
كان في موقفٍ لم يكن لديه ما يخسره.
اختار آفري جراند من بين خياراتٍ عديدة، لكن لم يكن أمام آفري جراند سوى كارل غراهام كخيارٍ لها.
كانت هذه صفقةً لم يكن لديه ما يخسره فيا.
“أعطِني ثقتكِ.”
لم يكن هناك سببٌ لعدم قبول هذه الصفقة أحادية الجانب.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"