كان المكان الذي وصلتُ إليه، بعد أن ركضتُ بسرعة، مكتب كارل. وكما هو متوقّع، كان يعمل في نفس المكان، بنفس الوضعية.
ما هذا؟ هل هذا شعورٌ بالديجافو؟ هل هو نفسه ما كان عليه عصر أمس، وما كان عليه عصر ما قبله؟
لو كان عليّ أن أشير إلى فرق، لقلتُ إن شعره، الذي كان مرفوعًا الآن، أصبح الآن منسدلًا قليلًا، كاشفًا عن سحرٍ مختلفٍ عن الصباح. بدا وكأنكَ لن تملّ من مجرّد النظر إلى وجهه طوال اليوم.
لكن للأسف، لم يكن لديّ وقتٌ للإعجاب بجماله الآن.
“سعادتك.”
“…..”
وكما هو متوقّع، لم يُجِب فورًا.
لمجرد أنها حاولت كسب ودّه بكلماتٍ لطيفةٍ فقط، لم يعنِ ذلك أنه غيّر رأيه. وجّهت آفري حديثها مباشرةً.
“سعادتك، هل حضرتَ جنازتي بالصدفة؟”
كان هذا السؤال الأغرب الذي سألتُه لكارل على الإطلاق. توقّفت يده التي كانت تحرّك قلمه.
“لا.”
“كما هو متوقّع!”
لم يحضر جنازة ابنة الكونت، التي لا علاقة لها به.
لم يكن غيابه عن جنازتها مجرّد فرح، بل نشوة. عبس كارل، الذي شهد تقلّبها العاطفي، لأوّل مرّة.
“صحيح؟ من المستحيل أن يحضر الدوق جنازتي، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
“لن يحضر حتى جنازة عائلةٍ نبيلة، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
تأكّدت صحة تنبّؤ آفري تدريجيًا.
كانت آفري تذرع المكتب الواسع جيئةً وذهابًا، غير قادرةٍ على كبح حماسها.
“إذا كان الدوق سيحضر الجنازة، فسيكون ذلك لنبيلٍ رفيع المستوى، أليس كذلك؟ أو لشخصٍ مهمٍّ على صلّة بالدوق؟”
“صحيح.”
“هذا هو!”
حتى لو لم يكن من النبلاء رفيعي المستوى، لم يكن لدى كارل سوى عددٍ قليلٍ من الأصدقاء المقرّبين. من المرجح أن يكون المقرّبون منه ذوي صلاتٍ سياسيةٍ أو تابعين لغراهام، ولن يكوّن الدوق منهم الكثير.
بعبارةٍ أخرى، كانت الضحية الثانية صديقة هيلين، وهي نبيلةٌ رفيعة المستوى.
مع تقلّص قائمة الضحايا المحتملين بشكلٍ كبير، لم تستطع آفري إخفاء بهجتها. ثم تحدّث كارل، وهو لا يزال يراقب آفري.
“هل أنتِ مستاءةٌ لأنني لم أحضُر جنازتكِ؟”
كان سؤالًا لم تسمعه من كارل منذ وقتٍ طويل. دُهِشت آفري قليلًا، لكنها أجابت بحزم.
“هل هذا ممكن؟”
“إذن لماذا تسألين؟”
“أوه، هذا …”
توقّف آفري محاولةً الشرح. لكن، لم تكن الكلمات سهلة النطق.
كيف أشرح هذا؟
جريمة قتلٍ أخرى في وليمة رأس السنة، والهدف نبيلةٌ رفيعة المستوى؟
لم يكن ليصدّق ذلك، ولكن حتى لو صدّقه، فسيشكّ في هويّتها.
“همم … لم تحضر جنازتي، لكنني كنتُ أتساءل جنازة مَن ستحضر ..؟”
تجنّبت آفري نظرات كارل. لم تكن لديها الثقة الكافية لشرح استنتاجاتها بعقلانية، متجنّبةً شكوكه.
“لكن، لا أعتقد أننا ناقشنا قضية القتل بشكلٍ صحيحٍ بعد. هل ترغب بمشاركة ما تعرفه؟”
بدلًا من ذلك، خطّطت أولًا للإعلان أن القاتل لن يتوقّف عند هذه الجريمة فقط. كان بإمكانها القول إن المحقّق الذي حقّق في القضية قد خمّن ذلك، أو أن القاتل قد أفلت منه شيء.
ولكن كانت هناك مشكلةٌ أخرى.
“لا، لستُ بحاجةٍ لذلك.”
دون تردّد، استأنف كارل تصفّح المستندات بتكاسل. عجزت آفري عن الكلام لرفضه الصريح لبرهة، لكنها تمكّنت أخيرًا من التحدّث.
“… لا بد من وجود أمرٍ ما. علينا تبادل المعلومات للقبض على القاتل، أليس كذلك؟”
كان أحد أسباب خوف النبلاء منه هو ما يُشاع عن قدرته على رؤية الأشباح، لكن هذا لم يكن السبب الوحيد.
اعتلى كارل غراهام عرش الدوق في سنٍّ مبكّرة وفكّك فصيله المعارض. ما كان هذا ليكون مستحيلًا لولا الذكاء الهائل الذي كان يمتلكه.
لم يكن هناك مجالٌ لعدم تحقيقه في قضية قتلٍ استهدفت أحد النبلاء.
“لقد كنتُ أفكّر في الأمر. يبدو أن هذه الجريمة ليست النهاية …”
“ليس لديّ أيّ معلوماتٍ لأُشاركها معكِ.”
قاطع كارل آفري ورفض مجدّدًا، بموقفٍ حازم.
لقد كان كمينًا غير متوقّع. بالطبع، لم تكن لديها معلوماتٌ بقدر كارل، لكنها كانت ضحية جريمة قتل.
مهما كان ذكاءه فائقًا، لم تكن هناك معلومةٌ أهمّ من شهادة الشخص المعني.
“أنا ضحيةٌ وشاهدةٌ على هذه الحادثة. يمكنني بالتأكيد تقديم معلوماتٍ مُهِمّةٍ للدوق، ومن حقي أن أعرف عنها أيضًا.”
بدلاً من الموافقة على إفادة آفري أو دحضها، قرع كارل جرس مكتبه. بعد لحظة، دخل وايد، كبير الخدم ذو الشعر الأبيض الودود.
“أحضِر ماكس.”
راقبت آفري الموقف بتعبيرٍ محتار. بعد فترةٍ وجيزة، دخل ماكس.
“هل استدعيتَني؟”
“أعِد التقرير الذي قدّمتَه آخر مرّة، مع استخلاص التفاصيل غير العادية فقط.”
على الرغم من أمر كارل المفاجئ، استمرّ ماكس في الحديث دون أيّ ذعر.
“آفري غراند. في العشرين من عمرها. أنثى. أكبر الطفلين في عائلة غراند. وُلِدت ضعيفة، ولم تغامر بالخروج حتى بلوغها في حفلة ظهورها الأول. عاشت وحدها في القصر، وانهارت أخيرًا قبل ثلاث سنوات وبالكاد استطاعت التعافي بعد أسبوع.”
لم تُفاجأ أفيري بأنه بحث عنها بالفعل، بل أُعجِبت بذاكرة ماكس المذهلة، التي مكّنته من تلاوة المعلومات دون حتى ورقةٍ واحدة. لم يكن مساعدًا عاديًّا للدوق.
“تصرّفاتها منذ ذلك الحين كانت غريبةً تمامًا.”
لم يكن هناك شيءٌ غير عاديٍّ في حياة ابنة الكونت. ومع ذلك، لم تستطع آفري إلّا أن تشعر بوخزةٍ من القلق.
ليس كثيرًا، أليس كذلك؟ كان بإمكانه معرفة كلّ شيءٍ بقليلٍ من البحث فقط … أليس كذلك؟
“منذ أن نهضت من مرضها، تجاوز عدد السلع الفاخرة التي اشترتها في السنوات الثلاث الماضية العدد الذي اشترته في سنواتها السابقة.”
“…..”
مساعدنا، أنتَ تطرح موضوعًا مُقلِقًا ……؟
“قالوا إنّ الكونت حتى لو باع الكماليات من جديد، كانت تعود لتظهر وكأنّها أخفتها في أماكن مختلفة. ويُقال إنّ الأماكن كانت متنوعة، مثل مساحة التخزين تحت السرير، وخلف رفوف الكتب في غرفة أوليفر جراند، وحتى تحت أطراف القصر من الخارج.”
“كيف …؟”
بعد أن كُشفِت أخيرًا أماكن الكنوز التي أخفيتُها بشقّ الأنفس طوال السنوات الثلاث الماضية، لم أعد أستطيع الصمت.
توجّهتُ نحو ماكس، لكن كشبح، لم يكن هناك ما يمكنني فعله. مع ذلك، ما زلتُ مندهشةً بعض الشيء. لم تنتهِ كشوفات ماكس بعد.
“كانت هناك عشرات المحاولات للتسلّل عبر جدار الكونت في منتصف الليل، وجميعها نجحت باستثناء واحدة. مهما غيّر الحراس وعُزِّزتُ الحراسة، كانت دائمًا تتمكّن من الهرب والتواصل مع السيدات الأخريات.”
“لعلمك، أُصِبتُ بنزلة بردٍ في تلك المرّة، لذا كنتُ أشعر بجسدي أثقل من المعتاد.”
نسيت آفري الموقف للحظة، وتحدّثت كما لو كانت تتفاخر بإنجازاتها، لكن كارل لم ينظر إليها أو يُجِبها. في الواقع، شعرت بالخوف.
“قلتُ ذلك تحسّبًا في حال كنتَ فضوليًا …”
“بالطبع، جميع السيدات اللواتي قابَلَتهنّ هربنَ سرًّا من القصر. جميعهنّ حسنات السلوك وذوات سمعةٍ طيبة.”
في صوت ماكس كان يمكن الشعور حتى بالخيانة، لأن معظمهنّ كُنّ سيداتٍ من بيوتٍ نبيلةٍ يُفترض أنهنّ مثالياتٍ ولا يُتوقَّع منهنّ أيّ تصرّفٍ خارجٍ عن الحدود.
“مع أنهنّ كن يتردّدن على المسرحيات والحفلات الراقصة كلٌ أسبوع، إلّا أنه لم يُكشف أمرهن. في رأيي، بقليلٍ من التدريب، يُمكنهن بسهولةٍ أن يعملن كالظلّ.”
أومأت آفري موافقة. في البداية، رفض الجميع محاولات آفري، ولكن بعد بضع محاولاتٍ ناجحة، انضمّوا جميعًا.
الآن، أصبحن أكثر استباقيةً من آفري في هروبهنّ واستمتعن بانحرافهن. كان الأمر مُجزيًا.
كان لدى ماكس موهبة تواصلٍ رائعة. لو لم يكن الأمر يتعلّق بآفري نفسها، لكانت استمعت باهتمامٍ بالغ.
“كانت حادثة الحفل التنكرية مثيرةً للإعجاب بشكلٍ خاص.”
…هاه؟ حقًا، لم يكن أحدٌ يعلم بذلك؟
لم تستطع آفري السيطرة على تعبيرها. لم تُخبِر أحدًا بالإهانة التي تعرّضت لها ذلك اليوم. لم يعلم بها أحدٌ قط، وما كان ينبغي أن يعلم. لكن ماكس كان وفيًّا لأوامره.
“شربت بضعة أكوابٍ من النبيذ وهي ترتدي قناعًا، وطلبت من شخصٍ ما أن يكون شريكها في الرقص أولًا، ثم رفضها …”
“توقف! توقف!”
“هكذا يقولون .”
غلبها الخجل، فغطّت فم ماكس. بالطبع، لم يُسكته ذلك حقًا. ارتخت ساقا آفري، وسقطت أرضًا، ويداها على الأرض.
لم تُخبِر أحدًا عن حفل التنكّر، لذا كان من الواضح أن الجاني هو السيد الشاب، الرجل الذي رفضها.
كان عليّ التخلّص من ذلك الوغد ذلك اليوم ……
رفعت آفري رأسها إلى كارل، الذي كان يستمع بصمت. لم يتغيّر تعبيره إطلاقًا عمّ كان عليه عندما يعمل. كان عمليًا للغاية. وهذا ما زاد الأمر إحراجًا.
لحسن الحظ، لم يبدُ على ماكس ميلٌ لمناقشة ماضيها المظلم أكثر من ذلك.
“في يوم الهجوم، اكتشفها حارسٌ عابر، ولكن بعد ذلك بوقتٍ قصير، هوجمت وقُتِلت في منزلها.”
شعرت بغرابةٍ لسماع خبر وفاتها من شخصٍ آخر. ضمت آفري يديها لا إراديًا.
“لم يُعثر على أيّ دليلٍ يُذكَر في مسرح الجريمة، لكن السمة المشتركة كانت زهرة كركديه حمراء. لو لم تكن مصادفة، لظننتُ أنها توقيع القاتل.”
“حسنًا. يمكنكَ المغادرة الآن.”
ساد الصمت مكتب كارل بعد مغادرة ماكس. نهضت آفري بهدوء.
“ماذا تريد أن تخبرني بهذا؟”
“ما أريد قوله.”
نهض كارل أيضًا ونظر إلى آفري، التي كانت واقفةً بتردّد.
“كم تُضيّعين من وقتي بتلك المعلومات التي تزعمين أنكِ ستمنحينني إياها.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"