1
الفصل 1
لم يكن هناك أيُّ دافعٍ، ولا سببٌ، ولا حتى عَرَضٌ يُنذِر بما سيحدث.
كان الأمر أشبهَ بصاعقةٍ من سماءٍ صافيةٍ تمامًا.
في ليلةٍ وضُحاها انقلبَ العالمُ رأسًا على عقب.
كان اليومُ هو اليومَ الذي تسلّمتُ فيه أخيرًا رسالةَ القَبول من الجامعةِ التي كنتُ أحلمُ بها، بعد عامٍ جحيميٍّ من الإعادة والدراسة المحمومة.
صرخَت عائلتُنا فرحًا جميعًا، ورقصنا، وبكينا قليلًا.
اشترينا على عَجَلٍ قالبَ كعكٍ، وفتحنا زجاجةَ نبيذٍ كانت قد جاءت هديّةً في الأعياد.
طبعًا، استُثنيَت أختي الصغرى التي لم تدخلِ الثانوية بعد، فشربتُ أنا وأمّي فقط.
كان كلُّ شيءٍ مثاليًّا.
تناولنا على العشاء طبقي المفضّل، ضلوعَ اللحم الحارّة المطهوّة على البخار.
وفي الغد كنتُ أعتزمُ لقاءَ أصدقائي للاحتفالِ بطريقةٍ أكثرَ بهجة.
خلدتُ إلى النومِ بعد زمنٍ طويلٍ وأنا أحملُ قلبًا مطمئنًّا ومتفائلًا.
نعم. كان الأمرُ كذلك حقًّا.
“…….”
لكن لماذا فتحتُ عيني فجأةً في مكانٍ كهذا؟
“ما… هذا…؟”
كان المكانُ يشبهُ بيتَ دوقٍ أو قصرًا فخمًا، أشبهَ بدفيئةٍ زجاجيّةٍ مترفة.
تتدفّقُ أشعّةُ الشمسِ من النوافذِ العالية، تتراقصُ على زهورٍ بيضاءَ وحمراءَ وصفراءَ مُتفتّحةٍ في كلّ مكان.
وبينها تنتشرُ دُمى الأرانبِ المتعدّدةُ الأشكال، و تُصدرُ أصواتَ عصافيرٍ حقيقيّةٍ على نحوٍ غريب.
أمامَ المرآةِ الفاخرةِ التي تعكسُ كلَّ هذا البهاء، وقفت فتاةٌ غريبة.
شَعرٌ ذهبيٌّ طويلٌ يتدلّى حتى ما بعدَ صدرِها، وعَينان حمراوان متّقدتان تخفيهما نظرةٌ حادّة.
قوامٌ صغيرٌ نسبيًّا وجسدٌ رشيق.
فستانٌ أسودُ قصيرٌ يعلوه مئزرٌ أبيضُ مزيّنٌ بالكشاكش.
الفتاةُ التي نظرت إليّ بوجهٍ كأنّ العالمَ انهارَ أمامَها بدَت مألوفةً وغريبةً في آنٍ واحد.
كلّما رمشتُ بعيني، رمشتْ هي أيضًا في اللحظةِ نفسها.
حينها أدركتُ الحقيقة.
تلك…هي أنا.
لقد استيقظتُ فجأةً لأجدَ نفسي تحوّلتُ إلى فتاةٍ جميلةٍ بملامحَ قطة!
‘هل هذا حُلم؟ لا بدّ أنّه حلمٌ، أليس كذلك؟’
لكنَّ دفءَ الشمسِ الذي انسكبَ على رأسي كان واقعيًّا على نحوٍ لا يُنكَر، كأنّه يسخرُ من محاولتي البائسة لإنكارِ الحقيقة.
فجأةً تذكّرتُ حديثي مع أختي الصغيرةِ قبل أن أنام.
“احترسي يا أختي. أنتِ الآن في الحالةِ المثاليّة لتتجسدي في جسد أحدهم.”
“يا سلام! لقد ربّيتُكِ بصعوبةٍ لتبدئي الآن بلعنِي؟”
“ليست لعنةً! فقط فكّري، في القصصِ التي عن التجسد دائمًا ما يحدثُ الأمرُ لأشخاصٍ متشابهين. موظّفٍ مُجهَد، أو طالبٍ يدرسُ للبكالوريا، أو مثلِكِ تمامًا، من انتهى للتوّ من عامٍ ثانٍ من الدراسة لأجل الجامعة!”
كانت أختي مهووسةً برواياتِ الويب مؤخرًا.
ابتسمتُ وأنا أستسلمُ لنشوةِ الكحولِ ومهدهِ النعاسِ الوثير، وتمتمتُ:
“أنا حتى رأيتُ روايةً تتجسدُ فيها فتاةٌ مثلكِ…”
“أنتِ؟ تشاهدين رواياتِ الفانتازيا الرومانسيّة؟ وأيّ واحدةٍ شاهدتِ؟”
“أنا الأختُ الصغرى التي تُزعج أختها الثملة. و اختصرها إلى الأختُ الصغيرة المزعجة.”
“آه! سأترككِ وحدكِ!”
صرختْ أختي، وخرجت من الغرفةِ وهي تضربُ الأرضَ بخطواتٍ غاضبة.
صرختُ خلفَها: “أطفئي النور قبل أن تذهبي! النور، النورررر!” ثمّ غرقتُ في النوم.
وحين فتحتُ عيني… كنتُ هنا.
‘اللعنة.’
ما إن تذكّرتُ ما حدثَ حتى أحسستُ بعرقٍ باردٍ يتسلّلُ على ظهري.
لا يُعقَل… حقًّا؟
‘هل أنا… تجسدتُ في جسدِ أحدهم؟’
لكن لماذا؟ وكيف؟
أليسَ من المفترضِ أن يكون هناك شرطٌ ما قبلَ أن يحدثَ التجسد؟
لم أقرأ كثيرًا من هذا النوع، لكنّي أعرفُ القاعدةَ العامّة، التجسد يحدثُ بعد غرقٍ أو حادثِ شاحنة على الأقلّ.
أما أنا، فقد كنتُ فقط نائمةً بهدوء.
ما لم تكن هناك شاحنةٌ قد طارت إلى شرفتي في الطابقِ السابع!
“لا، الأهمُّ من ذلك…’
إن كان هذا تجسدًا حقًّا، ففي جسدِ مَن حللتُ؟ وكيف أعودُ إلى جسدي الأصلي؟
حدّقتُ طويلًا في المرآة.
الشَّعرُ الذهبيُّ، والعينان الحمراوان… رأيتُ مِثلَ هذا المظهرِ من قبل، لكن أين؟
‘لا…أنّ مثلَ هذه الألوانِ موجودةٌ بكثرةٍ في الرواياتِ والرسومِ المتحرّكة…’
يبدو أنّ عليَّ جمعَ المزيدِ من الأدِلّةِ لأفهمَ ما يجري.
سأبدأ بتفقّدِ المكانِ من حولي أوّلًا.
كنتُ على وشكِ التحرّك حين سُمِعَ صوتٌ منخفضٌ ورقيقٌ خلفي.
“يكفي الآن يا آنسة أليس، تعالي واجلسي هنا. كيف تجرئين على الشرود أثناء المقابلة؟ يا لكِ من شجاعة.”
‘أهناك…شخصٌ هنا؟’
التفتُّ ببطءٍ، تصدرُ من أرضيّةِ الرخامِ صريرٌ خفيف.
كانت هناك طاولةُ شايٍ صغيرةٌ أنيقة.
وأمامها جلسَ رجلٌ طويلُ القامة، مربوطُ الشَّعرِ الفضيِّ في خصلةٍ واحدةٍ تتدلّى خلف ظهره.
“حتى لو بدأتِ ترقصين وتغنّين الآن، فليس أمامي خيارٌ آخر على أيّة حال.”
رفعَ رأسَه عن رُزمةِ أوراقٍ كان يُقَلّبُها.
نصفُ وجهه مغطّى بقناعٍ أبيضَ من الفِراء بدا واقعيًّا كأنّه جلدُ أرنبٍ حقيقيّ.
الجزءُ الوحيدُ الظاهرُ من وجهه، أسفلُ القناع، ارتسمت عليه ابتسامةٌ ماكرة.
“أخيرًا نظرتِ إليّ. كيف حالُكِ؟ هل استعدتِ وعيكِ قليلًا؟”
لم أُجِبه، بل أنزلتُ نظري ببطءٍ نحو ما تحت ذقنه…
بدلةٌ بيضاءُ نُثِرتْ عليها نقاطٌ صغيرةٌ على شكلِ قلوبٍ حمراء، وربطةُ عنقٍ حمراءُ تتوسّطها قلوبٌ بيضاء.
وتحت ذلك قميصٌ أسودُ من قماشٍ شبكيٍّ شفاف.
وإذا أضفتَ إلى هذا المظهرِ قناعَ الأرنبِ المروّع ذاك…
‘إنّه منحرف.’
إنّه منحرفٌ حقيقيّ. ذاك الرجلُ ذو قناعِ الأرنبِ كان، كيفما نظرتَ إليه، منحرفٌ كاملَ الأوصاف.
يا إلهي، أيمكن أن تكون أختي الصغيرةُ اللطيفةُ قد قرأت روايةً يظهرُ فيها هذا الكائنُ الغريب؟
بل والأسوأُ من ذلك… هذا المشهدُ مألوفٌ بشكلٍ غريب.
أليسَت هي الرواية التي أوصتني بها من شدّةِ إعجابِها؟
“تعالي إلى هنا، أليس.”
لوّحَ الرجلُ بيده نحوي.
لم أرغب مطلقًا في التحدّثِ إليه، لكن حين ألقيتُ نظرةً حولي أدركتُ أنّه الشخصُ الوحيدُ في هذا المكان.
وفوق ذلك، كان يناديني باسم أليس من دونَ تردّد، ما يعني أنّه يعرفُ هذه الجسدَ الذي حللتُ فيه.
وإن أردتُ الحصولَ على أيّ معلومةٍ عن وضعي الحاليّ، فلا خيارَ أمامي إلاّ الاقترابُ منه.
‘تبًا.’
سحبتُ أنفاسي بعمق، وأجبرتُ قدميّ المتثاقلتين على التقدّمِ نحوه.
“أممم، عذرًا.”
“همم، همم. حسنًا. تمّ الأمر.”
دعاني ليقتربَ منّي، ثمّ تجاهلَني كأنّي غيرُ موجودة، مشغولٌ تمامًا بالورقةِ التي أمامه، يخطّ عليها شيئًا بسرعةٍ غريبة.
“همم.”
أصدرَ صوتَ تأفّفٍ قصيرًا، ثمّ فجأةً كَوّرَ الورقةَ بين يديه وأخفاها براحةِ كفّه، بحركةٍ تشبهُ طالبًا فقدَ عقلَه بعد عشرين ساعةً من المذاكرةِ المتواصلة.
‘كنتُ هكذا يومًا ما…’
راقبتُه بشيءٍ من الشفقة، فرأيته ينفخُ على قبضتِه “هوو” كأنّها ساخنة.
وفي اللحظةِ التي فتحَ فيها يده من جديد، لم تكن الورقةُ موجودة، بل سقطت منها ساعةٌ جيبٍ فضيّةٌ خاليةٌ من النقوش.
‘سِحر؟!’
أيعني هذا أنّ في هذا العالَمِ سِحرًا أيضًا؟
اتّسعت عيناي من الدهشة، وفي تلك اللحظةِ نهضَ الرجلُ من مقعدِه وأمسكَ بيدي، واضعًا الساعةَ في كفّي.
“حسنًا، خُذي هذه يا الآنسة أليس، لقد قرّرتُ توظيفَكِ.”
ارتسمتْ على الجزءِ الظاهرِ من وجهِه ابتسامةٌ مشرقة.
“قد يكون الأمرُ شاقًّا قليلًا، لكن ما المتعةُ في قصةٍ بلا صعاب؟ على كلّ حال، أجريتُ تعديلاتٍ بسيطةً على الساعةِ لتُسهِمَ في تسهيلِ الأمور.”
“…ماذا؟”
انقشعَ أثرُ السحرِ من رأسي، وعدتُ إلى وعيي.
توظيف؟ عن ماذا يتحدّث؟
“توظيف؟ وأين بالضبط؟”
رفعَ الرجلُ حاجبَه بدهشةٍ مصطنعة، وأجابَ بخفّةٍ:
“أوه، بالطبع في فندقِنا.”
فندق؟
فندق؟! أيّ روايةٍ تدورُ في فندقٍ كهذا…؟
‘مهلًا.’
نظرتُ إليه مجدّدًا.
ذلك الرجلُ الغريبُ المقنّعُ بقناعِ الأرنب، مألوفُ الملامحِ على نحوٍ مقلق.
وأنا — الفتاةُ ذاتُ الشعرِ الذهبيِّ والعينين الحمراوين، يُناديني أليس.
ثمّ هناك الفندق، والتوظيف…
شعرتُ كأنّ مطرقةً نزلت على مؤخرَةِ رأسي.
لقد مرّ وقتٌ طويل، لكنّ الذاكرةَ بدأت تعود. أيمكن أن يكون هذا…؟
“شكرًا لكِ على جهودكِ، أليس. أتمنّى أن تصنعي قصّةً لا تندمين عليها.”
مدّ الرجلُ إصبعه نحوي، ولمسَ جبهتي بخفّة.
“إذًا، إلى اللقاء، يومًا ما سنلتقي من جديد.”
لم أتمكّن حتى من المقاومةِ قبل أن يندفعَ جسدي إلى الوراء.
ابتسامته بقيتْ معلّقةً على وجهِه حتى اللحظةِ الأخيرة، تمامًا كما كان يفعلُ “ذلك” الشّخصُ الذي رأيتُه في مراهقتي.
“انتظِر…!”
لم أتمكّن من الإمساكِ به.
رمشتُ، وفجأةً وجدتُ نفسي أتدحرجُ على أرضٍ مغطّاةٍ بالعشبِ الطريّ، بعيدًا عن الدفيئةِ التي غمرها الضوء.
“هاه…!”
اعتدلتُ بسرعةٍ، ورفعتُ رأسي.
أوّلُ ما وقعَ عليه بصري، براعمُ زهورٍ بيضاءُ ضخمةٌ تكادُ تكونُ بحجمِ وجهي.
لكنّها لم تكن زهورًا حقيقيّة.
بل كانت مصابيحَ على شكلِ زهور.
شهقتُ بخفّة، والتفتُّ حولي.
كان المكانُ أقربَ إلى غابةٍ صناعيّةٍ متقَنةِ الصنعِ داخلَ مبنًى ضخم.
أعمدةٌ طويلةٌ خاليةٌ من الأغصان ترتفعُ إلى سقفٍ شاهقٍ، مغطّاةٌ بما يشبهُ لحاءَ الشجر.
الأرضيّةُ مفروشةٌ بعشبٍ أخضرَ قاتم، والزهورُ المتنوّعةُ التي تملأُ الأرجاءَ لم تكن سوى أضواءٍ ملوّنة.
لكنّ الانبهارَ لم يجد طريقَه إلى نفسي.
فالمكانُ كلُّه كان في حالٍ من الخراب.
الإضاءةُ محطّمة، والعشبُ محترقٌ في بقعٍ سوداء، والأعمدةُ التي تحملُ السقفَ مثقوبةٌ ومائلةٌ كأنّها ستنهارُ في أيّ لحظة.
خفضتُ نظري.
بين المصابيحِ المكسورةِ تناثرتْ طاولاتٌ مقلوبة، وأرائكُ مهشّمة، وأحذيةٌ مجهولةُ المالك، وأغراضٌ محطّمة.
ابتلعتُ ريقي بصعوبة.
‘هذا المكان… لا شكّ فيه.’
لم أعُد أستطيع الإنكار.
أنا أعرفُ تمامًا ما هذا المكان.
إنّه الردهةُ الرئيسيّةُ للفندق.
ومعرفتي به تعني أنّني أدركتُ أخيرًا نوعَ العالَمِ الذي تقمّصتُه.
‘اللعنة…’
لم تكن روايةً، ولا ويبتون.
يبدو أنّني… تقمّصتُ داخلَ لعبةِ محاكاةِ إدارةِ الفنادق <مرحبًا أيُّها الفندق السعيد>.
‘لقد انتهيتُ.’
قد يقولُ البعضُ إنّ التقمّصَ في لعبةِ إدارةٍ بسيطةٍ ليس بالأمرِ السيّئ،
فهي عادةً ألعابُ استرخاءٍ خفيفة، لا مأساويّةَ فيها ولا رعب.
لكن هؤلاء لا يعرفون الحقيقة.
فلعبة <مرحبًا أيُّها الفندق السعيد> لم تكن لعبةَ إدارةٍ عاديّة.
حين بلغتْ ذروةَ شهرتِها، أطلقَ عليها اللاعبون اسمًا خاصًّا
‘لعبةُ الرعبِ العلاجيّةِ النابوليتانيّة.’
كانت هذه اللعبةُ، في جميعِ جوانبِها… شيئًا يتجاوزُ المنطق.
(شرح: لعبة الرعب العلاجيّة النابوليتانيّة هو لقبٌ ساخر يشير إلى لعبةٍ تمزج بين الهدوء والعلاج النفسيّ من جهة، والرعب النفسيّ والحوار الغامض من جهةٍ أخرى، في مزيجٍ متناقضٍ يشبه نكهات الآيس كريم النابوليتانيّ.)
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"