5
ارتداء رباطٍ واقٍ على الصدر لا يمحو الألم المتأجج في عظامٍ تصدّعت. فالوجع يظل كشوكة مغروسة، يذكّر صاحبه في كل نفسٍ وحركة. وزاد الطين بلّة أنّ دان آه، التي لم تكد تلتقط أنفاسها بعد، قد قضت لحظات مرهقة وهي تركض بين الأجنحة لإنقاذ مريضٍ ساقط تحت وطأة التسمم الدوائي الحاد. وكان جسدها الآن يعلن تذمّره بصمتٍ موجع.
قال تشانغ هون وهو يضغط لسانه بأسى، ثم أزاح جسده قليلًا مفسحًا مكانًا:
“تعالي واجلسي هنا.”
لم تستطع دان آه أن ترفض تلك اليد الممدودة بالعطف، وكادت أن تجلس على الكرسي الذي قدّمه لها، لولا أنّ ممرضةً تقدمت بخطواتٍ عاجلة نحو محطة التمريض، فقطعت عليها حركتها.
“الدكتورة تشاي، من الأفضل أن تخرجي قليلًا.”
“…؟”
أشارت الممرضة إلى خارج غرفة الطوارئ قبل أن تواصل بصوتٍ جاد:
“يبدو أنّ والديك قد وصلا. يطلبان لقاءك الآن.”
“…والداي؟”
في تلك اللحظة، تجمّدت ملامح دان آه كالجليد. لم يغب عن بصرها أنّ تشانغ هون يرمقها خفيةً بقلق، لكن السيطرة على قسماتها كان أشبه بالمستحيل.
لماذا الآن؟
منذ الحادث المشؤوم لم يطرق والداها بابها قط. لم يخطر لها يومًا أن يظهرا فجأة، بعد كل تلك القطيعة، ليطالبا برؤيتها.
صحيح أنّ القانون يحفظ رابطة الدم فلا يُلغيها، لكنها كانت تعدّ نفسها، في الحقيقة، كابنة منفية من عائلتها؛ مطرودة دون إعلان.
وضعت إصبعها بين عينيها تضغط عليهما كمن يحاول أن يكبح الغليان داخله، ثم التفتت إلى زميلها:
“…الدكتور أوه، سأبتعد عن مكاني لبعض الوقت.”
ابتسم تشانغ هون ابتسامة ودودة وقال:
“اذهبي، لا تقلقي. والداكِ قد حضرا، فمن الطبيعي أن تسرعي إليهما. لعلّهما جاءا قلقَين عليك، وأنتِ بالكاد تفارقين هذا المكان منذ خروجك من المستشفى.”
أومأت دان آه برأسها، بابتسامة باهتة كطَيفٍ لا حياة فيه، ثم ولّت بظهرها.
أي إنسانٍ عادي كان ليتصور مثلما تصوّر هو: ابنة عصت أوامر والديها وأفسدت حفل خطوبتها، لكن تبقى ابنتهم في النهاية. وأي والدَين يطيقان الوقوف مكتوفي الأيدي بعدما أصيبت فلذة كبدهما في حادثٍ مهول؟
غير أنّ الحقيقة كانت عكس ذلك.
لقد سمعت همسات الممرضات ذات مرة:
ـ “والدا الدكتورة تشاي… لم يزوراها أبدًا، صحيح؟”
ـ “مهما كان غضبهما، كيف يتركان ابنتهما ملقاة بعد حادثٍ رهيب كهذا؟”
سمعتها صدفة، وتظاهرت أنها لم تسمع، ثم انسحبت بهدوء. لكن منذ تلك اللحظة، غدا النظر في وجوه الممرضات، وزملائها جميعًا، ثقيلاً عليها. كانت تخال أن العيون كلها تتهامس خلفها بالسؤال نفسه: لماذا تخلّى عنها والداها؟
وحينها، كانت تفتقد راكيونغ أكثر من أي وقت مضى. كان وحده ملاذ سرّها، الوحيد الذي كان يمكنها أن تفتح أمامه أبواب صدرها المثقل.
دفنت دان آه اضطرابها في أعماقها، وسارت نحو مقهى المستشفى حيث قيل إن والديها ينتظران. ما إن ولجت المكان حتى وقعت عيناها عليهم. وفي اللحظة عينها، تصلّبت وجوههم ما إن أبصروها.
“…مرحبًا بكم.”
ما إن خرج السلام من فمها حتى انطلقت أمها، “دو يونجو”، كالسهم بلسانٍ لاذع:
“مرحبًا؟! وهل تجرؤين على إلقاء التحية وأنتِ مَن جلب العار إلى عائلتها؟! لم يكفكِ أن دنّست قاعة خطوبتكِ بسلوكك المشين حتى تظهري أمامنا بهذا الجبين السميك! أهذا جزاء من يربي…”
“اهم، اهم!”
قاطعها والدها، “تشاي جونغتايك”، بسعالٍ متعمدٍ كأنه سيف يقطع سيلها الجارف.
“اخفضي صوتكِ، يا امرأة! أأنتِ فاقدة رشدك لتلقي بمثل هذه الكلمات الطائشة في مكان عام؟ وأنتِ، اجلسي يا دان آه.”
لكن الأم لم تلن:
“أتريدني أن أُمسك لساني أمام ما اقترفته؟ بدل أن ترد الجميل، دنّست اسمنا! ألم أقل لك مرارًا: كفّ عن التبذير على ابنة غيرك، واهتم بابنتك الحقيقية أولًا؟”
ثار جونغتايك بدوره، وصوته يجلجل في القاعة:
“كفى! وأي تقصيرٍ ارتكبته بحق سونغ آه؟! ألم أرسلها إلى الخارج لتدرس؟ ألم أغدق عليها من المال ما يكفيها لتعيش مكرّمة؟!”
قهقهت يونجو بمرارة لاذعة:
“أحقًا تزعم أنها رغبت في السفر؟ لقد دفعتها أنت دفعًا فقط من أجل سمعتك! أما المال… فأي فضلٍ تباهي به وأنتَ تذرّ عليها الفتات، بينما تبشّر الآخرين بأنك ستورّث شركتك لابنٍ ليس من صلبك؟!”
“ليس من صلبي؟! جونهو ابن أخي! وريث آل تشاي، وسليل العائلة الوحيد! ولو أنكِ أنجبتِ لي ابنًا ذكرًا لما فكرت لحظة في الأمر!”
“ها قد عدنا! ستلقي باللوم عليّ؟! أيلوم الرجل امرأته لأنها لم تُرزق بولد؟ كأنّ الإنجاب بيدها!”
تنهدت دان آه بعمق، وقد تابعت والديها يتناحران متناسين وجودها. ارتفعت الأصوات، وتحوّل المقهى إلى مسرح صاخب، والأنظار كلها تحدّق بهم باستغرابٍ واستهجان.
ثم، وكأنهما استفاقا إلى ما حولهما، خفض الزوجان صوتهما شيئًا فشيئًا. ارتسمت على محياهما ملامح حرجٍ شديد، فلطالما حرصا أن يبدوا أمام الناس مثاليَّين، لا تشوب حياتهما شائبة.
“…هاه.”
ارتشف جونغتايك كأس الماء البارد دفعة واحدة، وكأنه يغسل فيه بقايا غضبه. أغمضت يونجو عينيها بدورها، متحسسة أنفاسها، تحاول استعادة وقارها.
قال جونغتايك أخيرًا:
“لقد خرجتِ من المستشفى إذن.”
في تلك اللحظة، تيبّست دان آه في مقعدها. لمجرد أن عينيه الثاقبتين ثبتتا عليها، شعرت أن جسدها ينكمش حتى يكاد يختفي.
أمٌّ لا ترى فيها سوى عارٍ متحرك، وأبٌ لا يراها إلا أداة نافعة…
تحت وطأة تلك النظرات، كانت دائمًا سجينة، تستجدي منهم ما لن يعطوه أبدًا. حتى بعدما أغلقت قلبها عن طلب حبهم، ما كانت قادرة على ادعاء اللامبالاة.
ثم قال بصوتٍ بارد:
“لقد جاءنا عرض زواج جديد. هذه المرة… لا نريد خزيًا جديدًا يلطخ اسم العائلة.”
“…ماذا؟ عرض زواج؟”
تسمرت عينا دان آه بالذهول. كيف يمكن أن يكون ما سمعته صحيحًا؟! لم يمضِ سوى وقتٍ قصير على خطبتها المدمّرة، وقد علمت كل البيوت بما جرى. ومع ذلك… عرض زواج آخر؟!
نظرت إلى والدها متمنية أن تكون قد أوهمت نفسها، لكن صوت أمها اخترقها كالطعنة، مؤكّدًا الحقيقة:
ارتسمت ابتسامة جانبية على وجه دو يونجو، ابتسامة ملؤها الرضا والغبطة. ابتسامة بدت على النقيض تمامًا من اشمئزازها حين جاءها عرض سابق من مجموعة “جينسونغ”.
هذه المرة… كانت السعادة متلألئة في عينيها بوضوح.
قال والدها بصوت متثاقل يحمل في طيّاته وقع الصفقات لا دفء الآباء:
“رئيس شركة إل-وون كابيتال يرغب أن يتخذكِ زوجة له. سمعتُ أنّ ابنته هناك أصغر منكِ بعامين على الأكثر… أليس من المبهج أن يكون لديكِ أبنة في عمركِ؟”
تجمدت الدماء في وجه دان آه حتى ازرقّت ملامحها. لم تعد تسمع سوى صدى ضجيج داخلي كطنينٍ يملأ أذنيها، وانقطع حبل إدراكها عن كل كلمةٍ تالية تخرج من فم والديها.
لم يبقَ في أعماقها سوى صوتٍ واحد يجلجل، صوت راكيونغ…
ــ “إن أردتِ أن يتخلّى والداكِ عنكِ نهائيًا، فلا يكفي أن تتظاهري بامتلاك حبيب. عليكِ أن تصنعي صدمة كبرى، جرحًا لا يندمل.”
‘لكن لا… أخطأنا، أنا وأنتَ معًا.
لم يكن والداي ليتنازلا عني لمجرد تلك الحيلة.
كان ينبغي أن أتوقع… أن يتاجروا بي ولو بثمن بخس، أن يبيعوني كما تُباع السلع الكاسدة.‘
شعور خانق من المهانة سحق كتفيها، ثقلٌ من العار كاد أن يطحن عظامها. أرادت أن تضحك سخريةً من نفسها، غير أن ما تسرّب من بين شفتيها لم يكن إلا شهقات البكاء.
‘لماذا إذن فعلتُ كل ذلك؟ لأي غاية جازفتُ بكل شيء؟‘
فراغ مروع اجتاح صدرها، وإدراك قاسٍ مزّقها: لو أنّها لم تُقدم على شيء، لربما كان راكيونغ ما يزال حيًّا الآن.
وفيما كانت دان آه غارقة في دوامة اليأس، اخترق مسامعها صوت والدها كسهم مسموم:
“لقد نال جزاءه. أفسد عرس بيتٍ عريق، ثم ماذا؟ قيل لي إنه يتيم بلا والدين أصلاً! تبا، بأي عقلٍ ارتبطتِ بذلك الغريب الذي لا أصل له ولا فصل؟”
قفزت دان آه من مكانها، وصوتها يرتعش كالسيف المجلجل:
“إياك أن تتفوه بمثل هذا ثانية!”
توقف تشاي جونغتايك وزوجته يونجو عن الكلام، وقد باغتهما غضب ابنتهم الذي لم يعتاداه. لكن دان آه لم تأبه لدهشتهما، وارتجف جسدها كله وهي تصرخ من جديد:
“راكيونغ ليس شخصًا يُهان بمثل تلك الكلمات! لم يكن يومًا عالة، ولم يعش لحظة واحدة حياةً مخزية تستحق هذا الاحتقار!”
غشّى الضباب عينيها حتى تلاشت ملامح والديها من أمامها. لم ترَ سوى ابتسامة راكيونغ تلك الابتسامة المشرقة التي بدت، حتى في قلب هذه المأساة، أشبه بنور ساذج يتحدى الظلام.
“إن أردتم اللوم، فالوموني أنا. كل السهام صوبوني وحدي. أما هو… ذلك الفتى… فلا.”
كان من المستحيل أن تدع ذكراه تُداس بتلك الطريقة، أو أن يُسلب حتى حقه الأخير في أن يُذكر بكرامة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"