أخذت يونجو تحدّق في ابنتها التي لا تكفّ عن الدوران خارج البيت، وقلبها يزداد غصّة. راحت تُخمّن الأسباب على هواها، حتى عضّت شفتيها من الغيظ.
“استفيقي يا فتاة! هكذا تصنعين السبب الذي يجعل أباكِ غير قادر على نسيان فكرة تبنّي جونهو كابنٍ له!”
فالتفتت سونغ آه محتجّة:
“وما دخل ذلك الفتى الآن؟! وكم مرّة أقولها؟! أنا لا أنوي وراثة شركة أبي! لا أريد صداعاً ولا حسابات تُرهق الدماغ، تلك الحياة أبغضها!”
شهقت يونجو غاضبة:
“سونغ آه، أنتِ حقاً…!”
لم تتمّ عبارتها، إذ دوّى رنين هاتف جونغ تايك فجأة، فالتقطه، وما لبث أن تجهّم وجهه وقد اتّسعت عيناه. ثم أمر بصرامة:
“اصمتي! أنتِ، وهي أيضاً.”
ساد صمتٌ ثقيل. انتهزت سونغ آه الفرصة لتقشير حبّة ليتشي أخرى وتضعها في فمها، قبل أن تهمّ بالقيام.
أما جونغ تايك، فقد أجاب الهاتف بانحناء في صوته:
“يا لها من مفاجأة، سيادة الرئيس بارك! ما أطول الغياب… كنتُ أنوي الاتصال بك قريباً، غير أنني ـ بسبب شأنٍ يخص ابنتي الكبرى ـ لم أجد وجهاً أواجهك به.”
ارتجف قلب يونجو وهي تُرهف السمع. لقد كان المتّصل رئيس مجموعة جينسونغ بنفسه.
أيعقل أنه يتحدّث عن إعادة فتح ملف الخطبة من جديد؟!
لا إرادياً، راحت تقضم أظافرها، وتذكّرت كيف أنّ زوجها أصرّ على ذلك الزواج حتى انهارت يومها، وكيف جاء خلاصها الوحيد حين أطاحت دان آه بحفل الخطوبة بنفسها، وفرّت مع رجل أمام العيون. يومها غضب زوجها حتى ثار، لكنها في أعماقها كانت تكاد تطير من الفرح. بل شعرت بالارتياح إذ انقطع ما بينها وبين تلك الفتاة البغيضة.
فلماذا الآن، بعد كل ذلك، يتّصل بهم رئيس جينسونغ؟
وبينما هي مشغولة بوساوسها، تجمّد جسد زوجها. توقف عن الكلام فجأة، وارتجف صوته وهو يتمتم:
“ماذا تقول؟ ابنتي…! لا، مستحيل. إنّها ليست من تفعل مثل هذا. آه… بلى، مستحيل أن تكذب. أجل… أجل بالطبع.”
ثم راح ينحني مراراً كأنّ الرجل واقف أمامه، وهو يعتذر بلا انقطاع:
“أإلى هذا الحد أُصيب؟ يا إلهي… حقاً، لا أجد ما أقول. أرجوك اقبل عتذاري. سأستدعيها فوراً وأسألك الصفح… لا، بل سأجعلها تأتي إليك لتعتذر بلسانها. سامحني… أرجوك، سامحني.”
حتى سونغ آه التي همّت بالصعود إلى غرفتها، توقفت مذهولة. لم ترَ والدها في حال كهذا قطّ.
“أجل، سيادة الرئيس. معذرةً، معذرةً… نعم، بالطبع. إلى اللقاء…”
لكن الخط انقطع قبل أن يتم كلماته. ظلّ متجمداً، والفم مطبق، والنفس محبوساً. حتى ضاقت يونجو ذرعاً، فانفجرت تسأله:
“يا رجل! ما الذي جرى؟ لماذا يتّصل بك رئيس جينسونغ؟ آه!”
صرخت فجأة، فقد رمى جونغ تايك هاتفه أرضاً بكل ما أوتي من قوّة، فتحطّم إلى أشلاء مبعثرة.
وصاح هائجاً:
“اتصلي بدان آه حالاً! لتعود إلى البيت في التو واللحظة!”
تلعثمت يونجو، وقد هالها الغضب المتفجّر في صوته، ثم أسرعت تخرج هاتفها وتتصل، لكن ما من مجيب. فقط رنين يتردّد بلا نهاية.
“لماذا لا تردّ؟!” تمتمت بغيظ، ترقب عيني زوجها المحمومتين، والريبة تتأجّج في قلبها. من المؤكّد أن الأمر يخص تلك الفتاة البغيضة. تلك الوغدة التي لا تكفّ عن جلب النحس إلى هذا البيت.
زمجر جونغ تايك:
“ماذا؟ هل ستأتي؟!”
أغلقت الخطّ بيأس: “لا تجيب. بل أظنها تتعمّد تجاهل المكالمة.”
فقاطعتها سونغ آه ببرود، مستندة إلى الدرابزين: “ربما مشغولة بالعمل. ليست مثلي أضيع وقتي. لديها مرضى تتابعهم، طبيعي ألا تردّ.”
غلت الدماء في عروق يونجو. هل هذه تدافع عن دان آه الآن؟! وانتصب حاجباها بحدّة. لكن سونغ آه لم تُبدِ أيّ خوف، بل رفعت ذقنها متحدّية.
انفجر الأب من جديد، كأنه فقد السيطرة: “أرسلي لها رسالة إذن! لا… بل اتصلي بمدير مكتبي، ومرّري له أوامري: ليأتني بدان آه هنا فوراً! وإن رفضت… فليجرّها جراً!”
كان صوته قاطعاً، لا يشبهه أبداً. كلمات لم يسبق أن نطق بمثلها من قبل. هو الذي طالما أحبّ أن يظهر بصورة الأب الوقور والعائلة المثالية. فما أشدّ ما بلغ به الغضب هذه المرّة.
أحسّت يونجو أن النار ستطولها إن تلكأت، فسارعت بالاتصال بمدير المكتب. “نعم، يا مدير يانغ… أنا. فوراً، اجلب دان آه إلى البيت، ولا تقبل أعذاراً.”
ثم، وهي تخفض الهاتف عن أذنها، ارتسمت على وجهها ابتسامة دقيقة، تكاد لا تُرى. أجل، لقد أزعجها أن ينفث زوجها غضبه عليها، لكنها سرعان ما رأت في الأمر وجهاً آخر. فما جرى، على فداحته، لا يمتّ إلى مخاوفها هي بصلة. في النهاية، لم يكن الوضع سيئاً إلى الحدّ الذي ظنّت.
✦✦✦
“…هاه؟”
كانت قد اغتنمت هدوء لحظة خالية من المرضى، فخرجت من غرفة الطوارئ تفكر أن تحتسي فنجان قهوة. عندها وقعت عينا دان آه على سلسلة طويلة من المكالمات الفائتة، فانقبض ما بين حاجبيها. لاحظت جونها حركتها وهي تتوقف في منتصف تثاؤبها، ثم مالت برأسها نحوها.
“ماذا؟ هل حدث شيء؟”
“آه… لا، لا شيء.”
بادرت دان آه بالإجابة مسرعة، ثم أعادت الهاتف إلى جيبها.
‘…ما الأمر بالضبط؟’
كانت جميع المكالمات من والدتها. قد يراها البعض مسألة عادية، لكنها بالنسبة لداناه لم تكن كذلك… خصوصًا بعد أن وصل الخلاف بينهما إلى حدّ الحديث عن قطع صلة الدم.
فماذا عساها أن تفعل الآن؟
كان من البديهي أن تعاود الاتصال بعد أن رأت تلك المكالمات، لكن دان آه لم تستطع أن تقدم على ذلك بهذه السهولة. اكتفت بأن تعبث بالهاتف في جيبها، مترددة. فهي تعلم يقينًا أن والدتها لم تتصل لتلقي عليها تحية ودودة أو لتبث إليها أشواقًا… فالعلاقة بينهما لم تكن أبدًا على هذا النحو.
“هممم.”
وبينما تباطأت خطواتها في حيرتها، كانت جونها قد سبقتها خارج الطوارئ. وما أن خرجت حتى مدّت ذراعيها ثانية في تثاؤب، ثم قرّبت أنفها من زيها الطبي المبتل عرقًا، وأخذت تشمشم ككلبة صغيرة تتتبع رائحة.
انقبضت ملامح إنهو، الذي كان ينعش نفسه بكوب قهوة في الخارج، لكنه لم يتجاوز ذلك. في المعتاد كان سيوبّخها قائلاً: أي أفعال مقززة هذه؟ لكن هذه المرة لزم الصمت.
أما جونها، التي كانت معتادة أن تمازحه بجعل الزي ذي الرائحة يقترب من وجهه، فقد اكتفت هذه المرة بأن تنفض ثوبها بخفة وتشيح بوجهها، مترقبة ردود الأعين من حولها.
كان واضحًا للجميع أن ثمة جوًا غريبًا يسود بين الاثنين، جوًّا لم يخفَ على أحد.
“همم… آثار الاعتراف بدأت تظهر. إحم إحم… آه! ما بك!”
كان سوك وونغ قد تمتم لنفسه وهو يداعب ذقنه، لكن تشانغ هون، الذي خرج تواً، أفزعه بإسكات فمه بيده. تفلّت سوك وونغ وهو يتذمّر من ملوحة كف صديقه ثم دفعه بعيدًا.
“لماذا تسكتني؟! كل ما قلته رأيي فحسب. اعتراف جونها الصاخب في غرفة الطوارئ صار حديث المستشفى بأسره… آه! لمَ ثانية؟!”
“ومن الذي أحضره إلى هنا؟ أوه تشانغ هون، أليس أنت؟”
زمجرت جونها وهي تشتعل غضبًا وقد احمرّ وجهها. في حين تنفّس تشانغ هون بضيق وهو يرمي نظرات لوم نحو سوك وونغ.
“أنا لم أحضره! هذا الأحمق جاء من تلقاء نفسه لأنه يشعر بالملل. يا فتاة، اذهبي إلى قسم CS، أليس عندك عمل؟!”
ركله بتمثيل خفيف محاولًا طرده، لكن بلا جدوى. فحتى سوك وونغ، رغم تهوره، كان في أعماقه يحمل قلقًا حقيقيًا على الموقف، ولم يكن ينوي أن يرحل بهذه البساطة.
أما تشانغ هون، ورغم أنه لم يشهد الواقعة بنفسه ذلك اليوم، إلا أن قلبه كان مثقلًا بالقلق بدوره، فلم يواصل الركل التمثيلي أكثر من مرتين، ثم تركه وشأنه.
“…على الأقل انتهى الأمر بتخفيض الراتب فقط، وهذا حظ حسن.”
“وهل ستعوضني من مالك عن الخصم من راتبي؟!”
قذفته جونها بنظرة حادة، متذمرة، ثم عادت تمرّر أصابعها في شعرها بيأس.
“صحيح… في النهاية، لا يهم إن خُفِّض راتبي أم لا. فأنا على أية حال لا أستطيع الخروج من المستشفى……. أوه، إجازتي الضائعة.”
“لقد كنتِ تعيشين في المستشفى أصلًا. ما الجديد في الأمر…….”
“جرّب أن تُحشَر في المستشفى مئة يوم كاملة بلا إجازة! أيّ إنسان ستدور عينه من الجنون!”
التعليقات لهذا الفصل " 35"