فهم المقصود على العموم، ولهذا أعاد قياس حرارته وأخبرها بالفعل. لكن… كيف أرسلت الرسالة بهذا الشكل المليء بالأخطاء دون أن تُصحّحها؟!
لا بد أنّ أمراً خطيراً قد وقع… أمراً لم يترك لها حتى فرصة لتصحيح كلمة واحدة.
وكلماتها نفسها كانت تقول: “لجنة تأديبية…؟”
رفع السكرتير رأسه فجأة بعد أن التقط همهمة سيده. “عفوًا، سيدي؟ ماذا قلت الآن؟”
كان مين-جون ينقر بإصبعه على سطح المكتب بنغمة رتيبة، وهي عادته حين ينغمس في التفكير العميق. ثم هز رأسه ببرود: “لا شيء. لا تشغل بالك.”
لكن السكرتير لم يقتنع، فحركة إصبعه تلك لم تكن تُخطئ أبداً: إنها نذير قلقٍ كبير.
وما لبث أن قاطعه صوت مين-جون الحازم: “هناك أمر أريدك أن تتحقق منه يا جونغ.”
“أمرك، تفضّل.”
تردّد مين-جون لحظة، وهو الذي قلّما يتردّد. بدا الأمر غريباً حتى في عيني سكرتيره. وأخيراً قال بصوتٍ منخفض وثقيل: “ابحث لي عمّا جرى في مستشفى جامعة كوريا… لا، بالأخص في قسم طب الطوارئ.”
اتسعت عينا السكرتير بدهشة: “هل حدث أمرٌ ما للدكتورة تشاي؟!”
بدا وكأنّه يتحدث عن قريبٍ له، وهو الذي كثيراً ما كان يتواصل معها بالنيابة عن سيده.
فتجهم وجه مين-جون للحظة، إذ لم يُعجبه ذلك القرب الخفي، لكنه سرعان ما أخفى شعوره خلف نبرة متزنة:
“هذا ما أريد أن أعرفه. تحقق مما جرى منذ الأمس وحتى اليوم.”
“حاضر، سأتأكد فوراً…”
لكن مين-جون قاطعه بسؤال آخر فجائي:
“كم شخصاً يملك حق الاطلاع على جدولي الشخصي؟”
ارتبك السكرتير قبل أن يجيب:
“خمسة أشخاص، بما فيهم أنا، سيدي. لكن… لماذا تسأل؟”
ابتسم مين-جون بسخرية باردة: “رئيس المجلس كان على علمٍ بمواعيدي الخاصة.”
شهق السكرتير وقد أدرك خطورة الأمر، وتجمد وجهه: “سأتقصّى ذلك حالاً وأُصلح الوضع. عذراً، سيدي!”
كان جدوله الشخصي أمراً مقدساً، لا يطّلع عليه أحد حتى عائلته. وإن علم به الرئيس… فهذا لا يعني سوى شيء واحد: خيانة من الداخل.
تمتم السكرتير بصوتٍ مرتجف:
“سأتقصّى الحقيقة وأتحمل المسؤولية كاملة… حتى لو اضطررت لتقديم استقالتي.”
رفع مين-جون حاجبيه وضحك بخفة جليدية:
“ألا يكون قصدك أن تترك العمل؟ هذا ليس حلاً.”
عجز السكرتير عن النفي، فكشف صمته أنه كان ينوي ذلك فعلاً . فتنهّد مين-جون في داخله: يا لهذا الرجل المستقيم أكثر مما ينبغي…
ورغم ذلك، ابتسم وقال:
“صحيح أنّني لا أبرّئك من كل اللوم، فقد قصّرتَ في ضبط مَن هم دونك… لكن لا تفكر بالرحيل. فأنا أنوي أن أستنزف جهدك لسنوات طويلة قادمة.”
ارتعشت عينا السكرتير بامتنانٍ عاطفي، حتى كاد صوته يختنق.
أما مين-جون فأشار له بيده أن يخرج، وعاد إلى أوراقه.
لكن ما لبث أن توقف بعد بضعة أسطر فقط، ليعود بصره إلى هاتفه الخامل. ذلك المستطيل الأسود الذي بدا وكأنه لن يرن أبداً…
* * *
“جربي هذا أيضاً يا سونغ آه. يا خالة! ألم يجهز طبق الضلوع المطهية بعد؟”
كانت يونجو تكدّس الأطباق أمام ابنتها سونغ آه، وكأنّ كل ما وضعته لا يكفي، ثم عادت تُلحّ على الخادمة. لكن سونغ آه قطّبت جبينها، ودَفعت كل ما أمامها بعيداً دفعة واحدة.
“آه، يكفي! لستُ خنزيرة كي ألتهم كل هذا… قلت لكِ، سأأخذ بعض الملابس والأغراض فحسب ثم أرحل.”
يونجو، وقد اعتراها الأسى، قبضت على ذراع ابنتها النحيلة، ثم قالت متحسّرة:
“أهكذا تعودين إلى البيت بعد طول غياب، ثم ترفضين حتى أن تتناولي وجبة معنا؟ انظري إلى نفسك… لقد هزلتِ! هذه الذراع؟! عودٌ يابس من خشبٍ أجوف أجمل منكِ!”
كان ذلك المشهد كافياً ليستفزّ الأب، جونغ تايك، فراح يراقب بصمت للحظة قبل أن ينقر بلسانه مستنكراً:
“هكذا يكون جزاء الفتاة التي لا تعرف سوى الدوران خارج البيت. عودي حالاً إلى المنزل!”
وسرعان ما أيّدت الأم كلام زوجها:
“أبوكِ على حق. لمَ تتركين بيتكِ عامراً، وتتشبّثين بالعيش خارجه؟ ما الذي مضى منذ عودتك من بعثتك الدراسية؟ بالكاد أيّام.”
“أوف… قلت لكما يكفي. لقد اعتدتُ على هذه الحياة، وأنا مرتاحة هكذا!”
ردّت سونغ آه متبرّمة، تفرك ذراعها بيديها كما لو كانت ترتجف من الضيق.
فتنهّدت يونجو، وأطلقت عينيها شزراً قبل أن تقترح من جديد:
“على الأقل، سأستأجر لكِ شقة أو أستوديو مريحاً تعيشين فيه!”
لكن الابنة أجابت بخفةٍ مستهزئة:
“ولا هذا أريده.”
ثم أزاحت جسدها إلى الوراء في الكرسي، وثنَت ركبتيها، وأسندت ذقنها بينهما، لتأخذ حبّة ليتشي وتقشرها برشاقة قبل أن تضعها في فمها.
كان ذلك هو الطبق الوحيد الذي لامسته يداها من بين كل ما ازدحم على المائدة، حتى بدا أن قشوره قد تكدّست حولها، فيما بقيت الأطباق الأخرى كما هي.
يونجو لم تتمالك نفسها من الغيظ. لقد كانت ابنتها، هذه الفتاة النحيلة، تأبى الطعام الذي يحبه الجميع، وتأبى الرفاه الذي يسعى له الكل. ومع ذلك، بقيت هي الوحيدة التي يذوب قلبها أمامها مهما فعلت. ابنتها الوحيدة، سونغ آه.
“حسناً… فأين تعيشين الآن؟”
“في غرفة صغيرة، مع صديقة لي.”
“…ماذا؟ غرفة صغيرة؟!”
كانت الإجابة كالصاعقة. حتى يونجو، الأم التي تُلين قلبها دائماً أمام ابنتها، لم تحتمل سماع هذا. فتسمرت عيناها، ثم صاحت بصوتٍ حادّ:
“اخرجي من هناك فوراً! عودي إلى بيتك، أو على الأقل اقبلي بالمسكن الذي أستأجره لك! غرفة ضيقة؟! أيّ كلامٍ هذا؟ أيّ مهانة هذه؟!”
لكن سونغ آه ردّت ببرود: “ولِمَ لا؟ يعيش فيها غيري ويكفيهم. هل أنا متسولة على قارعة الطريق؟ لا، بل أعيش كما أريد.”
زمّت يونجو شفتيها، لا تكاد تستوعب برود ابنتها. لم تفهم أبداً كيف لابنة تحب الترف والمرح أن تختار مثل هذه الحياة البائسة.
ثم تمتمت في نفسها بمرارة: “منذ صغرها وهي هكذا… دائماً تُقارن نفسها بدان آه، وتحتكّ بمن هم دون مستواها…”
ولم تلبث أن اشتعل غضبها أكثر: “بل ليس دان آه وحدها السبب، بل جونهو أيضاً!…”
إذ منذ أن وُلدت سونغ آه وهي ترى أن كل ما كان يجب أن يكون لها قد سُلِب منها، فقط لأنها وُلدت أنثى. كيف لقلبها ألّا يمتلئ بالغيظ والمرارة؟
التعليقات لهذا الفصل " 34"