لم يكن إلا كلامًا عابرًا، غير أنّ جونها فتحت فمها دهشةً من ردّة فعل دان آه، ثم ما لبثت أن انتشت محركة كتفيها بحماس.
‘لقد انكشفتِ يا تشاي دان آه.‘
فقد كانت تصرّفاتها الغريبة في الآونة الأخيرة مثار ريبة بين الجميع. بعضهم قال إن لها حبيبًا جديدًا، وبعضهم أنكر ذلك. ودار بينهم رهان، لكنه سرعان ما تلاشى لعدم وجود أي دليلٍ قاطع.
غير أنّ اليوم ظهر البرهان جليًّا. كادت جونها أن تنسي وضعها العصيب وتنطق مجددًا، لولا أن إينهُو سبقها مستنكرًا:
“الدكتورة شين، أيّ جرأة هذه؟ في مثل هذا الموقف، وتلقي بالنكات؟”
“هاه؟ أي نكات! ألم تسمع؟ الدكتورة تشاي اعترفت أن لها حبيبًا!”
احتجّت جونها بوجهٍ متظلمٍ على تعنيف إينهُو، لكن قبل أن تتفاقم مجادلتهما، ارتفعت أصداء خطوات تقترب من آخر الممر.
كانوا أعضاء لجنة التأديب المكوَّنة من أساتذة مستشفى جامعة كوريا.
نهض إينهُو وجونها ودانا جميعًا في اللحظة نفسها، لكنّ الأساتذة مرّوا بجوارهم دون أن يلقوا عليهم نظرة، متجهين مباشرة نحو قاعة الاجتماعات. وحده البروفيسور جانغ كيهون، أستاذ جراحة الصدر، توقّف لثوانٍ قبالتهم قبل أن يمضي في طريقه.
“……آه، هذا يبدو وكأنه كارثة.”
تمتمت جونها وهي تحدق بقاعة الاجتماعات. فزِع إينهُو وأسرع ليكمّ فمه، غير أنّ جونها واصلت قائلةً:
“ألا أقول الحق؟ ألم ترَ؟ كان مدير مركز العيون بينهم! بعد تلك الحادثة الأخيرة، صار يعضّ على نواجذه كلما رآنا. رأيت الابتسامة التي علت وجهه؟ كأنما وجد ضالته!”
ما إن وصلت كلمات جونها إلى سمع دانا، حتى اكتسى وجهها بالقتامة. لقد فهمت فورًا أن المقصود هو تلك الفضيحة المرتبطة بعقار علاج التهاب العنبية.
صحيح أنّ شركة “غوسان للأدوية” سحبت المنتج طوعًا ليُطوى الملف، لكنّ مدير مركز العيون مع عددٍ من أساتذة القسم تعرّضوا للتأنيب بسببه.
ومنذئذٍ، كان المدير يتحيّن الفرصة ليقتنص أي هفوة من دانا وزملائها في قسم الطوارئ، يضخّم ما يُمكن التغاضي عنه، ويحوّله إلى قضيّة.
“……أعتذر منكما.”
همست دان آه بخجلٍ وهي تنحني لجونها وإينهُو. لكن جونها انتفضت بعينيها الواسعتين ولوّحت بيديها نافية:
“لماذا تعتذرين يا دكتورة تشاي؟ لا، لا. لم أقصد لومكِ. آه! لكن، ألا ترين أنّ الحظ وقف معنا؟ أليس البروفيسور جانغ كيهون عضوًا في اللجنة؟ طبيب بارد الملامح، دافئ القلب، صاحب البشرة العاجية! نحبّك يا جانغ كيهون! هاهاها!”
“كُفّي عن الثرثرة يا شين جونها.”
زمجر إينهُو وهو يغطي فم زميلته، متوجّسًا أن يتسرّب صوتها المزعج إلى القاعة.
“أوف، حسنًا، حسنًا! اتركني!”
تحوّل وجه جونها إلى قرمزيّ حين أحسّت بيد إينهُو تطبِق على وجهها، فأخذت تتذمر دون جدوى.
وفي تلك اللحظة، فُتح باب القاعة.
تجمّد الثلاثة فجأة، وشدّوا قاماتهم منتصبةً كما لو لم ينبسوا بكلمة. وبصوتٍ رسمي، قال الموظف الذي فتح الباب:
شهقوا معًا نفسًا عميقًا، ثم خطوا بخطوات ثقيلة نحو القاعة.
“هذه الحادثة لا يمكن التغاضي عنها مطلقًا! أيُعقل أن تمد طبيبٌة يدها بالضرب لمريضٍ جاء يطلب العلاج؟! هذا عمل يجرّد المرء من أهلية الطب! بل هو سببٌ كافٍ لسحب رخصتها إلى الأبد!”
كان ردّ مدير مركز العيون تمامًا كما توقّعته جونها. قرع الطاولة بقوة وهو يطالب بإنزال أشدّ العقوبات على الأطباء الثلاثة.
لكن البروفيسور جانغ كيهون، الجالس قبالته، مال بجسده إلى الأمام وقال بصوتٍ هادئٍ متماسك:
“غير أنّ علينا أن نضع ملابسات الموقف في الحسبان. فالمريض هو من بدأ بالسباب والاعتداء. وقد شهد على ذلك الطبيب المقيم والممرضة المسؤولان في تلك اللحظة. حتى تسجيلات الكاميرات الداخلية وثّقت الأمر بدقّة.”
“ومع ذلك، العنف غير مبرَّر إطلاقًا! أيعني أنّه إذا ضربنا أحدهم، نردّ الضرب؟! أهذا هو منطقنا؟! نحن لسنا عصابة بلطجية! آه، لكن ربما… أطباء الجراحة الصدرية عندكم يملكون شيئًا من هذه الطبيعة؟ ليسوا سوى جزارين يلوّثون أيديهم بالدماء كل يوم!”
لم ينتظر حتى يُتمّ جانغ كيهون حديثه، بل عاجله بسخرية لاذعة، مطلقًا إهانة شاملة بحقّ جراحي الصدر. كانت كلماته فادحة إلى حدٍّ جعل الحضور يشهقون في مقاعدهم.
حتى هو نفسه أدرك أنّه تجاوز الحد، فأخذ يلوّح بيديه نافيًا:
“آه، لا، لا، بروفيسور جانغ، رجاءً لا تفهمني خطأ. لم أقصد التعرّض لقسمك.”
“لا تقلق، لم أُسيء الفهم يا سيادة المدير.”
“هاها! كما توقّعت منك، بروفيسور جانغ…”
“فقد قلت الحق. نحن جزارون بالفعل. عملنا اليومي أن نشقّ الصدور وسط الدماء والدموع… هذه هي مهنتنا.”
كان صوت الأستاذ جانغ هادئًا إلى أقصى حد، يخلو من أي انفعال. غير أنّ أجواء قاعة الاجتماع كانت أشبه بزجاجٍ رقيق، يكفي أن يُلمَس بأطراف الأصابع حتى ينكسر بفرقعةٍ حادّة.
فالذي عُرِف عنه بلين الطبع ورقّة المعشر، وبأنه يحسن التعامل مع الجميع رغم حِدّة ملامحه، إذا ما غضب وأظهر استياءه، فلن يجرؤ أحد على مقاطعته أو مجابهته.
فلماذا إذن تجرّأ أحدهم على استفزاز الأستاذ جانغ الهادئ؟
وهكذا، انصبّت أنظار الحاضرين كلّها باللوم على مدير مركز العيون، الذي لم يملك إلا أن يمسح عرق وجهه المتورّد المتقلب الألوان بمنديل وهو يسعل مصطنعًا.
في تلك اللحظة، مدّت جونها يديها خفية لتوكز إين-هو ودان-آه الجالسين إلى جانبيها، ثم رفعت إبهاميها إلى الأعلى في إشارةٍ واضحة: النصر كان من نصيب الأستاذ جانغ.
ولم يكن ذلك سوى خبرٍ سارّ لهم جميعًا.
✦✦✦
“لحسن الحظ يا رئيس الأطباء، أن الأمر انتهى عند هذا الحد… لقد كان ذلك حسنًا للغاية.”
قال الأستاذ هوانغ جون-بوم بصدق، وقد ارتسم على وجهه ارتياحٌ عميق. حين بلغه الخبر لأول مرة، كاد أن يسقط مغشيًّا عليه وهو يمسك مؤخرة عنقه.
اعتداء جسدي؟
ضربُ مريض؟!
والأدهى أنّ ذلك المريض لم يكن أيّ شخص، بل الابن الثاني لرئيس مجموعة جين-سونغ العملاقة.
صحيح أنّ البلاد لم تعُد تعيش في عصرٍ يُقسَّم فيه الناس بالمراتب الطبقية كزمن الممالك القديمة، لكن الحقيقة أنّ “المراتب” ما زالت قائمة بوجهٍ آخر؛ في ثروةٍ أو سُلطة، في نفوذٍ أو جاه.
ولذلك، أن يزور وريث مجموعة جين-سونغ غرفة الطوارئ ثم يخرج منها مصدومًا بلكمة من طبيب… فذلك كارثة كبرى للمستشفى، ونذير شؤم لا مثيل له.
‘كنتُ أظن أنّهم قد يُفصلون نهائيًا…‘
لقد قضى الأستاذ هوانغ الليل بطوله دون أن يغمض له جفن، يتخيل كيف يمكن أن يُطرَد ثلاثة من أحبّ تلامذته دفعةً واحدة. حتى في عيادته صباح اليوم، لم يتذكّر كيف عالج مرضاه لانشغاله البالغ بما ستؤول إليه لجنة التأديب.
لكن النتيجة جاءت أخفّ مما توقع: عقوبة الحسم من الراتب.
أما المطالبة بالعزل أو الفصل التي تشبّث بها مدير مركز العيون، فقد تصدّى لها الأستاذ جانغ كي-هون بجدارٍ من ثباته ووجاهته، ليحول دون وقوع الكارثة.
‘عليّ أن أدعوه يومًا إلى مأدبةٍ عامرة… لا، بل عشر موائد إن اقتضى الأمر، فماذا تساوي وليمة أمام ما صنعه اليوم؟‘
مسح الأستاذ هوانغ عينيه المبللتين وهو يعيد نظارته إلى موضعها، وابتسامة عريضة لا تفارقه. لقد أرهقته الأحداث وأتعبت قلبه، لكن دموعه هذه المرة دموع فرح وامتنان.
“صحيح أنّ أبناءنا الأطباء سيشعرون بالضيق من عقوبة الحسم هذه… لكن فليتأملوا كم كان الأمر قد ينقلب إلى الأسوأ. لقد انتهى هنا، فليحمدوا الرب على ذلك.”
“بالتأكيد يا أستاذ، نشكرك جزيل الشكر على عنايتك… ونعتذر بصدق عمّا سبّبناه من قلق.”
“نعم، نعتذر.”
“……نعتذر.”
انحنى إين-هو أولًا ثم تبعته دان-آه وجونها بانحناءة خجولة. عندها ابتسم الأستاذ هوانغ مرة أخرى ومضى في طريقه، وكرشه المترهّل يتمايل كأنه يرقص على نغمة سروره.
لكن إن كان هناك مَن أُثقل صدره باليأس في هذه اللحظة، فهو شخص واحد فقط.
“آآآخ! لاااا، هذا لا يُحتمل! لماذا لم يصدروا قرارًا بإيقافي مؤقتًا وحسب؟ أو يجعلوني أشارك في عملٍ تطوعي بلا أجر؟! لكن أن يمنعوني من أخذ إجازة مئة يوم؟! يا للكارثة!”
فما إن ابتعد الأستاذ هوانغ عنهم قليلًا، حتى شرعت جونها تشدّ شعرها وتصرخ بالجزع.
صحيح أنّ الثلاثة تلقّوا العقوبة ذاتها (الحسم من الراتب)، لكن جونها وحدها فُرضت عليها عقوبة إضافية من قسم طب الطوارئ: منع الإجازات لمئة يوم.
“تِس، ألم أقل لكِ أن لا تلوّحي بقبضتكِ؟”
غمغم إين-هو وهو يضغط لسانه غيظًا، في حين انفجرت جونها بالاحتجاج وقد كفّت عن شدّ شعرها لتشير إليه بإصبعها صارخة.
التعليقات لهذا الفصل " 33"