ما إن رفع مين-جون الهاتف حتى دوّى صوت أبيه الغاضب عبر السماعة، يهزّ أذنيه كما لو كان صاعقة. أطبق بيده على صدغيه، محاولًا أن يبتلع تنهيدة أثقل صدره.
لم يكن الصداع من صياح والده أو من توبيخه، بل من الكلمات التي يعلم أنّها ستتبع هذا الصخب. فما كان والده ليتصل لمجرّد أن يعاتبه على انقطاع الاتصال؛ لم تكن بينهما علاقة ودّية تسمح بمثل هذا الحرص.
ــ “لقد رتّبت عشاءً مع رئيس صحيفة هانكيونغ، فارغ وقتك هذا المساء مهما كان الأمر. تفاصيل الموعد سيبلغك بها السكرتير.”
لم يخب حدسه. فما إن انتهى من صراخه حتى أبان الأب عن الغاية: لقاء العشاء. أدقّ من ذلك، لم يكن المقصود الرئيس نفسه، بل ابنته.
قال مين-جون بهدوءٍ جامد: “أعتذر يا رئيس، لديّ شأن خاص هذا المساء، ولن أستطيع الحضور.”
ــ “شأن خاص؟! راجعت جدولك بنفسي فلا تحاول أن تتحجج!”
انعقد جبينه ضيقًا، وقد نفد صبره من تعنّت والده. مرّر أصابعه في شعره المرتّب بعناية، ثم قال بلهجة قاطعة:
“لستُ بصدد اختلاق أعذار، يا رئيس. أصرّح لك بوضوح: لن أحضر هذا المساء. بل ولن أحضر أيّ لقاءٍ مشابه تدبّره بهذه الطريقة.”
ــ “ماذا قلت؟! ما الذي لا يرضيك؟ أعرض عليك امرأة مناسبة فترفض دون حتى أن تنظر إليها! إذن أحضر أنت من تراها أهلاً وأرِني إياها بعيني هاتين!”
كان طلبه مجرّد تعسّف أبويّ. غير أنّ المفاجأة أنّ قلب مين-جون ارتجف لحظةً، فقد خطرت على ذهنه صورة امرأة واحدة، رغماً عنه.
ــ “ما بالك صامتًا؟ أتعتبر كلام أبيك لا يستحقّ جوابًا؟!”
انفجر الأب صراخًا، ظنّ أن صمت ابنه تجاهل وازدراء. فمسح مين-جون وجهه بكفّه، وهزّ رأسه بتثاقل.
“ليس الأمر كذلك… على أي حال، عليّ أن أستعدّ للعمل. سأغلق الخط الآن، يا رئيس.”
لم يكد يُتمّ جملته حتى دوّى صراخ والده مجددًا في أذنه، لكنه أغلق الهاتف بلا اكتراث، وظلّ محدّقًا في صورته بالمرآة.
كانت دقائق معدودة، لكنها استنزفت طاقته بأكملها. ضغط على صدغه المتألّم وهو يزفر تنهيدة أخرى، وإذا بالهاتف يرنّ من جديد. لم يشك لحظة في أنّ والده عاد ليصبّ غضبه.
أجاب بانفعال دون أن ينظر إلى الشاشة:
“يا رئيس، لقد قلت لك بوضوح إنني…”
ــ “آه؟ عفواً، أهذا هاتف السيّد كُوون مين-جون؟”
تجمّد، فقد جاءه صوتٌ آخر غير متوقّع. كان صوت تشاي دان-آه، لطيفًا، متردّدًا. فارتسم على وجهه أثر من ارتياحٍ مفاجئ.
“آه… آنسة دان-آه.”
ــ “ما هذا؟ أخفتني!”
ضحكت بخفوت، كأنها تهمس سرًّا بعيدًا عن الآخرين.
“ألستِ في وضعٍ لا يسمح لك بالحديث الآن؟”
ــ “هاه؟ كيف عرفت؟! أتراني أمامك؟ لا تقل إنك جئت إلى المستشفى؟”
ارتسم في ذهنه صورتها بعينيها الواسعتين وهي تميل برأسها فضولًا.
“مستحيل، أنا في طريقي للاستعداد للعمل.”
ــ “أيمكنني أن أصدقك؟”
“بالطبع. أما زلتِ تعتبرينني مراوغًا؟”
ــ “أتعجبني الثقة! لا تنسَ أنك كذبت مرّة من قبل… قلت إنك عدت للبيت بينما لم تكن كذلك.”
ابتسم بخفوت، مدركًا أنّها تشير إلى ما جرى في شركة غوسان للأدوية.
“لكنّ تلك الكذبة أنقذتكِ من موقفٍ صعب، أليس كذلك؟”
ــ “وهل أنكرتُ؟!… لكن، بحقّ، أنت لست هنا، صحيح؟”
كانت كلماتها بالكاد تُسمع. في تلك اللحظة، سمع مين-جون صوت لوحة المفاتيح تُضغط عند باب الشقّة، ثم دخل سكرتيره.
عضّت دان آه على طرف لسانها وهي تُسرع في إدخال الرسالة. كان قلبها يضطرب من النداء الذي استوقفها، فانهمرت الأخطاء الإملائية بلا حساب، ولم يكن لديها متسعٌ من الوقت لتصحيحها.
‘لو أنكِ اكتفيتِ بذكر الغرض باختصار في المكالمة، يا تشاي دان آه! ما الداعي أصلًا لإثارة موضوع لجنة التأديب؟!’
كان السبب الحقيقي لاتصالها بمين-جون هو تقرير المراقبة الصباحية الذي أرسله إليها. فقد ظهر أنّ حرارته أعلى بقليل من المعتاد، مما استوجب منها الانتباه والتحقق.
غير أنّها لم تذكر غايتها أصلًا، بل شغلت نفسها بحديثٍ لا صلة له بالأمر، ثم أغلقت الخطّ على عجل، حتى بدت المسألة في نظرها نفسها مثيرةً للسخرية.
وزاد الطين بِلّة أنّ الرسالة النصية خرجت مشوّهة بالأخطاء.
فكّرت في وجهه لحظةَ قراءته تلك الرسالة المرتبكة، واستطاعت أن تتخيّل بوضوح ملامحه المندهشة. شعرت دان آه بحرارةٍ تفور في وجهها حتى صار يتّقد، فأخذت تلوّح بيديها كأنها تُروّح عن نفسها ثم أسرعت عائدةً إلى مقعدها.
هناك، عند الممرّ أمام قاعة اجتماعات الأساتذة، كانت جون-ها جالسة على الكرسيّ المخصّص للانتظار، وما إن عادت حتى غرزت مرفقها في خاصرتها كأنّها كانت تترصد اللحظة، وقالت مازحة:
“لديكِ شجاعة يا تشاي دان آه. في خضمّ كل هذا تجدين وقتًا للاتصال وإرسال الرسائل أيضًا. أخبريني بصراحة… هل هو حبيبكِ؟”
ارتبكت دان آه وهي تُعدّل ثوبها الأبيض المجعّد، ثم جلست إلى جانبها وقد اتسعت عيناها دهشة وهزّت رأسها بسرعة.
“حبيب؟! لا… لا أبدًا، ليس الأمر كذلك.”
“ليس الأمر كذلك، أبدًا؟ هه، ومن تظنين أنّكِ تخدعين؟ واضح كالشمس أنّك كنتِ تتحدثين مع حبيب. يا آنسة تشاي دان آه، فكّري على الأقل في وجهكِ المحمّر هذا… ما الذي ستفعلينه به؟”
قالت جون-ها ذلك متعمدة أن تخرج صوتها بنبرةٍ طفولية ساخرة. وضعت دان آه كفّيها على وجنتيها في فزع، تتساءل في داخلها هل احمرّ وجهها فعلًا كما تقول؟
التعليقات لهذا الفصل " 32"