“كنتُ أظن أنّ ظهور النتائج سيُنهي كل شيء… فالسبب واضح وضوح الشمس: الدواء هو العِلّة، وأي طبيبٍ يملك ذرة ضمير كان سيُبادر، بديهةً، إلى وقف وصفه للمرضى. لكن…”
خفضت “دان آه” رأسها حتى كادت ذقنها تلامس صدرها، وأخذت تهمس كأنها تُعاتب نفسها. أما “مين-جون” فظلّ يتأملها بصمت.
لقد كان إيمانها ساذجًا. هو لم يظنها ساذجة قط، خاصّة وهي التي اقتربت منه بخطوات محسوبة. ومع ذلك، ففي هذا الجانب كانت أنقى مما يحتمله واقعهم القاسي.
ربما لأن قلبها، حين يتعلق الأمر بالمرضى، لا يعرف إلا الصدق الخالص.
تذكّر يومًا رآها تجرّ سرير مريض راكضَةً به إلى قاعة الطوارئ، وعاد المشهد حيًا في ذهنه. وما إن خطرت به الذكرى حتى انفتح فمه بلا وعي:
“هل أساعدكِ؟”
رفعت رأسها فجأة: “…عذرًا؟”
“أقصد… أظن أن هناك ما يمكنني أن أساعدكِ فيه.”
لم يكن الدواء من ضمن المنتجات التي تتعامل بها شركته “تاي يونغ للتجارة”، لكن مجرد كونه في هذا المضمار يكفي لأن يمد يد العون. كانت تحدّق فيه بعينين متسعتين كعيني أرنب مذعور، بينما يتابع حديثه بنبرة جازمة.
* * * ـ “الدواء الذي طلبت الاستقصاء عنه تحتكر ترويجه وتوزيعه شركة (كوسانغ فارما). حصل على موافقة هيئة الغذاء والدواء في يوليو العام الماضي، وبدأ طرحه بداية هذا العام خارج مظلة التأمين. ولأن فاعليته تفوق الأدوية السابقة كثيرًا، فقد سارعت معظم المستشفيات إلى وصفه لمرضاها.”
كانت التعليمات قد صدرت متأخرة ليلة الأمس، لكن سكرتيره الخاص قدّم تقريره المفصّل مع أول صباح. وبينما كان “مين-جون” يتهيأ للذهاب إلى الفحوصات، استأذن من الممرضة ليستكمل المكالمة.
“ألم تُسجّل أي مشكلات تتعلق بالدواء في الآونة الأخيرة؟”
ـ “رسميًّا، لا. لكن…”
“لكن ماذا؟”
ـ “في الآونة الأخيرة بدأ بعض مرضى (التهاب العنبية) يتذمرون. في البداية سارت الأمور على ما يرام، لكن بعد فترة ظهرت على أجسادهم بثور وتقرحات حمراء ملتهبة. غير أنّ معظمهم اعتقد أن الأمر طبيعي، وأنه مجرّد أثرٍ جانبي لقوة الدواء.”
نقر “مين-جون” بلسانه ضجرًا، لتطفو على ذاكرته كلمات “دان آه” التي قالتها بالأمس:
ـ “ليست مجرد مشكلات جلدية عابرة. إنه (التنخر البشروي السام – TEN). المرض يتفجّر خلال ساعات، فتتساقط طبقات الجلد وتتعفن الأغشية المخاطية في أنحاء الجسد، ليفتح الباب أمام تعفن الدم… ونسبة الوفيات فيه مرعبة.”
تذكّر بوضوح ملامحها آنذاك؛ غارقة في إحساس خانق بالذنب.
لكن أي ذنبٍ لها؟ هي لم تصرف تلك الوصفة المشؤومة، ولم تكن سببًا في إصابة أي مريض. ومع ذلك، ظلّت روحها مثقلة باللوم، كأنها هي من حمل الوزر. وقد رأى “مين-جون” ذلك جليًا، حتى وإن لم تنطق به.
‘أهو شعور الطبيب الحقيقي بمسؤوليته؟‘
مفارقة مؤلمة: أولئك الذين كانوا يباشرون علاج المرضى رفضوا حتى الإصغاء لها، أما هي التي لم تكن مسؤولة مباشرة، فقد كادت تنهار تحت ثقل الضمير.
“وماذا عن الشركة الأم في الولايات المتحدة؟ ألا علم لهم بهذا؟”
ـ “بحسب تقديرنا الحالي، لا. فباستثناء المرضى المحليين، لم تُسجّل أي حالات مشابهة في الخارج.”
سكت “مين-جون” قليلًا، ثم أسند إصبعيه إلى صدغيه وهو يحدّق عبر النافذة. إن كان الضرر محصورًا بالمرضى المحليين، فالخلل إذن ليس في التصنيع ذاته.
“إذن هو انحراف عن معايير GMP (ممارسات التصنيع الجيد) أثناء مراحل التوزيع.”
حتى أصغر الأخطاء في التصنيع أو التوزيع قد تشوّه جودة الدواء، ولهذا وُضعت هذه المعايير الصارمة. لكن “كوسانغ فارما” لم تُقصّر في الرقابة وحسب، بل تجاهلت كذلك تنفيذ إجراءات CAPA (التصحيح والوقاية) في وقتها.
خفض صوته وهو يُدير رأسه نحو باب الغرفة حيث تقف الممرضة:
“ابحث أكثر يا جونغ. تحقّق مما إذا كانت (كوسانغ) قدّمت رشاوى غير قانونية للأطباء… ولا تستثنِ مركز العيون في مستشفى كوريا.”
وفي داخله، استعاد صورة مدير المركز الذي صرخ في وجه “دان آه” بوقاحة، وازدرت ملامحه ابتسامة باردة.
“أين الطبيبة (تشا دان آه)؟!” في لحظةٍ كان قسم الطوارئ يغطّ في هدوءٍ نادر، إذ قلّ توافد المرضى، شقَّ صراخ مدير مركز العيون سكون المكان، فدخل بعاصفة من الغضب. ارتجف كلٌّ من “جونها” و”تشانغ هون” وهما يرتّبان الملفات، وقد فوجئا بقدومه المفاجئ.
“أين الطبيبة تشا دان آه؟! قلت لكم، أين هي؟!”
كان وجهه يتلوّن بين الحمرة والزرقة، وعيناه تقدحان شررًا. تجمّد الجميع في أماكنهم، لا يعرفون كيف يردّون. عندها نهضت “جونها” مترددة، محاولة امتصاص الموقف.
“سيدي… الطبيبة دان آه في إجازة اليوم.”
“ماذا؟ إجازة؟!”
قطّب المدير جبينه بقوة، ثم أمر بحدة:
“اتصلوا بها فورًا! لابد أنها داخل المستشفى! اجعلوها تأتي حالًا!”
تردّدت “جونها”، فبادر “تشانغ هون” موضحًا بحذر:
“في الحقيقة… الطبيبة خرجت، ولن تتمكّن من العودة مباشرة.”
التفت المدير نحوه، وقد ازداد وجهه قتامة:
“خرجت؟ أي مقيمٍ يجرؤ على الخروج في وقت كهذا! لتعد خلال عشر دقائق وإلا…!”
تمتم “تشانغ هون” بغير قصد: “لكن… كيف نطلب منها العودة في عشر دقائق ونحن لا نعلم حتى مكانها…”
كاد يكمل، لولا أن “جونها” سارعت تلكزه في خاصرته حتى يصمت. غير أنّ الأوان كان قد فات؛ فقد وصلت الكلمات كاملة إلى مسامع المدير، فاشتعل وجهه غضبًا.
كان الموقف على وشك الانفجار، لولا أن انطلق صوتٌ جهوريٌّ مرحٌ من خلفه:
“هاهاها! ما هذا الشرف العظيم الذي أتى بمدير مركز العيون إلى قسمنا المتواضع؟!”
التفت الجميع، فإذا هو البروفيسور “هوانغ جون بوم”، أستاذ طب الطوارئ، يتقدّم بخطواتٍ ثقيلة، وبطنه الكبير يهتز مع كل حركة.
ارتسمت على وجوه الأطباء المقيمين ابتسامة ارتياح، فقد كان مجيء “هوانغ” كخلاص غير متوقّع. غير أن وجود “إن-هو” خلفه –الطبيب المسؤول عنهم– أعاد لهم بعض التوتر.
بادر مدير المركز قائلًا: “بروفيسور هوانغ، تخيّل! طلبتُ منهم استدعاء الطبيبة دان آه، فإذا بهم يحتجون بأنها في إجازة، بل ويقولون إنها خرجت! هل يعقل هذا؟ مقيمٌ يخرج هكذا؟”
أدار “هوانغ” رأسه نحو “إن-هو”، وسأله مبتسمًا: “دان آه في الخارج اليوم أيضًا؟”
ارتبك “إن-هو”، لكنه أجاب بعد أن رمق المقيمين بنظرة صارمة: “نعم… يبدو كذلك.”
ابتسم “هوانغ” ابتسامة واسعة، وعدّل نظارته التي انزلقت على أنفه: “إذن، لا عجب. الإجازة حق مشروع، وكيف يقضيها صاحبها شأن يخصه وحده.”
كان صوته هادئًا لكن كلماته حادّة كالسيوف. من خلف النظارة السميكة، ضاقت عيناه الصغيرتان وكأنهما خطّان مقوّسان يلمعان بالتهكم.
“أترى؟ هذا هراء! مقيم يخرج متى شاء؟!”
“وأي هراء في ذلك؟” أجابه “هوانغ” وهو لا يمسح ابتسامته: “الإجازة وُجدت ليستريح صاحبها، لا ليُستدعى كلما خطر لأحدهم نداء.”
كان واضحًا للجميع أنّ البروفيسور يستمتع بالمشهد. لم يكن خافيًا على أحد أنّ بينه وبين مدير المركز عداوة قديمة. كم من مرةٍ سخر المدير من قسم الطوارئ، وكم عانى “هوانغ” غصص الإهانة في صمت.
ها هو الآن يجد الفرصة للردّ، فراح الأطباء المقيمون والممرضون في الطوارئ يهتفون سرًا في قلوبهم: “هيّا بروفيسور! لقّنْه درسًا! انتصر!”
وبالفعل… بعد أخذٍ وردّ، اضطر مدير المركز أن يلوذ بالانسحاب، لكن ليس قبل أن يترك خلفه كلماتٍ لاذعة يحاول بها حفظ ماء وجهه:
“أخبروها أن تأتي إليّ فور عودتها! آه… هكذا إذن! كيف يُرتجى من قسمٍ كقسم الطوارئ أن يكون جادًّا أصلًا…!”
ثم مضى غاضبًا.
* * * في تلك الأثناء، كانت “دان آه” تتأمل رسالة وصلتها من “جونها”:
[لا تكترثي! حتى لو صرخ بكِ مدير المركز، تجاهليه، تجاهليه تمامًا!]
ابتسمت رغماً عنها، ومسحت على جسر أنفها بخفة.
“لا بد أنهم عانوا بسببي كثيرًا… ربما عليّ أن أعود ومعي بعض الهدايا. أشتري مثلاً تلك الفطائر المحشوة بالفاصوليا الحمراء التي يحبها البروفيسور.”
مرّت أيام قليلة منذ أثارت ضجّة في القسم بأكمله. ورغم أنّ “هوانغ جون بوم” ولا حتى “إن-هو” حاولوا التحقيق معها أو لومها مباشرة، إلا أنهم بالتأكيد قد أدركوا بعض الحقيقة. ومع ذلك، وقفوا إلى جانبها.
أغلقت هاتفها، ثم رفعت بصرها إلى المبنى أمامها، وهمست بحزم:
“لهذا… عليّ أن أُثبت نفسي أكثر.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 25"